هل فكرت يوماً في استحداث وسائلك لعمل الخير؟ إن كانت إجابتك بنعم، لعلك تتساءل الآن ما هي أحدث الوسائل التي تضمن قيامك بواجبك الأمثل تجاه الفئات المحتاجة والمتعففة؟ ربما يكون هذا السؤال ذاته الذي راود "ميخايلو فيودوروف" (Mykhailo Fedorov)، نائب رئيس الوزراء الأوكراني، عندما وصل لإجابته المتمثلة في استغلال التكنولوجيا الحديثة لجمع التبرعات إلى الوضع المتأزم في بلاده الذي لا يعرف وقت نهايته.
"استثمر في السلام"؛ تلك الكلمات التي لم يقلها نائب رئيس الوزراء الأوكراني فقط، بل قرر أن يطلقها كأغنية للعالم بنمط "الراب" (Rap) أصدرتها شركة "إيفرستايك" (Everstake)، وهي شركة "بلوك تشين" أوكرانية، دعا خلالها إلى إرسال التبرع بالعملات المشفرة إلى مؤسسة "مساعدة أوكرانيا" (Aid For Ukraine) غير الربحية. وبالفعل، بدأت الحملة التي أطلقها أواخر مايو/ آيار 2022، في الحصول على تبرعات لتلبية الاحتياجات الإنسانية في بلاده، ثم بلغت أكثر من 60 مليون دولار في مجموعة متنوعة من العملات المشفرة، في وسيلة جديدة تدل على ازدهار الابتكار الاجتماعي وقت الأزمات على وجه الخصوص، وأهمية التكنولوجيا لدعم القضايا الإنسانية.
أهمية استغلال التكنولوجيات في الأعمال الخيرية
أحدثت الثورة التكنولوجية بالفعل الكثير من التغييرات من حولنا، واستطاعت أن تُمثل تأثيراً إيجابياً في الأعمال الخيرية، فقد تنامى اليوم التوجه نحو توظيف التكنولوجيات الحديثة في منظومة العمل الإنساني، وإيجاد الأفكار المبتكرة والمتجددة لمواجهة الأزمات الطارئة؛ حيث تفرض استثنائية الأوضاع التي يشهدها العالم ضرورة اللجوء إلى أدوات تفوقها استثنائية ليعادل حجم الاستجابة نطاق الأزمة.
ومن هنا، فقد حاوت بعض المؤسسات الخيرية استعمال بعض الخدمات الإلكترونية، للاستفادة منها لدعم الأعمال الخيرية، ونشر ثقافة التطوع، وسبق أن أوضحنا في مقال بعنوان: "لماذا يجب أن ننشر ثقافة التطوع الإلكتروني الآن؟"، أن الإنترنت بدأ في توسيع القاعدة المعرفية لفئة الشباب على وجه الخصوص، وأسهمت في تعزيز مفهوم العمل التطوعي، إيماناً بدور المسؤولية الاجتماعية للأفراد في تنمية فرص العطاء.
لا توفر قنوات الدفع الإلكتروني إمكانية تقديم الدعم فحسب؛ بل إنها توفر الأمان والنظام والدقة، ومن المرجح أن تستمر المؤسسات الخيرية في الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة لتعزيز جمع التبرعات، حيث أكدت دراسة للباحث الجزائري محمد جعفر هني بعنوان: "الوقف النقدي الإلكتروني بين عولمة الصدقة الجارية وعصرية المنظومة الرقمية" أن استخدام التكنولوجيا يثبت فاعليته على المدى الطويل، فجمع دولار عبر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات قد يكلف أقل من ذلك، على عكس الطرق التقليدية التي قد تكلف أكثر من 1.25 دولار.
ذلك في الوقت الذي بدأت فيه تقنية "بلوك تشين" (Blockchain) مساعدة الناس في بلدان مثل كينيا والأرجنتين على بناء حياة أكثر ازدهاراً وقدرة على الصمود من خلال زيادة فرص الحصول على الخدمات المالية. فهذه التكنولوجيا، تعتبر طريقة لا مركزية لتنظيم المعاملات في قاعدة بيانات، ليتفق العديد من الأطراف الذين لا يثق بعضهم ببعض على حالة تلك المعاملات دون الحاجة إلى وسيط. وجميع المعاملات المسجلة ثابتة وشفافة ومشفرة.
ومع التوجه العالمي نحو العملات المشفرة، التي استقطب مفهومها اهتماماً عالمياً عام 2009 عندما نشر أحد الباحثين باسم مستعار "ساتوتشي ناكاموتو" (Satoshi Nakamoto) ورقة بحثية عن إحداث عملة رقمية تسمى "بيتكوين" (Bitcoin)، وهي عملة رقمية مشفرة لامركزية تستخدم للدفع عن طريق الإنترنت، لا تخضع للرقابة الحكومية، ولا لرسوم التعاملات قائمة على تكنولوجيا البلوك تشين، لتتوالى من بعدها مئات العملات المشفرة ولطالما وُصفت بأنها المستقبل؛ لكن فكرة التبرعات باستخدامها طرأت مؤخراً، فهل فعلاً لاقت الإقبال العالمي؟
التبرع بالعملات المشفرة
بين عشية وضحاها، لم يعلم العالم من هو المدعو "باين" (Pine) الذي أنشأ "صندوق الأناناس" (Pineapple Fund) في عام 2017، مستخدماً 5104 عملة بيتكوين بما يعادل 55 مليون دولار؛ للتبرع إلى 60 مؤسسة خيرية.
أنشأ صندوق الأناناس شكلاً أكثر غموضاً من العمل الخيري للعملات المشفرة، فقد حافظ صاحبه على هويته غير معروفة، لنشر ثقافة التبرع عبر العملات المشفرة، وقرر إغلاق الصندوق في مايو/ آيار عام 2018، بعد الوصول إلى هدفه لدعم القضايا التي وجدها مهمة مثل: تأمين المياه النظيفة للأفراد في صحراء إفريقيا. وقد يكون هذا الجانب الإيجابي من انتشار العملات المشفرة، عاملاً مؤثراً أثبت نجاحه في العالم لجمع التبرعات وتقديم الدعم، حيث أكد التقرير السنوي لشركة "ذا غيفنغ بلوك" (The Giving Block)، وهي شركة توفّر دعماً في الجوانب الحاسوبية لأكثر من ألف مؤسسة خيرية تقبل تبرعات بالعملات المشفرة، أن نسبة تبرعات العملات المشفرة بلغت أكثر من 69 ملايين دولار في عام 2021، بزيادة نسبها أكثر من 1.5% عن العام الذي قبله.
وصل انتشار التبرعات بالعملات المشفرة أيضاً إلى دعم القضايا التعليمية، إذ تلقت جامعة بنسلفانيا تبرعاً مجهولاً بقيمة 5 ملايين دولار من عملة البيتكوين لفائدة مركزها الخاص بالابتكار في المالية بكلية وارتون، بينما بدأ "مركز التميز في التعليم" (Center for Excellence in Education)، وهو مؤسسة خيرية ترعى برامج ومسابقات العلوم والرياضيات لطلاب المدارس الثانوية والمدرسين، في قبول تبرعات العملات المشفرة.
لم تغفل المؤسسات الخيرية العربية، كيفية جمع التبرعات من خلال العملات المشفرة. فـ"جمعية دبي الخيرية" التي اعتادت حث المتبرعين على تقديم التبرعات للمحتاجين ودعم مشاريعها في كل أنحاء العالم، على مدار خمسة عقود. كما حرصت على الاستمرار من أجل تقديم يد العون للغير بشتى الطرق التي اعتمدت فيها التكنولوجيا الحديثة لجمع التبرعات. أعلنت مؤخراً، عن توقيع شراكة مع إحدى المنصات المتخصصة بالعملات المشفرة، لتكون بذلك أول جمعية خيرية في الإمارات تتلقى التبرعات بها؛ إذ ستتولى المنصة استقبال العملات المشفرة وتحوّلها إلى الحسابات البنكية للجمعية بالعملة المحلية، علماً أن استقبال الصدقات بالعملات المشفرة يساعد في زيادة التبرعات التي تعود بالنفع على الفئات المحتاجة، كما يسهل على المتعاملين عبر الأسواق المحلية والعالمية بالعملات المشفرة تقديم صدقاتهم بأكثر الطرق آمانً ويُسر.
هل يمكن للتبرع بالعملات المشفرة أن ينقذ حياة الأفراد؟
على الرغم من انتشار الفكرة وراء التبرع بالعملات المشفرة، إلا أن هناك الكثير من الشركات العالمية التي رفضت ذلك، مثلما أعلنت مؤسسة "موزيلا" (Mozilla)، عن إيقاف تبرعات العملات المشفرة ريثما تنتهي من تقييم تأثيرها على التزاماتها في مكافحة تغير المناخ، لكن بالفعل أثرت على الترويج لفكرة التبرع بالعملات المشفرة؟
للإجابة عن هذا السؤال، يمكننا الاستعانة بما أشارت إليه هيئة "إنقاذ الطفولة" (Save the children) عن طرق تقديم المساعدة، إذ أوضحت أن التبرع بعملة البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى يعتبر أحد أكثر الطرق فاعلية من حيث الضرائب لدعم القضايا، فيما أوضحت أن الأطفال يُسلب مستقبلهم من قبل الاقتصاد العالمي القائم على عدم المساواة والجشع الذي يؤجج أزمة المناخ؛ الأمر الذي يؤدي بدوره إلى دفع المزيد من الأطفال إلى الفقر. كما يواجه جيل "كوفيد-19" من الأطفال الآن التهديدات المزدوجة والمترابطة المتمثلة في تفاقم عدم المساواة الاقتصادية وتغير المناخ الكارثي. هذه الأزمات وجهان لعملة واحدة؛ لكن بمساعدة التبرعات بالعملات المشفرة، هناك أمل بالفعل.
في الوقت نفسه، ما زالت مؤسسة "نيو ستوري" (New Story) الخيرية بتأثير "صندوق الأناناس"، حيث قاد "رامون رامينول" (Ramon Ramentol) أحد مؤيديها أول حملة لجمع تبرعات العملات المشفرة، لتأسيس منازل للمشردين في السلفادور، كما يواصلون العمل على حملة "منزل آخر جديد" لتأمين المسكن اللائق للفئات المحتاجة.
وبينما تواصل المؤسسات الخيرية وغير الربحية، البحث عن كل الطرق الممكنة التي تؤدي إلى إيصال الدعم لمستحقيه، فإننا نختم بما أوصى به الفيسلوف الأسترالي "بيتر سينغر" (Peter Singer) عام 1972 في مقاله بعنوان "المجاعة والثراء والأخلاق" (Famine, Affluence, and Morality) ببساطة صائبة عندما قال: "المعاناة والموت من نقص الغذاء والمأوى والرعاية الطبية سيئة"، حياة عدد لا يحصى من الناس حول العالم تغيرت بفضل هذه الكلمات، وقد يتغير حياة الكثيرين أيضاً بفضل البحث عن طرق جديدة وفريدة للتبرع، منها العملات المشفرة، فالبحث في استغلال التكنولوجيا ممكناً ومتاحاً للجميع.