في القطاع العام وقطاع التغيير الاجتماعي، يمتلك العديد من المؤسسات غير الربحية والمؤسسات والناشطين ومحترفي التواصل مجموعة تقليدية من أساليب الإقناع التي يسخرونها لمخاطبة أصحاب المصالح والجماهير الذين يمكنهم دفع عجلة التغيير في القضايا التي تهمهم.
تسخّر إحدى الأدوات الرئيسية من هذه المجموعة الحقائق والبيانات لبناء الحجج وإبلاغ القصص التي تدعم القضية، وهذا تفكير ذكي، إذ يخبرنا العلم أن القصص أساسية لتوليد التعاطف مع الأشخاص الأكثر تأثراً بقضية ما. لكن مع دخولنا إلى ما يراه الكثيرون عالماً يتجاوز الحقائق تغلب فيه العاطفة والمعتقدات الشخصية على الحقائق المنطقية في تشكيل الرأي العام، قد لا تكون هذه الأساليب المتبعة عادة كافية؛ فقد زاد انقسام الناس في رؤيتهم للعالم لذا أصبح من المهم الآن أكثر من أي وقت مضى أن تخاطب مؤسسات القطاع الاجتماعي الأشخاص الذين لديهم رؤية خاصة للعالم. وبما أن وجهات النظر هذه تميل إلى مقاومة التغيير، فقد حان الوقت لتحديث مجموعة أساليب الإقناع باستخدام أرفع العلوم السلوكية والاجتماعية والإدراكية.
يؤمن كل إنسان بمجموعة من المعتقدات الجوهرية تؤثر في نظرته لنفسه وفهمه لموقعه من العالم، وتحديد الصواب والخطأ. هذه معتقدات مكتسَبة اجتماعياً من مجتمعاتنا المختلفة، مثل العائلة والأصدقاء والزملاء والانتماءات الدينية والأحزاب السياسية. على سبيل المثال، قد يبدي البعض التزاماً راسخاً بالسوق الحرة أو الأيديولوجية العصامية، أو يعدّون أنفسهم مناصرين يناضلون لتحقيق العدالة من خلال الاستثمار في البرامج الاجتماعية. تصوغ هذه المعتقدات الجوهرية طريقة رؤية الناس للعالم وتأويلهم له.
وعلى نحو مماثل، احترفنا تجاهل أي معلومات جديدة تخالف معتقداتنا لأنها تهدد ارؤيتنا للعالم، لذا من المرجّح أن ينفر البعض من الاستراتيجية القديمة المتعلقة بتعليم الناس صنع التغيير ويتخذوا موقفاً دفاعياً ما لم تُقدّم لهم هذه الاستراتيجية بطريقة لا تتحدى معتقداتهم الجوهرية.
بصفتنا باحثين ندرس علم التغيير الاجتماعي، نقدّم بعض الاقتراحات لمؤسسات القطاع الاجتماعي تساعدها في تجاوز هذه العقبات.
لا تكتفِ بعرض الحقائق
يُعَدّ جمع الحقائق والإحصائيات للتعرف على المشكلة المطروحة نقطة منطقية بما يكفي لتحريك الناس. وفي الواقع، يمكن أن يسهم التعليم في تحفيز الناس على التعامل مع المشكلات التي لم تحظَ بتغطية إعلامية كافية، خاصة عند وجود إجماع عام على الحلول التي لا تمسّ المعتقدات الجوهرية لأي إنسان.
لكن المعتقدات المبنية على دوافع أيديولوجية تكون غالباً مقاومة للتغيير الناتج عن الحقائق والأرقام الجديدة، تشير الأبحاث في مجال الإدراك الثقافي إلى أننا نفرز فهمنا للمخاطر واحتمالية الضرر من خلال معتقداتنا الجوهرية. مثلاً، هل تغير المناخ خطير؟ أو هل تحافظ ملكية الأسلحة على سلامتنا؟ من الناحية النفسية، يقلِّل الناس تلقائياً من حجم المخاطر إذا كان ذلك يساعدهم على التشكيك في المعلومات الجديدة التي تهدد معتقداتهم الجوهرية.
لنأخذ العنف المسلح في الولايات المتحدة مثلاً؛ يُقتَل نحو 33 ألف شخص سنوياً بالأسلحة النارية، أي ما يعادل عدد القتلى في حوادث السيارات، لكن الأرقام وحدها لن تحوّل مؤيّداً قديماً للتعديل الثاني للدستور الأميركي (الذي سمح للمواطنين بحيازة السلاح) إلى مؤيّد لفرض الرقابة على استخدام الأسلحة. في دراسة أجراها كلّ من الأستاذ المشارك لمادة القانون في جامعة جورج واشنطن، دونالد برامان، وأستاذ كرسي إليزابيث دولارد لمادة القانون في كلية الحقوق بجامعة ييل، دان كاهان، أثبت الباحثان أن الحجج القائمة على الأدلة التي تقول إن فرض الرقابة على استخدام الأسلحة يعزز السلامة العامة فاشلة حتماً، لأنها لا تستفيد من المعاني الرمزية التي ترتبط بالأسلحة لدى مناصريها.
تمثِّل الأسلحة (بالنسبة للبعض على الأقل) رموزاً للحرية و الاعتماد على النفس، وربطها بهذه المفاهيم يجعل معارضة فرض الرقابة على الأسلحة متسقة مع التوجّه الفردي. وبينما يرى معارضو الرقابة على الأسلحة أن السلاح هو احتفال بالاكتفاء الذاتي الفردي، يراه المناصرون تشويهاً للتضامن؛ فالأسلحة تتساوى غالباً مع شخص يبدي ذكورة مفرطة أو مفتول العضلات يستاء منه كثير من الأفراد، ذكوراً وإناثاً.
بصيغة أخرى، الجدال حول حيازة الأسلحة مقدّر له أن يبقى على حاله ما استمر من ينشرون أدلتهم العملية في تجاهل المعنى الرمزي للأسلحة بالنسبة للعديد من الأميركيين.
اقرأ أيضاً: استراتيجية التأثير الأقوى تترك أثراً أعمق
قارب بين آرائك وآراء الناس بسرد القصص
إحدى الاستراتيجيات التي تحظى باهتمام متزايد هي استغلال القصص لتجاوز إصرار الدماغ على فصل الحقائق عن الآراء، لكن علينا انتقاء النوع المناسب من القصص لسردها، فلا بُدَّ أن يتردّد صداها كي يكون لها تأثير على جمهورها. تشير الأبحاث إلى أن الناس يتجاوبون أكثر مع القصص التي تتألف من موضوعات ومشاهد قصصية مألوفة، ويرجّح أن يتفاعلوا مع القصة التي تماثل شيئاً سمعوه أو رأوه من قبل. ويجب أن تسلّط القصص الضوء على معتقدات الجمهور الجوهرية المقاومة للتغيير، وتوضّح أن هذه المعتقدات لا تزال متوافقة مع السبل الجديدة لرؤية المشكلة.
على سبيل المثال، لفت المؤيدون لمنح الجميع الحق في الاقتراع الانتباه إلى حملاتهم وكسبوا الدعم لقضيتهم من خلال المسيرات والمواكب، وأثبتت فعالياتهم العامة الحسنة التنظيم لمعارضي منح حق الاقتراع بأن النساء يتمتعن بكفاءة سياسية خلافاً للاعتقاد السائد. كما استخدموا قصة جان دارك (Joan of Arc) المعروفة لإبراز براعة المرأة السياسية إضافة إلى جمالها وشخصيتها، إذ صورت هذه الرواية النساء أطرافاً سياسية فاعلة على نحو لا يشكل تهديداً مباشراً لوجهات النظر الشائعة بأن المرأة هي الطرف الأرقّ والأكثر استقامة.
تجنّب رفض الحلول
لا شك في أن تغيير أسلوب طرح المشكلات ليس سوى نصف المعركة، إذ تشير الأبحاث إلى أن الإنسان يستخفّ بالمشكلات حين لا تعجبه الحلول المقترحة، خاصة إذا كان الحل هو تغيير معتقداته أو سلوكه.
لنفكر في تغير المناخ، تركّز الأيديولوجية المحافِظة بشدة على حلول السوق الحرة، وتشكك في الأنظمة الحكومية. مثلاً، تمثلت معظم الحلول المقترَحة للتعامل مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتزايدة في القوانين، وهي لعنة على المحافِظين، لذا كان الأسهل عليهم من الناحية النفسية إنكار مشكلة تغير المناخ بدلاً من إعادة النظر في موقفهم من تلك القوانين. إذاً أعد صياغة طرح مشكلة تغير المناخ للتركيز على الحلول القائمة على السوق، فتقلِّل التشكيك.
حتى الحلول التي تبدو غير سياسية يمكن أن تدفع الناس إلى رفض المعلومات الجديدة، ويمكننا أن نؤكد ذلك بصفتنا مناصرين للصحة العامة والبيئة يدعون إلى تخفيض استهلاك اللحوم الحمراء، إذ يشكّل تناول كميات أقل من اللحوم حلاً مباشراً للعديد من المشاكل. نظرياً، لا يتّسم هذا الحل بطابع سياسي، لكن استهلاك اللحوم مرتبط بأعراف ثقافية ونفسية متجذّرة. فمثلاً في المجتمع الأميركي، ترتبط اللحوم ارتباطاً وثيقاً بالرجولة، ويُربَط استهلاكها غالباً بالرجال، لذا فإن نصح الرجال بتناول كميات أقل من اللحوم يمكن أن يُشعِرهم بأنه هجوم على ما يجسّد رجولتهم، وسيقاومونه. قد لا يعارض الرجال التعرف على المشكلة، إلا أن الحل مؤلم بالنسبة للكثيرين.
تعني مقاومة حلول معينة أن بعض المشكلات قد تتطلب عدّة رسائل وعدّة حلول محتَملة، يستهدف كل منها فئة مختلفة ويراعي نقاط الاختلاف والمعتقدات الجوهرية على اختلافها. كما يعني ذلك أنه على العاملين في القطاع العام وقطاع التغيير الاجتماعي أن يفهموا ما يقدِّره جمهورهم عند صياغة الحلول.
على سبيل المثال، بحثت إحدى الدراسات في حملات الرسائل التي تشجّع القرويين على الإقلاع عن التدخين، ووجدت أن العديد من الأساليب الأكثر شيوعاً أتت بنتائج عكسية، مثل إخبار المدخنين بأنهم يؤذون من حولهم وتوضيح أن سياسات منع التدخين تنقذ حياة الناس، لأنهم شعروا أنهم يتعرضون لهجوم شخصي فاتخذوا موقفاً دفاعياً. وجد الباحثون أن الرسائل المناهِضة للتدخين التي تتضمّن اقتباسات من الكتاب المقدس تلامس القيم الروحية للعديد من المدخنين القرويين لاقت قبولاً أكبر.
استفد من الأدوات الجديدة
أصبحت مخاطَبة معتقدات الناس الجوهرية أداة أهم الآن من أي وقت مضى، وتوجد بعض الموارد والأمثلة القيّمة المتاحة لمن يتطلَّعون إلى إدراج العلوم السلوكية والاجتماعية والمعرفية في مساعيهم لإيصال الرسائل. أصدرت رئيسة شركة سبتفاير استراتيجيز (Spitfire Strategies)، كريستين غريم، تقريراً بعنوان المراسلة الواعية بينت فيه كيف يمكن للمسؤولين عن التواصل الاستفادة من رؤية العلوم السلوكية عن القيم ووجهات النظر العالمية والهوية في رسائلهم. كما توجد مجموعات مثل مؤسستنا، فرانك (frank)، ومؤسسة فريم ووركس (Frameworks)، ووكالة نيماند كولابوراتيف (Neimand Collaborative)، تبحث في القضايا الاجتماعية وقيم مختلَف أصحاب المصلحة، ثم تستخدم نواتج الأبحاث في صياغة رسائل مقنِعة تربط القضايا بتلك القيم.
نظراً لطبيعة البيئة السياسية السائدة، لم تعد صحة الحقائق المدرجة في الرسائل والحملات كافية، فصنع التغيير يقتضي أن تكون الرسائل مناسبة من الناحية النفسية أيضاً. يجب على مؤسسات القطاع الاجتماعي أن تأخذ في اعتبارها أنه يمكن لمعتقدات الجمهور الجوهرية إحباط مساعيها في الإقناع بأكثر من طريقة، وستكون المؤسسات مهيّئة أكثر لدفع عجلة التغيير في القضايا العالقة لأسباب عقائدية أو سياسية من خلال تجاوز ذكر الحقائق واعتماد أسلوب سرد القصص بذكاء، وصياغة الحلول التي لا تُلزِم الجمهور بالتنازل عن قيمهم.
اقرأ أيضاً: التأثير الجمعي واسع النطاق يتطلب تنسيقاً بين القطاعات
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.