يبحث كتاب "المصائب النافعة" (Happy Accidents: The Transformative Power of ‘Yes, And’ at Work and in Life) في الأمور التي يمكننا تعلمها من الكوميديا الارتجالية، وهي الاعتماد على قوة الانفتاح، وتنمية العلاقات الداعِمة، وتبنّي فكرة المنفعة للجميع. تتمثل الاستجابة البديهية لدى معظمنا في رفض الطلبات الموجهة إليه حفاظاً على وقته الثمين وطاقته وإحساسه بالتحكُّم، لكن هذا الخيار يعوق النمو. يكمن السر في اعتماد عبارة "نعم، ثم ماذا" إلى حياتنا اليومية، إن هذه العبارة نهج ارتجالي معروف تسمح لنا بإعادة صياغة التحديات غير المتوقعة إلى "مصائب نافعة" يمكن أن تساعدنا على الانتقال من حيث نحن الآن إلى حيث نريد أن نكون.
تعلّمنا في مسرح فور داي ويكند (Four Day Weekend) للكوميديا قوة عبارة "نعم، ثم ماذا" ومفهوم المصائب النافعة على أرض الواقع، وأصبحنا الآن قادة في مجال التحوّل الثقافي وتمكين الفرق. إذ انتقلنا قبل 20 عاماً من فكرة بسيطة واستثمار بقيمة 600 دولار في شركتنا للكوميديا الارتجالية والرسوم الكوميدية إلى تقديم ما يقارب 6,000 عرض وفعالية، وإدارة واحدة من أنجح مؤسسات الكوميديا وتدريب الشركات في الجنوب الغربي، حيث قدمنا عروضاً أمام رئيسَين أميركيين، والقوات المسلحة في دول خارجية، وأمام المحاربين العسكريين القدامى في أميركا، وآلاف المهنيين في الشركات والفرق الإدارية والقيادية والمعلِّمين والطلاب، وغيرهم.
لا شيء يجمع الناس كالكارثة الضخمة، كنا على وشك الأداء في صالة فيسرف فورَم (Fiserv Forum) أمام 5,000 شخص من المدراء التنفيذيين للبنوك، والرؤساء وغيرهم من موظفي البنوك رفيعي المستوى، في فندق فينيشان (Venetian) في مدينة لاس فيغاس، ليتصدر العنوان الرئيسي التالي جميع الصفحات الأولى لصحيفة ذا نيويورك تايمز (The New York Times): "انهيار بنك ليمان يشكّل صدمة في جميع أنحاء العالم". مع أنه لم يكن أيّ من أعضاء فريقنا المسرحي موظفاً في مصرف، واقتصرت معرفتنا حول الأنظمة المصرفية المعقدة على امتلاك حساب مصرفيّ مجاني، لكننا علمنا أن هذه أزمة محتمَلة يمكن أن تؤدي إلى توقف الاقتصاد الأميركي.
تجد أي مؤسسة نفسها أمام مفترق طرق عند وقوع أزمة، فإما أن تختار فريقاً وتطرده، وإما أن تعزّز الروابط بين أفراد المؤسسة وتجعلها أقوى في النهاية. ويعتمد المسار الذي سيسلكه أي فريق على نهج قيادة المؤسسة، فمن الطبيعي أن يخاف الجميع عند حدوث أي أزمة، لكن أفضل القادة فقط هم من يطمئنون فريقهم أن كل شيء سيكون على ما يرام، ونقول دائماً إن ثمة فرق شاسع بين عبارة "لا أعلم" التي تدل على الخوف أو التردد، وعبارة "لا أعلم، لكننا سنجد حلاً" المليئة بالهدوء والثقة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لمنظمات التنمية الاجتماعية الخروج من الأزمات بشكل أقوى؟
على سبيل المثال، في إحدى المرات أُصيب رجل بسكتة دماغية في منتصف أحد عروضنا المباشرة، إذ سمعنا تمتمة بين الجمهور عن مشكلة ما في أثناء العرض لنسمع بعدها فجأة الكلمات التي لا يرغب أحد في سماعها: "نحتاج إلى طبيب"، وشعرنا فوراً بقلق الجمهور وهم يتساءلون عمّا يحدث، فحافظ جميع أفراد فريق العمل على هدوئهم بصورة استثنائية بدلاً من الذعر، واتصلنا بالطوارِئ للحضور إلى صالة العرض وتقديم المساعدة للمريض، وسرعان ما نُقِل من المسرح إلى مشفى قريب حيث اعتنى الأطباء به. في هذه الحالة، كان من الضروري أن نحافظ على هدوئنا هذا الموقف الحرج، وقد فعلنا ذلك واتبع الجمهور خطانا وعولج الموقف بسرعة ودون أي مشكلة أخرى.
ومثل أي أزمة، كان لإصابة الرجل إلى سكتة دماغية في مسرحنا جانب مشرق، وشكّلت مصيبة نافعة؛ كانت ابنته من المعجبين بالعرض منذ فترة طويلة واصطحبته معها إلى العرض المباشر، بالطبع لا يرغب أحد بأن يصاب بسكتة دماغية، لكن لو أصيب بها وهو وحيد في منزله كما يكون عادة في ليلة يوم السبت، فمن المحتمل أنها لن تكتشف إلا بعد فوات الأوان. وحين أصيب بالسكتة في مسرحنا وهو محاط بالناس حصل على الرعاية الطبية على الفور.
وبما أن الجمهور كان داعماً ومتعاطفاً بشدّة مع حالة هذا الرجل، أخبرناهم أننا سنأخذ فاصلاً سريعاً لإعادة تنظيم أنفسنا، ثم سنمدد ما تبقى من العرض.
ثم حدث موقف مثير للاهتمام بعد ذلك الفاصل؛ مع بدء الفصل الثاني لاحظنا أن ضحكات الجمهور المريحة في المسرح كانت صاخبة بشكل واضح وحيويتهم مشتعلة، وكان السبب في ذلك هو تفريغ التوتر والضغط على نحو يساعد على التعافي من خلال الضحك، فشهدنا عن كثب السمات العلاجية للضحك في مواجهة الأزمات. لا بدّ من وقوع الأزمات، لكن أحياناً يكون حسّ الدعابة هو ما نحتاج إليه لتخطّيها.
ومع مرور ما تبقى من عام 2008 ودخولنا في عام 2009، أصبح الانهيار المالي أكثر الأزمات التي تجمعنا. فمع توقُّف الأعمال التجارية في أميركا وتخفيض الميزانيات، كانت ميزانية الترفيه أول بند يُلغى، وسرعان ما تلاشت غالبية الأعمال التي اعتدنا على تنفيذها في الشركة، ما ترك فجوات كبيرة في جداول مواعيد الحجز لدينا، كما خفّضت العديد من الشركات المصنّفة ضمن قائمة فورتشن 500 (Fortune 500) ميزانيات الترفيه الخاصة بها واستغنت عن خدماتنا، واختارت أحد موظفيها لإدارة فعالياتها.
على الرغم من أن الأمر أضرّ بنا على الصعيد المادي مؤقتاً، فسرعان ما أصبح أحد أنفع المصائِب التي حلّت بنا على الإطلاق. لقد منحنا الوضع المالي المتردي فائضاً كبيراً في الوقت في جدول أعمالنا، وسرعان ما وجدنا أنفسنا مرة أخرى في مسرحنا نعمل أكثر على تحسين عروضنا الأسبوعية المباشرة، وأمضينا هذا الوقت في تجديد عروضنا بإضافة مواد جديدة وتحسين مرافق المسرح وإصلاح بعض الأعطال التي أجّلناها بسبب جداولنا المزدحمة. تحسن المسرح، ولكن الأهم هو أن العرض بات أفضل لأن العلاقات بيننا صارت أقوى.
وجدنا أنفسنا نضحك مجدداً ونستمتع بأداء أحبّ الأعمال إلينا، وكان هذا سبب اختيارنا هذا المجال -العروض المباشرة- ليكون بداية لنا. وفي فترة وجيزة، أدركنا أننا نستمتع أكثر من أي وقت مضى، وبدأ ذلك ينعكس على عروضنا المباشرة، حيث وجد الجمهور الذي يبحث عن متنفّس أن مسرح فور داي ويكند هو المكان المثالي للاستراحة والاسترخاء والضحك. صدق أو لا تصدق، بدأنا نحظى بأفضل أوقات حياتنا في خضمّ الأزمة، لأننا كنا نحب ما كنا نفعله.
شعر الأميركيون بالذعر والخوف من الأزمة المالية ولجأ الكثير منهم إلى الضحك هرباً منها، إذ كان الناس مُثقَلين بصخب الأخبار السيئة المتتابعة يوماً بعد يوم، فبحث الكثير منهم عن بعض المرح في حياتهم وكان مسرح فور داي ويكند يوفره.
علمنا أن الجميع بحاجة إلى استراحة، لذا حرصنا على أن نتجنّب الحديث عن الأخبار المزعجة في عروضنا، وأصبحنا العلاج الشافي الذي يخلق الضحك الذي يبحث عنه الجمهور. ساعدناهم في الحصول على بعض الراحة بعيداً عن الأخبار السيئة، وكان بعض الناس يقترب منا بعد العروض مرات لا تحصى ليقول: "شكراً لكم على إضحاكي، كنت حقاً بأمسّ الحاجة إلى ذلك"، كنا نشهد قوة التغيير التي تتمتع بها رسالة فريقنا: "العلاج بالضحك".
يبدأ عمل القائد عندما تحدث الأزمة، فعندما يعمل فريقك بفعالية وتسير الأمور بسلاسة، يكون أفضل ما يمكنك القيام به هو التراجع وإفساح المجال لتألّق فريقك. لكن الوقت الذي تشتدّ الحاجة فيه إلى القائد هو عندما يواجه الفريق مشكلة، وحينها يتعين على القائد العظيم الانضمم إلى فريقه وتوجيهه للنجاة من الأزمات الشديدة، كما فعل سميث قبطان سفينة تايتانيك، فمهمة القائد هي الصمود في وجه الكارثة الحتمية مهما اشتدّت. الفرق شاسِع بين القائد الذي يقول: "واجه هذه الأزمة"، والذي يقول: "اتبعني، سنواجه هذه الأزمة معاً".
نمر في الكوميديا الارتجالية بما يسمّى بالموقف المحرج (hotspot)، وهو عندما يصبح المشهَد مملاً شيئاً فشيئاً. فإذا كان من يقدّم العرض غير متمرِّس فسيقف جانباً يغمره الخوف مخاطباً نفسه: "إذاً، أصبح هذا المشهد مروّعاً، من المستحيل أن أقدمه". يرى المرتجِل المحنَّك زملاءَه المرتجِلين في موقف محرج فيقول: "إنهم في ورطة، عليّ التدخل والمساعدة"، فإذا سارت الأمور على ما يرام، نتراجع ونفسح المجال لزملائنا المرتجِلين أن يتألّقوا، فنحن لا ندخل في المشهد إلا إذا احتاج الأمر.
يُطبّق القادة العظماء ذلك أيضاً، إذ يُستخدم مصطلَح "الموقف المحرج" لتعريف الأزمة، فهو الموقف الذي يندر أن يشعر فيه أحد بالراحة لما يتضمنه من خطورة، ولا تسير الأمور فيه كالمعتاد، وهذا غالباً ما يشلّ حركة الإنسان. لكن القادة يدركون ذلك ويرون فرصة فيه، ويغتنمه روّاد الأعمال المحترفون ويجعلونه ميزة لصالحهم.
اقرأ أيضاً: بناء المرونة في أوقات الأزمات
تعافى الاقتصاد ببطء، وبدأت الشركات الأميركية تحظى بالقليل من المرونة في ميزانياتها من جديد. وتمثلت إحدى أجمل المصائِب النافعة التي حدثت في أن الشركات بدأت تقدِّر القيمة الجديدة لما أضفناه إلى أدائها المؤسسي، وازداد الطلب على خدماتنا مجدداً عندما بدأت الشركات في إعادة الاستثمار في عروض الترفيه المباشر لأنها لمست قيمة ما قدمه فريقنا. فقبل الانهيار، كانت خدماتنا تعدّ نفقات كمالية، لكن بعد أن عقدت الشركات مؤتمراً واحداً، أو كؤتمرَين أحياناً، دون ترفيه احترافي، اكتشفت أن أتعابنا ليست رفاهية، بل هي ضرورة لإيصال رسائلها الشديدة الأهمية.
بدأ جدول أعمالنا يمتلئ من جديد تدريجياً، وسرعان ما عاودنا التنقُّل لتقديم العروض في فعاليات الشركات. بعد أزمة الانهيار، شهدنا نموذجاً مختلفاً في منهجيات الشركات، إذ ازدادت الشركات التي ترغب في إضفاء المرح إلى العمل من جديد بعد الفترة العصيبة في الأشهر الـ 18 الماضية. وأدرك العديد من الشركات القيمة الكامنة في الاستثمار بترفيه موظفيها، حيث تشير الإحصائيات إلى أن القوّة العاملة المحفَّزة التي تحظى بالمتعة في العمل تتمتع بإنتاجية أعلى، ليصبح توجُّهنا: "ما دمنا تجاوزنا الركود الاقتصادي الكبير فلا حدود لما يمكننا فعله".
بالإضافة إلى توضيح القيمة التي تضيفها خدماتنا في الترفيه المباشر، أجبرنا الركود الاقتصادي أيضاً على إنشاء خدمات جديدة في التعليم المتواصل تشمل إلقاء الكلمات الرئيسية وورشات بناء الفريق وتدريب الموظفين الجدد، إذ لاحظنا أن هذه الخدمات التعليمية ليست كماليات، بل ضرورة للشركات في مناخ اقتصادي متغيّر باستمرار. ونتيجة لذلك، كان من الأسهل تبرير تخصيص ميزانية لهذه الخدمات، وفاقت عروض التعليم المتواصل لدينا حجوزات عروضنا المباشرة الخاصة بمقدار 3 عروض مقابل كل حجز، وأصبح هذا المجال الجزء الأسرع نمواً في عملنا من حيث العائدات.
نظرة المرء للأمور هي الأهم في الحياة؛ كان أقلّ ما يقال عن الانهيار الاقتصادي هو أنه كارثيّ على جميع المقاييس، ولم يكن بمقدور أي منا فعل شيء حياله. وبالنسبة لنا في مسرح فور داي ويكند، لم يكن بوسعنا سوى العودة إلى فعل أكثر ما نجيده في مواجهة العاصفة، وهي إضحاك الناس، فركّزنا على عروضنا المباشرة وفعلنا ما في وسعنا لرؤية الجانب المشرق من هذه الأزمة. لم يكن لدينا رفاهية النظرة المستقبلية حينها، لذلك كان من الصعب في معظم الأحيان رؤية الجانب المشرق في كل ما نمرّ به، لكن النجاح المتواصل يتطلّب التحلّي بالصبر، ويجب أن نؤمن بما نقدمه ونترك الأمور تسير بما يعزز نجاحنا ويرسّخه؛ قدِّم أفضل ما لديك ودع الأمور تأخذ مجراها.
لم نتوقع أن يثبّت الانهيار الاقتصادي قيمتنا بالنسبة للشركات في الدائة الاقتصادية، بل تصوّرنا أن أعمالنا الموجهة إلى قطاع الشركات ستتوقف نهائياً؛ إذ كانت عبارة "الركود الاقتصادي الكبير التالي" تتردّد يومياً، وكنا ممتنين لوجود عملنا في العروض المسرحية المباشرة لتساعدنا على الصمود.
تنتظر المصائب النافعة من يواصل العمل على الرغم من جهله بالمستقبل؛ إما أن تتكيّف وإما أن ينتهي أمرك، ما علينا إلا أن نؤدي العمل الضروري ونؤمن بأن الأمور ستسير لصالحنا إذا عملنا بجد وحافظنا على التفكير الإيجابي.
اقرأ أيضاً: التحالفات بين القطاعات لمواجهة الأزمات
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.