في ظل التحديات والتغيرات العالمية تزداد الحاجة إلى تعليم الابتكار الاجتماعي لتطوير منتجات وخدمات وأنظمة وحلول جديدة تعالج المشاكل الأكثر تعقيداً وإلحاحاً مثل الفقر والصحة وعدم المساواة وتغير المناخ، التي تتجاوز حدود التخصصات، وتتطلب إشراك المواطنين وصنّاع التغيير من مختلف مناحي الحياة.
مشاركة الجميع في خلق عالم أفضل
تشير الدراسات إلى أن الابتكار التكنولوجي يمثل قوة رئيسية للنمو الاقتصادي، وعملياً، يحتاج انتشار التكنولوجيا الحديثة إلى الابتكار الاجتماعي وتوفير بيئة مناسبة لتوليد معرفة جديدة واختبارها وتعميمها وخلق وعي عميق بحاجات المجتمع وكيفية توظيف المعرفة والخبرات لتلبيتها.
يرسم الابتكار الاجتماعي خارطة طريق لجعل العالم مكاناً أفضل للعيش، وبذلك فهو لا يقتصر على الشركات فقط، بل يرتبط أيضاً بالتعاون بين الأشخاص ذوي وجهات النظر المختلفة من أجل وضع نماذج وسياسات أعمال جديدة لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية على نحوٍ مباشر.
فالابتكار الاجتماعي مدفوع بالهدف والشراكة والمساءلة من أجل تطوير الحلول والاستجابة بطريقة أكثر فعّالية للاحتياجات غير المشبعة عبر إشراك الأشخاص المُستبعدين من المشاركة في صناعة التغيير.
وعليه، يمثل تعليم الابتكار الاجتماعي نهجاً تربوياً يهدف إلى تزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات والمواقف والقيم التي تساعدهم على تحديد القضايا المعقدة وتحليلها وحلّها، ويركز على الأساليب التجريبية والتفاعلية التي تخلق لدى الطلاب عقلية نقدية وشعوراً بالتعاطف والمسؤولية، وتبني لديهم رؤية للتغيير الإيجابي.
إعداد صُناع التغيير وقادة المستقبل
يركز تعليم الابتكار الاجتماعي على إخراج الابتكار من مجالاته التقليدية مثل الأعمال والهندسة، لتعليم جميع الطلاب مختلف أنواع المهارات لمساعدتهم على التفكير في الحلول وتنفيذها، وبذلك سيسهم في تعزيز التفاهم المتبادل والإجماع حول ضرورة تعدُد مصادر الحلول والتعاون في مختلف مجالات الخبرة والتعليم، ومراعاة التركيبة السكانية وخصوصية الهوية المحلية.
يتسم تعليم الابتكار الاجتماعي بمزايا متعددة للطلاب وللمعلمين وللمؤسسة التعليمية نفسها، إذ يساعد الطلاب على تطوير الكفاءات والقدرات اللازمة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين مثل حل المشكلات والتفكير النقدي، ومحو الأمية الرقمية، ويحولهم إلى عنصر فعّال لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وخدمة الصالح العام، ويلهمهم لاتباع مسار مهني يتماشى مع قيمهم وأهدافهم ويقدم قيمة اجتماعية مضافة.
ويمكن أن يساعد تعليم الابتكار الاجتماعي على إثراء التطور المهني للمعلمين ويحسّن من فعالية أدائهم في التدريس، ويعزز سمعة المؤسسة التعليمية من خلال التركيز على ثقافة التعاون والابتكار التي تضمن جذب المزيد من الطلاب والموظفين والاحتفاظ بهم.
من هنا، تزداد الدعوات لدمج الابتكار في مقررات التعليم المدرسي والجامعي وضمن تخصصات متعددة، فاقترحت دراسة بريطانية بعنوان: "تعليم الابتكار الاجتماعي: نحو إطار لتعلم التصميم"(Social Innovation Education: Towards A Framework For Learning Design) إطاراً نظرياً يدعم تضمين تعليم الابتكار الاجتماعي في البرامج الأكاديمية القائمة، وفي إيرلندا تُعنى مبادرة من الشغف إلى العمل (From Passion to Action) بصقل المهارات، وتمكين أعضاء هيئة التدريس من تضمين الابتكار الاجتماعي وريادة الأعمال في تخصصاتهم، لتعزيز تفكير الطلاب ومهاراتهم وسلوكهم.
وبرزت تجارب ناجحة للنهوض بالابتكار الاجتماعي عبر دمجه في التعليم، مثل إدراج الابتكار الاجتماعي في منهج كلية إدارة الأعمال بجامعة كيب تاون، جنوب إفريقيا، لكن لا يزال تعليم الابتكار الاجتماعي في مراحله الأولى. ويمكن تطويره إذا أصبح عملية مستمرة داخل الفصول الدراسية وخارجها، وإذا تبنّت المؤسسات التعليمية البحوث الكمية والنوعية والتجريبية لتزويد الطلاب بأدوات المعرفة والخبرة والإبداع والخيال التي تساعد على حل أصعب مشاكل العالم.
كيف نُدرِس الابتكار الاجتماعي؟
لا يعد دمج الابتكار الاجتماعي في المناهج الدراسية مسألة معقدة للغاية، فالأمر يعتمد على الموضوع والمستوى والسياق، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تنوع الموضوعات المرتبطة بتعلم الابتكار الاجتماعي، مثل تغير المناخ والعدالة الاجتماعية، لتزويد الطلاب بمجموعة متنوعة من المهارات ووجهات النظر حول هذه الموضوعات والتوصل إلى حلول مبتكرة لها.
وعليه، يمكن التعريف بمفاهيم الابتكار الاجتماعي ومبادئه من خلال الدورات الحالية التي تنظمها المدارس والجامعات أو إطلاق وحدات جديدة أو تقديم دورات اختيارية متعمقة حول موضوعات الابتكار الاجتماعي. على سبيل المثال، يمكن توضيح كيفية تصميم منتج مستدام ليكون جزءاً من تعلُم ابتكار المنتجات. لكن ما الأسلوب الأمثل الذي يجب اتباعه عند تعليم الابتكار الاجتماعي؟
لكل طالب رؤيته الخاصة بشأن قدرته على تغيير العالم، لذا لا توجد صيغة واحدة تناسب الجميع، ما يعني أنه يمكن للمعلمين استخدام أساليب تدريس مختلفة، مثل التفكير التصميمي والنُظمي والتعاون على حل المشكلات، فالتفكير التصميمي، على سبيل المثال، يدمج تخصصات التصميم مع العلوم الاجتماعية لمعالجة المشاكل المجتمعية والبيئية الصعبة، فيما يساعد التفكير النُظمي الأشخاص على فهم كيفية تفاعل الأجزاء المختلفة للنظام بعضها مع بعض.
وتعد دراسات الحالة، والتعامل مع شركاء أو موجهين خارجيين، والمشاركة في المسابقات، والعروض التقديمية التي تعرض نتائج التعلم والأثر الاجتماعي من الأدوات التي يمكن توظيفها في تعليم الابتكار الاجتماعي، بالإضافة إلى الأساليب التجريبية القائمة على المشاريع التي تُمكن الطلاب من تطبيق معارفهم ومهاراتهم في الحياة العملية.
وفقاً لما سبق، يحتاج إعداد أفراد قادرين على تحديد مشاكل العالم المتغيرة باستمرار وإيجاد حلول لها، إلى أنظمة تعليمية قائمة على ثلاثة عناصر رئيسية:
1. تشجيع التعاطف
يجب مساعدة الطلاب على النظر إلى المواقف الاجتماعية من وجهة نظر شخصية، ولكن أيضاً من منظور عالمي أوسع، ويمكن تحقيق ذلك من خلال أساليب تدريس تركز على تحليل دراسات الحالة مع الطلاب، ومطالبتهم بكتابة مقالات تعكس تجاربهم في التعلم وتشجيعهم على لعب أدوار الأشخاص الذين يواجهون تحديات مثل الحروب وتغير المناخ، وحثّهم على تنفيذ مشاريع اجتماعية محلية.
2. اكتشاف مركز التحكم الداخلي
يدور مفهوم مركز التحكم الداخلي (Locus of control) حول تصور شخص ما للسيطرة على مساره المهني أو مراحل حياته، ويعزو الأشخاص ذوو تحكم داخلي عالٍ نجاحاتهم أو إخفاقاتهم إلى الجهود الشخصية بدلاً من الحظ، فيما يميل الأشخاص ذوو التركيز الداخلي المنخفض إلى الاعتقاد أن مسار حياتهم مرتبط بتأثير القوى الخارجية.
فيما يخص تعليم الابتكار الاجتماعي، يمكن للمدارس والجامعات استضافة متحدثين أو تنظيم الفعاليات السياسية والمبادرات التطوعية، لتوعية الطلاب بأن ممارسات شخص واحد، خاصة عند استخدام قدرته الابتكارية، قد تُحدث تغييراً إيجابياً في المجتمع أو خارجه، ومن الضروري أيضاً مناقشة التأثير المُضاعف الذي يمكن أن تحدثه قرارات أصحاب السلطة التي تتحكم بالموارد والمجتمعات.
3. التفكير التصميمي
يعالج التفكير التصميمي احتياجات الأشخاص الذين يستهلكون منتجاً أو خدمةً ما، والبنية التحتية التي تمكّنه. إذ يرتبط التصميم بالقدرة على ابتكار ما هو جديد وربط الأنظمة وتبسيط المعنى ونقله بسهولة وتصوُر ما لم يكن تصوره ممكناً.
قد يغير التصميم قواعد اللعبة في الابتكار الاجتماعي، لكن الأمر يتطلب طريقة لمعرفة السياقات التي يحدث فيها هذا الابتكار، واكتساب المهارات وتوفير الوسائل اللازمة لتسهيل العملية وتعزيز التعاون، لذا يؤدي التفكير التصميمي دوراً محورياً في حثّ الطلاب على استكشاف السيناريوهات والإمكانيات المستقبلية، فتعرضهم لمواقف جديدة وقدرتهم على تجاوز قيود بناء شبكة العلاقات والوقت المحدود المتاح لهم للتعاون الهادف، سيعزز عمق البصيرة التي يمكنهم اكتسابها عند محاولة حل مشكلة ما.
على سبيل المثال، قد لا يكون طالب التصميم الغرافيكي على دراية بالهندسة المعمارية أو الجيولوجيا، ولكن كلا المجالين أثّرا حتماً على حياته بطريقة ما. ومن خلال فتح أفق الطلاب على إمكانيات التعلم والتخيل والإبداع بهذه الطريقة، يمكنهم حل المشكلات برؤى نابعة من فهمهم لمجالات أخرى وليس فقط ناتجة عن خبرتهم وتجربتهم.
إن دمج الابتكار الاجتماعي في التعليم أمر مهم وعاجل حتى يتمكن الجميع من الاضطلاع بدورهم في التأثير وإحداث الفرق، سواء كان ذلك من خلال اختراع لقاح جديد للقضاء على مرض ما، أو إنشاء عمل تجاري يخلق فرص عمل لملايين الأشخاص، أو ببساطة تقليل الأثار السلبية للمنتجات.