"عالم مضطرب" هي الصفة التي يمكن إطلاقها على ما عشناه خلال عام 2023، إذ وصلت درجات الحرارة إلى أعلى مستوياتها، وشهد العديد من المناطق زلازل وأعاصير وحرائق غابات خلفت دماراً هائلاً للبيئة والاقتصاد والمجتمع، وزادت حدة الصراعات وأوجه عدم المساواة. ولكن على الرغم من هذه الأحداث المثيرة للقلق على مستقبل الكوكب فثمة بعض الأمور التي سارت سيراً صحيحاً تدعونا للأمل وحتى التفاؤل لمواصلة النضال من أجل عالم أكثر استدامة وأمناً وعدلاً.
وداعاً للوقود الأحفوري
زادت التوجهات على مستوى شركات النفط والدول للتحرك بعيداً عن الوقود الأحفوري والاعتماد على مصادر الطاقة البديلة المتجددة، لا سيما الطاقة الشمسية، التي تتمتع بالمرونة اللازمة لاستخدامها سواء في المنازل أو الصناعات الضخمة، ومن المتوقع أن تتجاوز إمكاناتها القدرة المُركّبة للغاز الطبيعي بحلول عام 2026 وقدرة الفحم بحلول عام 2027.
ويعد هذا التوجه الجديد نحو الطاقة النظيفة مدفوعاً بانخفاض تكلفة تصنيع الألواح الشمسية بنسبة 93% في العقد الماضي، والابتكارات الجديدة التي تجعل الوصول إليها أكثر سهولة حتى في المجتمعات النائية.
وشهد عام 2023 اتفاقاً تاريخياً بين نحو 200 مشارك في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ "كوب 28" (COP28) في دبي على "الانتقال" رسمياً بعيداً عن الوقود الأحفوري في أنظمة الطاقة. وعلى الرغم من الانتقادات حول اللغة التي لم تكن صارمة وملزمة إلى حد كافٍ، فإن ما حصل يعد تحولاً إيجابياً، واستجابة طموحة لأول تقييم عالمي لاتفاقية باريس. وذلك إلى جانب اتفاق دول الأطراف على تفعيل صندوق "الخسائر والأضرار" لتعويض الدول الأكثر تضرراً من تغير المناخ.
وفي قمة المناخ الإفريقية قرر القادة تولي زمام المبادرة في مجال الطاقة المتجددة والاستخدام المستدام للأراضي وتوظيف أحدث تقنيات المناخ، والالتزام بتسريع وتيرة العمل المناخي من حيث التكيف والتمويل، وتحقيق العدالة المناخية.
الحد من التلوث البلاستيكي
البلاستيك موجود في كل مكان، لكن تُعد المحيطات الموطن الأكبر له، إذ تضم 5.25 تريليون قطعة بلاستيكية، ويتدفق إليها نحو 11 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنوياً، وقد يزداد هذا الرقم ثلاثة أضعاف بحلول عام 2040، الأمر الذي يهدد حياة الحيوانات البحرية ويتسبب بأضرار صحية وخسائر اقتصادية للمجتمع، خصوصاً أن 80% من المواد البلاستيكية لا يُعاد تدويرها، ويُلقى معظمها في المياه.
وشهد عام 2023 تقدماً في العمل على معاهدة عالمية لإنهاء التلوث البلاستيكي في المحيطات وعلى الأرض، إذ تتضمن المسودة الحالية نصاً مقترحاً يغطي جميع مراحل دورة حياة البلاستيك، ويشجع على تقليل استخدامه من خلال تعزيز تصميم المنتجات بصورة أفضل وتحسين إعادة التدوير وضمان الانتقال العادل نحو الاقتصاد الدائري، ومن المتوقع أن تكتمل مفاوضات المعاهدة لتصبح اتفاقاً قانونياً ملزماً مع نهاية عام 2024.
رئتا الأرض تتنفسان من جديد
عند التفكير في أزمة المناخ تبدو الحلول الطبيعية الأفضل من حيث التكلفة وسهولة الوصول إليها، فالحد من إزالة الغابات يمكن أن يساعد على خفض درجات الحرارة وحماية التنوع البيولوجي وتحسين جودة التربة والمياه.
تمثل منطقة الأمازون أكثر من نصف الغابات المطيرة في العالم، ويشار إليها في كثير من الأحيان باسم "رئتي الأرض" لأنها غنية بالتنوع البيولوجي، والأمر الجيد أن إزالة غابات الأمازون تراجعت بنسبة 55.8% بين عامي 2023 و2022 من 2,062,939 هكتاراً إلى 911,740 هكتاراً. ما يعكس التحولات في التوجهات الحكومية وقوة إنفاذ القوانين والتشريعات البيئية، والعمل الجاد الذي يضطلع به العديد من المؤسسات، وخاصة السكان الأصليين في المنطقة الذين يظهرون مدى معرفتهم والتزامهم بقيادة جهود حماية البيئة الطبيعية.
تأتي تلك الجهود في إطار تعهد الطبيعة (Nature Pledge) الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، لدعم 132 دولة من أجل إعداد استراتيجيات وطنية تمكنها من الوصول إلى أهدافها الطموحة في الإطار العالمي التاريخي للتنوع البيولوجي، بما في ذلك حماية 30% من الأراضي و30% من مناطق المحيطات بحلول عام 2030.
تضييق الفجوة بين الجنسين
لا تزال الأطر القانونية والأعراف الاجتماعية متحيزة ضد المرأة، ما يجعل هدف المساواة بين الجنسين حلماً بعيد المنال، فالعنف والتمييز القائم على الجنس، وضعف مكانة النساء في سوق العمل تقوّض جهود التنمية المستدامة.
لكن هناك بارقة أمل، إذ تشير تقارير منظمة اليونسكو إلى زيادة أعداد الفتيات الملتحقات بالمدارس، إذ انضمت 50 مليون فتاة إلى صفوف الدراسة منذ عام 2015، وأثبتن تفوقهن على الذكور في القراءة، وحققن تساوياً معهم في مجال الرياضيات. من جهة أخرى، أصبح زواج الفتيات بسن مبكرة أقل شيوعاً، فبحسب منظمة اليونيسف، تبلغ نسبة زواج الفتيات في سن الطفولة حالياً نحو 19% مقارنة بـ 23% خلال العقد الماضي.
كما عادت النساء إلى سوق العمل بمعدلات أعلى من الرجال على مستوى العالم، ما أدى إلى انتعاش بسيط في التكافؤ بين الجنسين من حيث المشاركة في قوى العمل.
القضاء على الفقر المدقع لا يزال ممكناً
تعد مواجهة مشكلة الفقر ومعالجتها أحد عوائق تحقيق التنمية المستدامة، لكن هناك تقدم تدريجي في الحد من الفقر، يعود إلى بعض السياسات والبرامج التي تركز على تعزيز فرص التعليم، والحصول على الكهرباء والمياه النظيفة، وتقديم الرعاية الصحية الشاملة.
وقد أحرز العالم تقدماً ملحوظاً في الحد من الفقر خلال العقود الماضية، ففي عام 2015 كان نحو 10% من سكان العالم أو 734 مليون شخص، يعيشون على 1.90 من الدولار أو أقل في اليوم، وهذا يمثل انخفاضاً من 16% في عام 2010 و36% في عام 1990.
وفي عام 1990، كان يعاني نحو ملياري شخص من ظروف معيشية قاسية، لكن بين عامي 1990 و2019، انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع إلى نحو 700 مليون شخص -نحو 66% أو ما يعادل 1,300 مليون شخص- وهذا يعني أن نسبة سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع تراجعت من نحو 38% إلى 8.5%.
وانخفضت نسبة العمال في العالم الذين يعيشون في فقر مدقع من 14.3% في عام 2010 إلى 7.1% في عام 2019، ما يجعلنا نتفاءل بأن القضاء على الفقر المدقع في متناول أيدينا.
لا شك في أن 2023 كان عاماً صعباً، لكن لنتمسك بالأمل ونتفاءل بما حققته الجهود المشتركة على مستوى العالم. فالإنجازات الصغيرة والبسيطة قد تؤدي إلى خطوات أكبر وتلهم المزيد من التعاون للوصول إلى مستقبل الكوكب الأفضل الذي نبحث عنه.