أسواق الطاقة العالمية والعربية على عتبة التحول؛ كيف يتم الانتقال إلى الطاقة النظيفة؟

قطاع الطاقة النظيفة
shutterstock.com/Tereshchenko Dmitry
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أتمَّت شركتا طاقة وأدنوك عملية الاستحواذ على شركة مصدر للطاقة النظيفة في واحدة من أكبر صفقات الاستحواذ في قطاع الطاقة في الشرق الأوسط في نهاية العام الفائت.

تدير أدنوك، العملاقة الإماراتية للنفط والغاز، عمليات استخراج النفط والغاز ونقلهما وتصريفهما في إمارة أبوظبي. بينما تمتلك شركة طاقة محطات توليد الكهرباء في إمارة أبوظبي وتدير العديد من الاستثمارات خارج الإمارات.

وتُعَد مصدر إحدى الشركات العاملة في قطاع الطاقة النظيفة بعد نجاحها في تنفيذ العديد من المشاريع العالمية. وتندرج تحت مبادلة، كذراع الاستثمار النظيف لهذه الشركة. وهذه الصفقة غيض من توجه عالمي سِمته الأساسية دخول شركات النفط في ميدان الاستثمار في قطاع الطاقات المتجددة.

تحول شركات النفط للاستثمار في قطاع الطاقة النظيفة

شهدت القارة الأوروبية في العقد الأخير العديد من الصفقات المشابهة، حيث سعت شركات النفط والغاز الأوروبية لتنويع استثماراتها والشروع في رحلة تحول طويلة للحد من الانبعاثات الكربونية. فشركة النفط والغاز الهولندية شل على سبيل المثال أعلنت عن خطتها لخفض الانبعاثات الكربونية إلى النصف بحلول عام 2030 ومن ثم الوصول التدريجي إلى “صفر” انبعاثات في عام 2050 من خلال تخفيض إنتاجها من النفط والغاز بنسبة 2% كل عام وكذلك من خلال استخدام الحلول التقنية المتاحة والتعاون والاستثمار في تطوير حلول تقنية جديدة تخدم هذا الهدف.

وفي هذا السياق حددت شل ثلاثة قطاعات للطاقة النظيفة للتوسع والنمو من خلالها في أوروبا: الهيدروحين النظيف (الأخضر)، وطاقة الرياح، وإنشاء وتشغيل البنية التحتية للسيارات العاملة على الكهرباء. وأعلنت عن خطتها لتنفيذ العديد من المشاريع العملاقة في ألمانيا حتى عام 2030. ومن الجدير بالذكر أن المكافآت والتعويضات السنوية (البونس) لكبار المدراء أصبحت منذ عام 2019 مرتبطة بتحقيق أهداف الشركة في تخفيض الانبعاثات الكربونية.

أما المنافِسة الإنجليزية شركة بريتش بتروليوم فأعلنت عن خطتها للتوسع في قطاع الطاقة النظيفة ليصل إلى 60% من استثمارات الشركة في عام 2030. وفي هذا السياق أعلنت عن العديد من المبادرات والشراكات الاستراتيجية لبناء البنية التحتية لقطاع الهيدروجين الناشئ في أوروبا وكذلك لخلق البنية التحتية الداعمة لقطاع السيارات الكهربائية، والاستثمار في مزارع العنفات الريحية في ألمانيا والدنمارك واسكتلندا.

ولم يزل من المبكر الحكم على قدرة تأقلم عمالقة الغاز والنفط مع هذه الاستراتيجية الجديدة وقدرتهم على تنفيذها بالسرعة المطلوبة، وذلك لأسباب عديدة منها ضعف القدرة التنافسية للهيدروجين النظيف أو الأخضر وكذلك انخفاض نسبة الأرباح التشغيلية من استثمارات الطاقة النظيفة مقارنة بما اعتادت عليه شركات النفط في الماضي، ما سينعكس مستقبلاً على مزاج المستثمرين.

ولكن على المدى البعيد لا يوجد حلول مجانية تمكّن شركات النفط من الاستمرار في الوجود بشكل ذي معنى. استمرار عمالقة النفط والغاز في السوق سيتطلب منهم تخفيض الانبعاثات الكربونية بشكل ملموس وجدّي ولا يوجد حتى الآن طرائق بديلة لتنويع الاستثمارات في الأصول وفي التقنيات النظيفة.

أثر التشريع على توجيه الاستثمارات لقطاع الطاقة النظيفة

الوعي العام المتزايد بالمشاكل البيئية وارتباطها بالانبعاثات الكربونية دفع الجهات التشريعية وخاصة في أوروبا في العقد الأخير إلى خلق بنية تشريعية تحفّز على الاستثمار في الطاقات النظيفة وترفع من القدرة التنافسية للتقنيات المستخدمة والمبتكرة لهذا الغرض.

فعلى سبيل المثال، أجبرت المحكمة الهولندية العليا في سنة 2021 في حكم تاريخي غير مسبوق شركات النفط على العمل لتخفيض انبعاثاتها بما يتناسب مع تحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ. هذه التغيرات في البنية والبيئة القانونية والتشريعية تركت أثراً على بنية سوق الطاقة في أوروبا ودفعت كبار المستثمرين إلى تخفيض استثماراتهم في قطاعات الطاقة التقليدية، والتوجه للاستثمار في سوق الطاقة النظيفة الناشئ بهدف الحصول على حصص مجدية فيه.

فمتوسط المعامل التقييمي لشركة تعمل في مجال الطاقة النظيفة في أوروبا هو 13 وقد يصل إلى 20 ضعفاً لكمية النقد المتولد سنوياً قبل الأرباح وقبل الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الديْن (EBITDA). في حين لا يتجاوز هذا المعامل 7 أضعاف للشركات القائمة على النفط والغاز أو 4 أضعاف للشركات العاملة في مجال الفحم. ما دفع أيضاً الصناديق السيادية للاستثمار للدخول في هذا السوق.

فاستثمارت الصندوق السيادي النرويجي -القائم أساساً على عوائد النفط والغاز النرويجي- في قطاع الطاقة النظيفة تجاوزت الـ 22 مليار دولار في عام 2021. في حين دخل صندوق استثمار أبوظبي (ADIA) وكذلك صندوق الاستثمارات الكويتية (KIA) والاستثمارات القطرية (QIA) في عدة استثمارات في الطاقة النظيفة بالقارة الأوروبية.

ومؤخراً، في نهاية العام 2022 استحوذ صندوق الاستثمار السعودي (PIF) على حصة 9.5% من شركة سكايبورن لإنتاج الكهرباء من طاقة الرياح في ألمانيا. بينما أعلنت هيئة التقاعد الهولندية (Pensionsfonds ABP) -إحدى أكبر الهيئات الاستثمارية في أوروبا- عن نيتها بيع ما قيمته 15 ملياراً من أصولها في قطاع الطاقة والصناعة التقليدية بما فيهم حصتها في شركة شل الهولندية. في حين يطالب الصندوق الاستثماري (Third Point) شركة شل بالانقسام إلى شركتين مستقلتين: إحداهما متخصصة بالاستثمارات النظيفة والأخرى للنفط والغاز من أجل إعادة توزيع الاستثمارات بشكل أكثر كفاءة.

دخول لاعبين كبار وزيادة حدة التنافس

تظهر دراسة لشركة ماكنزي الاستشارية ظهرت في ديسمبر/كانون الثاني 2022 زيادة حدة التنافس على الأصول العائدة لاستثمارات الطاقة النظيفة في القارة الأوروبية كنتيجة لزيادة عدد اللاعبين الدوليين المهتمين بهذا القطاع وازدياد طموحاتهم بشكل واضح. فنسبة 40% من صفقات الاندماج والاستحواذ العالمية المتعلقة بالطاقة المتجددة في الأربع سنوات الماضية كانت لأصول أوروبية.

ووفقاً لإعلانات المستثمرين في هذه الصفقات، فقد كشفت الدراسة أن اللاعبين الثمانية الرئيسيين يستهدفون استحواذ أصول تتجاوز 500 غيغاوات، مقارنةً بحوالي 110 غيغاوات من الأصول الإجمالية المملوكة لهم في قطاع الطاقة المتجددة في عام 2021.

من حيث النتيجة، فإن دخول شركات النفط والغاز وكذلك الصناديق الاستثمارية السيادية وكبار المستثمرين في قطاع الطاقة المتجددة رفع من حدة التنافس في هذا القطاع ورفع من متوسط قيمة الصفقة من 150 مليون دولار في عام 2018 إلى 425 مليون دولار في عام 2022.

الأمر الذي سيتطلب في المستقبل مستوى أعلى من الاحترافية والقدرة على التعامل مع هذا النوع من الصفقات لإدارة عمليات الاستحواذ بشكل ناجح. كما سيؤدي هذا التحول البنيوي في سوق الطاقة الأوروبي إلى تسريع وتيرة التحول إلى نموذج توليد وإدارة الطاقة الصديقة للبيئة ويسهم في تخفيض تكاليف التقنيات اللازمة على المدى البعيد.

على الرغم من أن سوق الطاقة في الدول العربية وخاصة الخليجية لا يزال خاضعاً لإدارة الدولة، فإنه يمر أيضاً في مسار مشابه حيث شهدنا صفقات استحواذ قادتها شركات النفط والكهرباء الحكومية لتنويع أصولها كما أشرنا في بداية هذا المقال لصفقة أدنوك وطاقة مع مصدر.

وكذلك فإن أرامكو في السعودية تتحرك وفق رؤية واستراتيجية مشابهة. حيث إن ارتفاع عوائد النفط في العامين الأخيرين دفع العديد من الصناديق الاستثمارية العربية للتوسع في السوق الأوروبي النامي، ما سيسمح بظهور وتعميق الشراكات الاستراتيجية بين الشركات الأوروبية في قطاع الطاقة النظيفة ونظيراتها في دول الخليج.

ومن الجدير بالذكر أن سوق الطاقات المتجددة في المنطقة العربية، لا يزال سوقاً خاماً يحتاج إلى تطوير واستثمارات ويَعد بعوائد مجزية أعلى من مثيلاتها في الدول الأوروبية. تمتلك بعض الدول الخليجية رؤية وخططاً واعدة كما هو الحال في المملكة السعودية ودولة الإمارات، في حين تحتاج دول عربية كثيرة إلى تطوير بنيتها القانونية بما يسمح بجذب الاستثمارات وخلقها لتطوير قطاع الطاقة النظيفة. ولكن من المؤكد أن منطقة الشرق الأوسط تملك المؤهلات والبيئة المناسبة لتكون أحد مراكز إنتاج الطاقة النظيفة وتصديرها في المستقبل كما كانت مركزاً لإنتاج النفط والغاز على مدار العقود الماضية وتصديرهما.