يعاني 828 مليون شخص من الحرمان الغذائي، وهو رقم مرشح للارتفاع مع التوقعات بوصول عدد سكان العالم إلى 9.77 مليار نسمة بحلول 2050. وفي الوقت الذي يُهدر ويفقد فيه 1.3 مليار طن من الغذاء سنوياً؛ ما يزال واحد من كل تسعة أشخاص تحت وطأة الجوع، ما يتسبب بضغوط متزايدة على سلاسل قيمة الغذاء العالمية.
لكن حلّ مثل هذه المشاكل المعقدة يتطلب مشاركة العديد من المساهمين لتحقيق التأثير الجمعي، وهنا، يبرز دور الحكومات في تسهيل التعاون بين القطاعات المختلفة لحل مشاكل هدر وفقد الغذاء، وإصدار التشريعات ووضع المبادرات وتسريع عجلة التنفيذ والتغيير، ورفع مستوى وعي الأفراد والشركات بهذه المشكلات.
وعلى مستوى دول الخليج؛ برزت قضية هدر الغذاء في الأجندة الوطنية للمملكة العربية السعودية والإمارات وقطر، ونُفذت مبادرات مهمة في هذا الإطار. لكن لماذا تتخذ هذه القضية بُعداً مختلفاً في دول مجلس التعاون الخليجي؟ وما المسارات المستقبلية التي يجب على دول المنطقة اعتمادها؟
الخليج أكثر عُرضة لهدر الغذاء
بحسب تقرير فقد وهدر الغذاء: الحلول المطروحة أمام دول مجلس التعاون الخليجي إزاء هذا التحدي العالمي، الصادر عن القمة العالمية للحكومات بالتعاون مع شركة الاستشارات العالمية أوليفر وايمان (Oliver Wyman)، هناك عوامل اقتصادية واجتماعية وبيئية تجعل دول الخليج أكثر عُرضة لفقد وهدر الغذاء، وتفرض عليها تحديات إضافية لإدارة هذه المشكلة، وهي:
- الظروف المناخية الحارة والجافة وقلة هطول الأمطار في دول الخليج، التي تحد من ازدهار قطاع الزراعة، وتُصعّب عملية تخزين المواد القابلة للتلف ونقلها من دون تبريد.
- اعتماد دول الخليج على الصناعة إلى حد كبير ما يجعل المساهمة الزراعية في الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات متدنية (أقل من 2.5%)، وعلى الرغم من أن دول الخليج لديها اكتفاء ذاتي قليل من الحبوب والفواكه والخضروات؛ فإن محدودية قطاع الزراعة تؤدي نسبياً إلى تراجع مستوى فقد الغذاء في مرحلة إنتاج المحاصيل من سلسلة القيمة، مقارنةً بالهدر، فضلاً أن دول الخليج تستورد ما يزيد عن 80% من احتياجاتها الغذائية.
- تصل نسبة العمالة الوافدة إلى 90% من إجمالي سكان دول مجلس التعاون الخليجي، ما ينتج عن ذلك تنوع هائل في الطلب على الغذاء والحاجة إلى تطوير سلسلة غذائية معقّدة لتلبية مختلف الأذواق.
- تسود في دول الخليج ثقافة الكرم وحسن الضيافة التي تقود غالباً إلى هدر الغذاء بسبب تقديم كميات كبيرة من الطعام عند استقبال الضيوف أو في المناسبات كالزفاف أو شهر رمضان، كما أدت الطفرة النفطية التي شهدتها دول المنطقة إلى مستويات هدر أعلى.
كل هذه العوامل تزيد من تحديات إدارة ملف الأمن الغذائي، والمتمثلة في:
- عدم كفاية البيانات الداعمة لوضع السياسات، والتي تعد ضرورة للتقدير الكمي لفقد وهدر الغذاء عبر سلسلة الإمداد، وتقييم التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لهذا الفقد والهدر على نحوٍ أفضل.
- افتقار دول الخليج إلى سياسة محددة أو لوائح مُطبقة لإدارة فقد وهدر الغذاء في المنطقة، أو اتباع سياسات ولوائح تُعقد المشكلة، مثل اللوائح الصارمة المتعلقة بتواريخ انتهاء الصلاحية التي تدفع العديد من دول الخليج لإتلاف كميات كبيرة من المنتجات.
- ضعف القدرات الفنية، وعدم إتاحة خيارات لإعادة الاستخدام أو الاسترداد يقود إلى التخلص من الغذاء وتجنب التكلفة الكبيرة لإعادة معالجته، ما قد يعيق الجهود الرامية إلى الحدّ من فقدان الأغذية وهدرها.
- اقتصار الجهود الحالية لرفع وعي المستهلكين بالقيمة الحقيقية للمنتجات الغذائية على حملات قصيرة المدى دون قياس تأثيرها وجدوى استمراريتها، إذ تعاني المؤسسات غير الربحية والحكومات منذ عقود صعوبات في التوصل إلى الطرائق الفعالة لقياس أثرها الاجتماعي لكن يمكن الاستفادة من القطاعات الأخرى للتوصل إلى أدوات جديدة لتقييم آثار المبادرات المجتمعية.
خطط ومبادرات ناجحة
يُقدر فقد الغذاء في السعودية بنحو 79 كيلوغراماً للفرد سنوياً، فيما يصل هدر الغذاء إلى 105 كيلوغرامات للفرد سنوياً، أي ما يعادل نحو 33% من إجمالي الغذاء المنتج أو المستورد سنوياً، لذا تستهدف السعودية تقليل فقد وهدر الغذاء إلى النصف بحلول عام 2030، كجزء من استراتيجيتها الوطنية للأمن الغذائي وتماشياً مع أهداف التنمية المستدامة.
وفي إطار رؤية 2023؛ عملت المؤسسة العامة للحبوب على عدة مبادرات لمعالجة مشكلة فقد وهدر الغذاء منها دراسة خط الأساس الشاملة عام 2019، وتمكين التعاون بين القطاع الخاص والجمعيات والمؤسسات غير الربحية لتنفيذ حملات بنك الطعام.
كما تستهدف الهيئة العامة للأمن الغذائي من خلال البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء رفع الوعي تجاه هذه المشكلة، وتشجيع القطاعات المختلفة على المشاركة في حلًها.
بدورها، تتطلع دولة الإمارات إلى تَصدُر مؤشر الأمن الغذائي العالمي بحلول عام 2051، ووضعت استراتيجية محكمة لتحقيق ذلك، إذ تستهدف الحد من فقد وهدر الغذاء عبر تطوير منظومة متكاملة لخفض نفايات الطعام ضمن سلاسل التوريد.
وترى حكومة الإمارات مشكلة هدر وفقد الغذاء من منظور أشمل، فركزت في خططها البيئة الأوسع على تلك المشكلة، إذ توفر الأجندة الوطنية الخضراء 2030 مثلاً إطاراً للإنتاج والاستهلاك المستدام، فيما يقدم دليل الإمارات للأعمال الخضراء مجموعة من الإرشادات التي تساعد الشركات الصغيرة والمتوسطة على تطبيق الممارسات الصديقة للبيئة.
ومثّل إطلاق المبادرة الوطنية للحد من فقد وهدر الغذاء، نعمة، إضافة نوعية لملف الأمن الغذائي في الدولة، إذ تعمل على تنسيق الجهود المشتركة بين الهيئات الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات غير الحكومية والمجتمع عبر سلسلة الإمداد الغذائية.
أما قطر، فتخطط لإطلاق برنامج شامل ومتكامل لمعالجة مشكلة فقد وهدر الغذاء، كما وضعت استراتيجية للأمن الغذائي تعالج هذه المشكلة، فيما لم تتخذ الحكومة الكويتية حتى الآن أي إجراءات سياسية جوهرية في هذا الإطار، لكن هناك جهود تبذلها المؤسسات غير الحكومية والقطاع الخاص للحفاظ على الغذاء من الفقد والهدر، إذ تجمع مؤسسة ريفود (Refood) المنتجات التي أوشكت صلاحيتها على الانتهاء من الأسواق التجارية وتعيد توزيعها على الأسر التي تعاني من الحرمان الغذائي.
في حين لم تضع البحرين حتى الآن خططاً محددة لمعالجة مشكلة هدر وفقد الغذاء، إلا أن جمعية حفظ النعمة تسهم في تنفيذ تدابير خفض الهدر وزيادة الوعي بالأمن الغذائي من خلال جمع فائض الطعام وتعليبه ثم إعادة توزيعه على الأسر المحتاجة والعمالة الوافدة.
وفي سلطنة عُمان، تعمل الشركة العُمانية القابضة لخدمات البيئة، بيئة، على استكشاف الحلول الإبداعية لمشكلة هدر الغذاء في البلاد، والعمل على مبادرات خلق الطاقة المستدامة مثل إنشاء مصنع لإنتاج غاز الميثان الحيوي من نفايات الطعام.
توجهات مستقبلية يجب اعتمادها
تعد البيانات الدقيقة وقابلية القياس، والسياسات واللوائح الفعّالة، والاستخدام الذكي للتكنولوجيا ضمن التوجهات المستقبلية التي يجب على دول الخليج اعتمادها للحد من فقد وهدر الغذاء.
الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار
يمكن للحكومات حل مشكلة فقد الأغذية وهدرها من خلال استثمارها في التكنولوجيا وتمويل القطاع الخاص لتشجيعه على التحول إلى التكنولوجيا، ما يساعد الشركات العاملة في القطاع على أن تصبح أكثر استدامة، ويدفع بعجلة الابتكار من أجل التوصل إلى حلول مُجدية لتقليل الهدر والفاقد من الغذاء.
على سبيل المثال، يتيح برنامج لين باث (Lean Path) للعاملين في مجال المطاعم بتحميل صور بقايا الطعام بانتظام وتسجيل أوزانها، ثم يُقدّم نتائج تحليلية للأنماط التي قد يعملون على إصلاحها، ونجحت هذه الطريقة في تقليص الهدر ببعض المطاعم بنسبة تصل إلى 80%.
وتتبع مؤسسة روبيز إن ذا رابل (Rubies in the Rubble) البريطانية استراتيجية تحويل الطعام للحد من الهدر، فيما اعتمدت شركة الأغذية الفرنسية دانون (Danone) نهج استخدام بقايا الطعام والمنتجات الثانوية في صناعة الأغذية المفيدة.
اعتماد نهج قياس موحد
يساعد النهج الموحد لجمع البيانات في تعزيز دقة وموثوقية تقديرات حجم الغذاء المفقود والمهدور، ويقدم فهماً أوضح لأسبابه، ما يساعد صنّاع القرار على رسم خطط قابلة للتنفيذ، ويسهّل عليهم متابعة سير العمل وتقييم الأثر.
ترسيخ التعاون والتكامل
تعقُّد مشكلة فقد وهدر الغذاء يتطلب جهوداً مشتركة من جميع الأطراف المعنية، في القطاعين العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني، لضمان عدم تشتت التدابير والإجراءات المعمول بها، كما يمكن للحكومات سن تشريعات تُلزم شركات الأغذية بتقليل الهدر والتبرع بفائض الأغذية لبنوك الطعام والجمعيات الخيرية، وتشجيع الشركات والأفراد على ممارسات الحفاظ على الأغذية عبر تقديم حوافز مادية ومعنوية.