ريادة الأعمال الاجتماعية: سياق ريادة الأعمال

سياق ريادة الأعمال
shutterstock.com/Who is Danny
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إنَّ نقطةَ البداية لريادة الأعمال هي ما نُسميه سياقَ ريادة الأعمال. بالنسبةِ لستيف جوبز وستيف وازنياك؛ كان سياقُ ريادة الأعمال عبارةً عن نظامٍ حاسوبيٍّ يعتمدُ فيه المُستخدمون على أجهزةِ الكمبيوتر المركزية التي يتحكَّمُ بها مُوظَّفو تكنولوجيا المعلومات المركزيّون الذين يحرسونَ الحاسوبَ المركزي مثل ضريح. تمكَّنَ المُستخدمون من إنجازِ مهامِ الحوسبةِ الخاصةِ بهم؛ ولكن فقط بعد الانتظار في الطابور واستخدامِ البرنامج الذي صمَّمه موظَّفو تكنولوجيا المعلومات. إذا أرادَ المستخدمون أن يقوم برنامجٌ ما بعملِ شيءٍ خارجٍ عن المألوف؛ كانَ يُطلبُ منهمُ الانتظارَ ستةَ أشهرٍ بينما يتمّ الانتهاءُ من البرمجة.

كانتِ التجربةُ غيرَ فعّالةٍ وغيرَ مُرضِيَةٍ من وجهةِ نظرِ المُستخدمين؛ ولكن نظراً لأن نموذج الحوسبةِ المركزيةِ كان النموذجَ الوحيدَ المُتاح، فقد احتمَلَهُ المُستخدمون وقاموا بتضمينِ التأخيراتِ والعرقلاتِ ضمنَ جدولِ عملِهم؛ مما أدَّى إلى حدوثِ توازنٍ رغمَ أن النموذجَ غيرَ مُرضٍ.

سياق ريادة الأعمال

يصفُ علماءُ ديناميكياتِ الأنظمةِ هذا النوعَ من التوازنِ بأنه “حلقة تقديم آراء وتعليقات متوازنة”؛ حيث أنه لا توجدُ قوةٌ قويّةٌ لها تأثيرٌ محتملٌ قد يُسبِّبُ كسرَ النظام وإخراجَهُ عن توازُنِه الخاص. الأمرُ مشابهٌ لمنظّمِ الحرارةِ الموجودِ في مُكيّفِ الهواء: عندما ترتفع درجة الحرارة يعملُ مكيّفُ الهواء ويُخفّضُ درجةَ الحرارة، وفي النهاية يقوم مُنظِّمُ الحرارة بإيقاف تشغيل مُكيِّفِ الهواء.

كان نظامُ الحوسبةِ المركزيةِ الذي كان على المُستخدمين تحمُّلُهُ نوعاً مُعيّناً من التوازن، نوعاً غيرَ مُرضٍ. يبدو الأمر كما لو كان مُنظِّمُ الحرارةِ مضبوطاً على خمسِ درجاتٍ أقلَّ بحيثُ يكونُ كلُّ من في الغرفةِ بارداً؛ مما يجعلُ الناسَ يرتدونَ ستراتٍ إضافيةً لعلمهم بوجودِ درجةِ حرارةٍ ثابتةٍ ويُمكنُ التنبُّؤُ بها؛ على الرغم من أنهم قد يرغبون ألّا يضطرّوا لفعلِ ذلك بالطبع.

حدَّد بيير أوميديار وجيف سكول توازناً غير مُرضٍ في عدم قُدرةِ الأسواقِ القائمةِ على أساسٍ جُغرافيٍّ على تحسينِ مصالح كلٍّ من المُشتَرين والبائعين؛ لا يَعرفُ البائعون عادةً من هو أفضلُ مُشتَرٍ ولا يعرفُ المُشترون عادةً من هو أفضل (أو من هو) البائع. نتيجةً لذلك؛ لم يكن السوقُ هو التجربةَ الأمثل للمشترين أو البائعين. الأشخاص الذين يبيعون السلع المنزلية المستعملة، على سبيل المثال؛ يقومون بإجراءِ عروضِ بيعٍ في مرائِبِهم والتي جذبت مُشترينَ قريبينَ؛ ولكنهم في الغالب ليسوا العدد الأمثل أو النوع الأفضل من المشترين، بينما الأشخاص الذين يحاولون شراءَ سلعٍ غامضةٍ فليسَ لديهم أيُّ حلٍّ سوى البحثُ في أدلّةِ الهواتف والاتصال الهاتفي مراراً وتكراراً لمحاولةِ تَعقُّبِ ما يُريدونَهُ حقاً، وغالباً ما يتنازلونَ ويرضونَ بشيءٍ أقلَّ مما يُريدونه حقاً. نظراً لأن المشترين والبائعين لم يتمكنوا من تصوُّرِ إجابةٍ أفضل؛ سادَ التوازن المستقرّ؛ ولكنه كانَ دونَ المستوى الأمثل.

لاحظ كلٌّ من “آن” و “مايك مور” وجودَ توازنٍ دونَ المستوى في الخيارات المحدودة للوالدين لحملِ أطفالِهم؛ كان لدى الآباء الذين يرغبون في إبقاءِ أطفالِهم قربهم أثناءَ القيام بالمهام الأساسية خياران: يمكنهم أن يتعلموا الحملَ والهزَّ بذراعٍ واحدةٍ أثناء إنجازِ الأعمالِ المنزلية بالأخرى، أو يمكنُهم وضعُ الطفلِ في عربةِ أطفال أو مقعدٍ أو سريرٍ وإبقاؤه في مكانٍ قريب. كان كلا الخيارين أقلَّ من مثاليّ. يعلمُ الجميعُ أن الأطفالَ حديثي الولادةِ يستفيدونَ من الترابطِ الذي يحدُثُ بسببِ الاتصالِ الجسديِّ الوثيقِ مع أمهاتِهم وآبائهم؛ ولكن حتى الآباءُ الأكثرُ انتباهاً وتفانياً لا يمكنُهُم حملُ أطفالِهم باستمرار. مع عدم وجودِ خياراتٍ أخرى؛ كان الآباء يواجهونَ العراقيل بينما يتعلَّمون نقلَ طفلِهم من أحدِ الجانبينِ إلى الآخر، ويُصبحونَ ماهرين في “تعليقِ الأوراقِ بذراعٍ واحدة”، أو محاولةِ إنجازِ مهامِهم أثناءَ وقتِ القيلولة.

في حالةِ فريد سميث؛ كان التوازنُ غيرُ الأمثلِ الذي رآهُ هو خدمةُ البريد السريع للمسافاتِ الطويلة. قبل ظهور فيد اكس، لم يكن إرسالُ طردٍ من منطقةٍ إلى أخرى في البلادِ أمراً بسيطاً؛ كانت خدمات البريد السريع المحلية تحملُ الطردَ وتنقله إلى شركةِ نقلٍ مشتركةٍ؛ والتي بدورها تنقلُ الطرد إلى مدينة الوجهةِ البعيدة، وعند هذه النقطة يتم تسليمه إلى طرفٍ ثالثٍ يقومُ بالتسليم النهائي (أو ربما إلى مركز البريد المحلي في تلكَ المدينة إذا كان الطرفُ الثالثُ شركةً وطنية). 

كان هذا النظام مُعقّداً من الناحية اللوجستية، ويشملُ عدداً كبيراً من عمليات التسليم، وكانَ الجدول الزمنيُّ محدّداً وفقَ احتياجات شركات النقل المشتركة. غالباً ما كانَ يحدث خطأٌ ما؛ لكن لا يتحمَّلُ أحدٌ مسؤوليةَ حل المشكلة، ومع ذلك، فقد تعلَّمَ المُستخدمون التعايشَ مع خدمةٍ بطيئةٍ وغير موثوقةٍ وغيرِ مُرضِيَةٍ ؛ وهو وضعٌ غيرُ سارٍّ ولكنه مستقرٌّ لأنه لا يمكن لأي مستخدم تغييره.

خصائص رائد الأعمال

ينجذبُ رائدُ الأعمال إلى هذا التوازن غير الأمثل، ويرى فيهِ فرصةً لتقديمِ حلٍّ أو منتجٍ أو خدمةٍ أو عمليةٍ جديدةٍ. السببُ الذي يجعل رائد الأعمال يرى هذا الظرفَ فرصةً لابتكارِ شيءٍ جديدٍ، بينما يرى الكثير من الآخرين أنه مصدرُ إزعاجٍ يجبُ تحمُّله، ينبعُ من مجموعةٍ فريدةٍ من الخصائصِ الشخصيةِ التي يتحلَّى بها روّادُ الأعمال – الإلهام، والإبداع، والعملُ المباشر، والشجاعة، والثبات. هذه الخصائص أساسيةٌ لعملية الابتكار.

رائدُ الأعمال مصدرُ إلهامٍ لتغيير التوازن غير السارّ؛ قد يتم تحفيز رواد الأعمال للقيام بذلك لأنهم مستخدِمونَ مُحبَطون أو لأنهم يتعاطفون مع المُستخدِمين المُحبَطين. في بعض الأحيان؛ تستحوذُ فُرصةُ تغييرِ الأشياء على رواد الأعمال لدرجةِ أنهم يمتلكون رغبةً شديدةً في هدمِ الوضع الراهن. في حالة إي باي، كان المُستخدمُ المحبطُ هو صديقةُ أوميديار، التي جمعت عبوات بيز.

يُفكرُ رائد الأعمال بشكلٍ خلاقٍ ويُطوِّرُ حلاً جديداً يتعارضُ بشكلٍ كبيرٍ مع الحل الحالي. لا يُحاولُ رائدُ الأعمال تحسين النظام الحالي بإجراء تعديلاتٍ طفيفةٍ؛ ولكنه بدلاً من ذلك يجدُ طريقةً جديدةً تماماً للتعامل مع المشكلة. لم يُطوِّر أوميديار وسكول طريقةً أفضل للترويج لأسواقِ مرائبِ السيارات. لم يطور جوبز ووازنياك خوارزمياتٍ لتسريعِ تطويرِ البرامجِ المُخصصة. ولم يخترع سميث طريقةً لجعل عمليات التسليم بين شركات البريد السريع وشركات النقل العامة أكثر كفاءةً وخالية من الأخطاء؛ بل وجدَ كلٌّ منهم حلاً جديداً تماماً وخلاقاً للمشكلة المطروحة.

يتّخذُ رائدُ الأعمال إجراءاتٍ مباشرةً بمجردِ أن يجدَ الإلهامَ والفرصةَ والحلَّ الإبداعي، وبدلاً من انتظار تدخُّلِ شخصٍ آخر أو محاولةِ إقناع شخص آخر لحلِّ المشكلة؛ يتخذُ رائد الأعمال إجراءاتٍ مباشرةً من خلال إنشاءِ منتجٍ أو خدمةٍ جديدةٍ والمغامرةِ لتطويرها. لم يقُم جوبز ووازنياك بحملةٍ ضدَّ الحواسيبِ المركزيةِ، ولم يُشجِّعوا المستخدِمين على النهوض والإطاحةِ بقسم تكنولوجيا المعلومات؛ لقد اخترعوا جهاز كمبيوترٍ شخصيٍّ يسمح للمستخدمين بتحرير أنفسهم من الكمبيوتر الرئيسي. لم تنشر مور كتاباً يُخبرُ الأمهات عن كيفية إنجازِ المزيد في وقتٍ أقل؛ لقد طَوَّرت سناغلي؛ وهي حقيبةٌ أماميةٌ أو حقيبةُ ظهر بدون إطار تُمكّنُ الوالدَين من حملِ أطفالهم مع الاحتفاظ بكلتا يديهم حُرّتين. بالطبع؛ يجبُ على رواد الأعمال التأثير على الآخرين: المستثمرون الأوائل، حتى لو كانوا مجرَّد أصدقاء وأفراداً من العائلة، ثم الزملاء والموظفين للعمل معهم، وأخيراً؛ العملاء، لشراءِ أفكارهم وابتكاراتهم. النقطةُ المهمةُ هي التفريقُ بين مُشاركةِ صاحب المشروع في العمل المباشر وبين الإجراءات الداعمة وغير المباشرة الأخرى.

يُظهر رواد الأعمال شجاعتهم طوال عملية الابتكار، ويتحملون عبء المخاطرة ويضعونَ الفشلَ في الحُسبانِ دون خشيةٍ إن لم يكونوا يواجهونه بشكلٍ متكرر. غالباً ما يتطلَّبُ هذا من رواد الأعمال تحمُّلَ مخاطرَ كبيرةٍ والقيامَ بأشياءٍ يعتقد الآخرون أنها غير حكيمة، أو حتى غير قابلةٍ للتنفيذ. على سبيل المثال؛ كان على سميث أن يُقنعَ نفسَه والعالم بأنه من المنطقي الحصول على أسطولٍ من الطائرات وبناء مطارٍ ضخمٍ ومركزِ فرزٍ في ممفيس؛ من أجل أن يتمكّنَ من تسليم الطرودِ في اليوم التالي دون أن تضطرَّ فيد اكس إلى تسليمه لأيِّ طرفٍ آخر على الإطلاق، ولقد تمكّنَ من فعلِ ذلك في وقتٍ كان فيه جميع منافسيه الراسخين يمتلكونَ أساطيلَ شاحناتٍ فقط للاستلام والتسليم المحلي – وهم بالتأكيد لم يُديروا المطارات ويحافظوا على أعدادٍ هائلةٍ من الطائرات.

أخيراً؛ يمتلكُ روادُ الأعمال الجرأةَ لدفع حلولهم الإبداعية حتى تؤتي ثمارها ويتمَّ اعتمادُها في السوق، ولا ينطلقُ أي مشروعٍ رياديٍّ بدون انتكاساتٍ أو منعطفاتٍ غير متوقعةٍ، ويحتاج رائد الأعمال إلى أن يكون قادراً على إيجاد طرقٍ إبداعيةٍ للتغلُّبِ على الحواجز والتحديات التي تنشأ. كان على سميث أن يكتشفَ كيفيَّةَ إبقاءِ المستثمرين على ثقةٍ من أن فيد اكس ستُحقِّقُ في النهايةِ الحجمَ المطلوبَ لدفعِ تكاليفِ البُنيةِ التحتيةِ الثابتةِ الضخمةِ للشاحنات والطائرات والمطارات وأنظمة تكنولوجيا المعلومات المطلوبة للنموذج الجديد الذي كان يقوم بإنشائه. كان على فيد اكس أن تنجو من مئات الملايين من الدولارات من الخسائرِ قبلَ أن تصل إلى حالةِ التدفقِ النقديِّ الإيجابيةِ الحاليَّةِ، وبدونِ وجودِ رجلِ أعمالٍ مُلتزمٍ على رأسِ الشركة؛ كان من الممكن تصفيتُها قبلَ تلكَ النقطةِ بفترةٍ طويلةٍ.

يودُّ المؤلفون أن يشكُروا زملائهم في مؤسسة “سكول”: ريتشارد فاهي كبير مسؤولي التشغيل، وروث نوريس، كبيرة مسؤولي البرامج، اللذان قرآ المسودّات السابقة لهذا المقال وساهما بأفكار مهمة في تطوّره.

لمتابعة الجزء الأول من السلسلة؛ أقرأ: ريادة الأعمال الاجتماعية: تعريف الحالة

لمتابعة الجزء الثالث من السلسلة؛ اقرأ: التحول إلى ريادة الأعمال الاجتماعية

لمتابعة الجزء الرابع من السلسلة؛ اقرأ: ما هي حدود ريادة الأعمال الاجتماعية؟

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.