يغذّي التنوع البيولوجي جميع العمليات اللازمة للحفاظ على حياة صحية؛ من الهواء الذي نتنفسه إلى الغذاء الذي نتناوله، ويرتبط ارتباطاً واسعاً ومعقداً بالأنظمة البيئية التي نعيش فيها. ومع تسارع معدل فقدان هذا التنوع ستواجه البشرية كارثة حقيقية يمكن تجنبها من خلال تبنّي الابتكار إلى جانب التزامات الشركات والجهود الحكومية.
ناقوس الخطر يدق
تشير الأرقام والتحليلات إلى أن فقدان التنوع البيولوجي العالمي يحدث بمعدل غير مسبوق، إذ انخفضت أعداد الحياة البرية بنسبة 70% وسطياً منذ عام 1970، الأمر الذي أدى إلى تراجع حصة الثدييات البرية من الكتلة الحيوية للثدييات العالمية من 17% في عام 1900 إلى 4% فقط في عام 2015.
يمثل التنوع البيولوجي شريان الحياة للاقتصاد العالمي، إذ يعتمد أكثر من نصف إجمالي الناتج المحلي العالمي، ما يعادل 44 تريليون دولار، على الموارد الطبيعية، لكن مع فقدان ما يقرب من 70% من التنوع البيولوجي في العالم خلال العقود الخمسة الماضية، ووجود مليون نوع على شفا الانقراض أصبح فقدان التنوع البيولوجي يمثل تهديداً واضحاً لصحة الإنسان والأمن الغذائي والمجتمعات الريفية.
من ناحية أخرى، يشهد التمويل اللازم للحد من فقدان التنوع البيولوجي وتسهيل التحول نحو الأساليب المستدامة للإنتاج والاستهلاك تراجعاً مثيراً للقلق يبلغ 700 مليار دولار سنوياً.
وركزت الجهود العالمية من خلال اتفاق باريس من أجل الطبيعة، والإطار العالمي للتنوع البيولوجي على عكس اتجاه خسارة التنوع البيولوجي العالمي بحلول عام 2030 وتحسين أحوال الطبيعة بحلول عام 2050، لكن التوصل إلى إجماع لن يكون مفيداً إلا إذا أعقبه عمل، وللأسف لا تزال خطة العمل غير واضحة، ففي عام 2010 اتفق المجتمع العالمي على مجموعة من أهداف التنوع البيولوجي تسمى "أهداف آيتشي" وفشل في تحقيقها بسبب عدم الاتفاق على خطة تنفيذ واضحة.
ولكن هناك أمل في إمكانية الحد من خسارة التنوع البيولوجي، فعلى مستوى السياسات مثلاً؛ أدخلت إنجلترا قوانين جديدة ستجبر شركات البناء على الإسهام في تحسين النظم البيئية الطبيعية للمشاريع الجديدة التي يتم تنفيذها، وشهد القطاع الخاص خطوات إيجابية في هذا الإطار تتمثل في تبنّي أكثر من 300 شركة توصيات فرقة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتعلقة بالطبيعة (TNFD)، ودمجت الإفصاح المرتكز على الطبيعة في تقاريرها.
ومع ذلك، هناك حاجة مُلحة إلى التركيز أكثر على الابتكار من أجل خلق عالم أكثر مرونة وتنوعاً بيولوجياً.
نحو بيئة طبيعية أكثر غنى
إن الاستفادة من قوة التكنولوجيا والتعاون ستساعد على تطوير حلول مبتكرة لمعالجة الأسباب الجذرية لتدهور التنوع البيولوجي، بدءاً من الطرق الجديدة لقياس التنوع البيولوجي ورصده وصولاً إلى الحلول التي تعزز سلاسل القيمة المحلية.
على سبيل المثال، تستخدم شركة نيتشر ميتركس (NatureMetrics) في المملكة المتحدة التقنيات الجينية المتطورة لرصد التنوع البيولوجي والإبلاغ عنه، حيث تجمع آثار الحمض النووي التي تتركها الكائنات الحية في أثناء تحركها عبر البيئة وتحليلها، ثم تنقل هذه البيانات في شكل خرائط ورسوم بيانية ولوحات معلومات تفاعلية للشركات والحكومات والمؤسسات غير الحكومية في جميع أنحاء العالم حتى تتمكن من قياس الاستثمارات في التنوع البيولوجي وتتبعها بدقة.
وتوظف شركة بوميترا (Boomitra) الأميركية تقنيات الذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بُعد للإبلاغ عن محتوى الكربون في التربة والتحقق منه لمساعدة المزارعين على تبنّي الممارسات التي تُسرع إزالة الكربون من أراضيهم، كما تحدد الشركة كمية الكربون المحتجز لتوليد أرصدة كربون تم التحقق منها لتتمكن من بيعها للشركات والحكومات التي تسعى إلى تحقيق أهداف الاستدامة الخاصة بها.
وتقدم شركة تيراسوس (Terrasos) الناشئة في كولومبيا آليات تمويل فعّالة للحفاظ على التنوع البيولوجي، مثل اعتمادات التنوع البيولوجي وبنوك الموائل، كما تشارك الشركة مع ملاك الأراضي من القطاع الخاص للحفاظ على الأراضي التي تضررت بسبب أنشطة مثل التعدين والزراعة واستعادتها.
وتعد دول منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً الدول العربية، غنية بالتنوع البيولوجي لكنه مهدد بالتدهور، فمع بيئة شديدة الجفاف بسبب مشكلة ندرة المياه تبرز حلول مبتكرة وعلمية يمكنها تعزيز البيئة والحفاظ عليها، حيث طُورت تقنيات تعديل التربة في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في السعودية، مثل تقنية الرمال الفائقة المقاومة للماء وتقنية الفحم الحيوي المعدل هندسياً لتعزيز كفاءة الري واستخدام الأسمدة.
إن معالجة تحديات الحفاظ على البيئة الحالية يتطلب استكمال الجهود الحالية بأساليب مبتكرة تعتمد على تقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي، والطائرات دون طيار، وأجهزة الاستشعار من أجل تتبع تغيرات درجات الحرارة، وإحصاء عدد أنواع النباتات والحياة البرية، ورصد تغيرات مستويات المياه وأحجامها.
وهذا يحتاج إلى تعاون الحكومات عبر سن القوانين وتطبيق سياسات الحفاظ على التنوع البيولوجي، وإسهام الشركات من خلال دمج الممارسات التي تركز على البيئة الطبيعية في عملياتها.
لا تزال إمكانية إنقاذ التنوع البيولوجي في متناول أيدينا، دعونا لا نفوت الفرصة ونستثمر أكثر في الحلول المبتكرة والواعدة وعلى نطاق أوسع.