كيف يسهم تعزيز قدرات الطلاب الإبداعية في تغيير مستقبلهم؟

5 دقائق
الإبداع
freepik.com/rawpixel.com

هل "الإبداع" قدرة استثنائية يولد بها الإنسان المبدع؟ أم أنها مهارة مكتسبة يمكن للجميع اكتسابها؟

خضع هذا السؤال للعديد من الدراسات والأبحاث، منها تطوير نموذج مبتكر لصالح وكالة "ناسا" أجراه العالم "جورج لاند" لمساعدة الوكالة على توظيف مهندسين وعلماء مبتكرين بناءً على طلبها. وحينما حقق النموذج نجاحاً باهراً، قرر "لاند" إعادة استخدامه للإجابة عن السؤال السابق، فأجراه على 1,600 طفل تتراوح أعمارهم بين 4 و5 سنوات. فكانت النتيجة أن 98% سجلوا درجات عالية في الإبداع، وصنفوا على أنهم عباقرة.

حفزت هذه النتيجة فريق "لاند" لاستكمال الدراسة، فقرروا تتبع المجموعة ذاتها على مدار عشر سنوات أخرى. وكانت النتيجة أنهم أبدو درجات منخفضة كلما تقدمت أعمارهم. ففي سن العاشرة، وجد أن 30% فقط من الأطفال ما زالوا يصنفون ضمن مستوى العبقرية، وفي سن الخامسة عشر وصلت النسبة إلى 12% فقط. وكانت المفاجأة الكبرى، حينما قرر الفريق تطبيق الاختبار على مجموعة من البالغين، فلم تتجاوز نسبة المبدعين 2% منهم.

"البشر يولدون مبدعين، ومع تقدم السن تضمر هذه القدرات الإبداعية"، هذا ما خلصت إليه هذه الدراسة وغيرها من الدراسات المشابهة. غير أن جدالاً ما زال قائماً منذ القرن الماضي حول هذه النتيجة خاصة في الأوساط الأكاديمية والتعليمية، إذ يعزو بعض علماء النفس والأكاديميين هذا الاختلاف إلى نظام التعليم التقليدي الذي لا يترك مجالاً كبيراً للتفكير العميق، وإنما يعتمد على نموذج المناهج الثابتة، والإجابة الصحيحة الموحدة، واختبارات الذكاء النمطية، ونظم التقييم التقليدية. ففي حديث "TED" الأكثر مشاهدة على الإطلاق، ألقى المؤلف الإنجليزي، كين روبنسون محاضرة بعنوان "المدارس تقتل الإبداع" مشيراً إلى أن "الإبداع لا يقل أهمية عن محو الأمية ويجب أن نمنحه نفس المكانة".

دور المعلمين.. المحفز القوي لدمج التفكير الإبداعي في عقول الطلاب

وتركز أبحاث متعددة على دور المعلمين، بشكل خاص، في دمج الإبداع ضمن العملية التعليمية، باعتبارهم القوة الحقيقية وراء اكتشاف القدرات الإبداعية للأفراد.

ومن ضمنهم، دراسة لباحث سوري، بعنوان "تحسين القدرة الإبداعية كمحور رئيسي لتعزيز التعليم في التصميم المعماري"، والتي ركزت على أهمية تدريس التفكير الإبداعي لتطوير القدرات العقلية وإنتاج حلول إبداعية. واستندت إلى تحليل أساليب التدريس المستخدمة في قسم الهندسة المعمارية في جامعة دمشق كدراسة حالة.

فيقول الباحث يامن إدلبي: "إن هدف التعليم لا يقتصر على اكتساب معرفة جديدة ومجموعة واسعة من المهارات، ولكن يمتد لتحقيق تغيير شامل عميق في سلوك الطلاب واستخدام طاقتهم الكامنة من خلال الأدوات والأساليب اللازمة لتطوير القدرات الإبداعية".

وانقسمت الدراسة من الناحية التطبيقية إلى مرحلتين، الأول عبارة عن استبيان شمل أساتذة وطلاب، للوقوف على دور الأساتذة في تنمية القدرات الإبداعية للطلاب. إذ شمل استبيان أسئلة عن تقييم الأساتذة لأعضاء هيئة التدريس ومقارنتهم بجامعات عربية ودولية أخرى، ومدى اهتمامهم بحضور دورات لتعليم الأساليب الإبداعية، وإذا ما كانوا يحفزون الطلاب على تقديم مشاريعهم بطريقة مبتكرة، ويمنحونهم الفرصة للتعبير عن أفكارهم الإبداعية حتى لو كانوا مخطئين، وعن اعتقادهم أن تنمية المهارات الإبداعية للطلاب هي مسؤولية أعضاء هيئة التدريس، وغيرها.

أما المرحلة الثانية، فشملت ورشتي عمل تدعمان الاستبيان، وكانت الأولى موجهة للطلاب وشملت 35 من الطلبة، وضمت محاضرات نظرية، ومجموعة تمارين لتعليم كيفية التفكير بطريقة إبداعية باستخدام الخرائط الذهنية والعصف الذهني. أما الورشة الثانية، فاستهدفت 20 محاضراً و15 طالباً من ورشة العمل الأولى. وضمت محاضرات عن القدرات الإبداعية والأفكار والاستراتيجيات في التصميم المعماري، وتمارين تحديد المستوى التي تستخدم تمارين الإبداع مثل العصف الذهني، وأخيراً طُلب من المحاضرين تقديم مشاريع نظرية وعملية تعتمد على الأساليب التعليمية الجديدة المستخدمة في تدريس كيفية التفكير الإبداعي.

وتوصلت الدراسة إلى أن بعض أساليب واستراتيجيات التطوير لتدريس التفكير الإبداعي في جامعة دمشق تشبه المناهج التعليمية أو ورش العمل التدريبية في جامعات عالمية أخرى. وحفزت هذه النتيجة غالبية أعضاء هيئة التدريس في جامعة دمشق الذين لم يكن لديهم أي مقرر ذي صلة بهذه المناهج التي تعزز القدرات الإبداعية إلى السعي لحل الفجوة المفقودة في النظام التعليمي.

دمج الإبداع في العملية التعليمية لم يعد خياراً 

سلطت الدراسة الضوء على أهمية دمج طرق تدريس الإبداع ضمن العملية التعليمية. خاصة مع نمو قطاع الصناعات الإبداعية حول العالم ليصبح أحد القوى الكبرى في عصرنا، وفقاً لتقرير منظمة اليونسكو. إذ تضاعفت قيمة السوق العالمي للسلع الإبداعية من 208 مليار دولار في عام 2002 إلى 509 مليار دولار في عام 2015. كما توفر ما يقرب من 30 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، خاصة أن الوظائف التي ترتبط بالمهارات الإبداعية هي الأكثر ثباتاً في للمستقبل، ومن الصعب استبدالها بالروبوتات أو أجهزة الكمبيوتر.

ولا تقتصر مهارات الإبداع على الصناعات الإبداعية فقط، إذ تعتمد جميع الصناعات على إبداع موظفيها لإنشاء منتجات وخدمات جديدة، وحل المشكلات للتحديات المتغيرة باستمرار، والابتكار للمستقبل. ومن المتوقع أن يكون الإبداع ضمن مجموعة المهارات الأكثر صعوداً في جميع الصناعات في العقد المقبل، وفقاً لتقرير مستقبل الوظائف من المنتدى الاقتصادي العالمي 2020.

خطوات أساسية لتعزيز الإبداع لدى الطلاب

حتمت تحديات القرن الحادي والعشرين بضغوطه البيئية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة على الجميع ضرورة إعادة النظر في العملية التعليمية، بتعزيز الإبداع كمحور رئيسي بها. وهذه أولى الخطوات التي ستساعد المؤسسات التعليمية العربية في وضع أقدامها على طريق تعزيز الإبداع لدى الطلاب.

1- تأهيل الكادر الأكاديمي

يعد الأساتذة والمعلمون هم المحفز الأساسي في جميع المراحل التعليمية المختلفة لخروج أجيال مبدعة إلى سوق العمل. مما يجعل تطوير الكادر التعليمي على رأس أي خطة لتعزيز الإبداع في المنظومة.

ففي الدراسة المذكورة أعلاه التي تمت في سوريا، تم تدريب 20 محاضراً في ورش عمل بجامعة دمشق على تدريس كيفية التفكير الإبداعي، وساعدت على إنشاء نشرة أكاديمية لتدريس الفصول الإبداعية. ويقول الباحث: إذا تكررت ورش العمل هذه، سيكون لدى جامعة دمشق كادر أكاديمي مؤهل يساعد في تخريج طلاب جامعيين يشكلوا إضافة ثرية لسوق العمل.

والخبر السار، أن 60% من أعضاء هيئة التدريس المشاركين في الدراسة أعربوا عن استعدادهم لحضور ورش عمل مؤهلة لأساليب التدريس الإبداعية.

2- تدريس برامج التفكير الإبداعي للطلاب

الخطوة الثانية هي تطبيق ما تعلمه الأساتذة في الخطوة السابقة خلال رحلتهم مع الطلاب، بتدريسهم برامج التفكير الإبداعي سواء خلال المحاضرات الدراسية، أو ورش عمل مستقلة. بالإضافة إلى التركيز على الطرق التعليمية التي تدعم التفكير النقدي والإبداعي، وقد أورد الباحث نحو 18 طريقة مستخدمة في الجامعات العالمية.

وتبرز طريقة العصف الذهني كإحدى الاستراتيجيات الفعالة للتحفيز على التفكير الإبداعي، إذ تشجع هذه الطريقة على قبول الأفكار غير المألوفة، وتجنب النقد والحكم السريع على الأفكار المقدمة، وتسمح بخلق فضاء آمن لممارسة الاستكشاف الأعمق وحل المشاكل بأسلوب أقوى. وغالباً ما يساعد هذا التمرين المختصر على الكشف عن زوايا جديدة واعدة واستنتاجات وآراء غير متوقعة، وفقاً لمقال بعنوان "نحو عصف ذهني أفضل".

وخلال عملية العصف الذهني، يتم حثّ المشاركين على الإتيان بأكبر عدد ممكن من الأفكار، ما يتيح للمجموعة التي تجري العصف الذهني الانتقال إلى عملية تجميع الأفكار وفرزها، حيث تبرز الأفكار الجيدة بشكل طبيعي، وتُستبعد الأفكار السيئة في أثناء العملية، وفقاً لمقال منشور على منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي.

3- تعزيز الروابط العاطفية

تشير الأبحاث إلى أن أفضل طرق تعزيز الإبداع هي ربطه بمشاعر الطالب. فتقول عالمة الأعصاب ماري هيلين: "عندما يمس موضوع وتراً حساساً لدى طالب، فإنه ينشط داخل جزء من الدماغ هو نفسه المسؤول عن الأفكار الجديدة أو الإبداعية".

ويقترح مقال بعنوان "إعادة صياغة التعليم في الدول النامية" ضرورة تبنى المدارس مناهج تربوية ذات توجه علمي من شأنها صقل مهارات التفكير النقدي وتمكين الأطفال من تحديد المشكلات والبحث عن المعلومات والموارد ذات الصلة وتقييمها، وتصميم خطط لحل هذه المشكلات وتنفيذها.

فعلى سبيل المثال، يشجع برنامج Odyssey Angels الطلاب على استخدام قدراتهم الإبداعية الفريدة في حل بعض مشكلات مجتمعهم، مثل مساعدة الشباب المشردين على إيجاد مأوى مناسب.

4- التشجيع

تقدير الأشخاص المتميزين يعزز الإبداع، وفقاً لدراسة جديدة منشورة في مجلة علم النفس التطبيقي. وهذا ما تشير إليه دراسة الباحث السوري أيضاً، خلال توصياتها، إذ تؤكد على ضرورة تشجيع الطلاب المميزين، وخاصة أولئك الذين هم في المراحل الأولى من دراستهم ولديهم قدرات عقلية إبداعية، على نشر أعمالهم في الصحف والمجلات ذات الصلة.

يمكن لتعزيز الإبداع في عملية التعليم تغيير مستقبل الشباب بشكل كامل، إذ سيساعدهم الفضول والانفتاح الذهني على اكتشاف مسارات جديدة ربما لم يفكروا فيها أو لم يظنوا أنها ممكنة. وهذا أمر مهم بشكل خاص في وطننا العربي لأن العديد من المتعلمين لدينا يتخرجون من المدارس والجامعات بنظرة ضيقة للوظائف المحتملة.

تُشر هذا المقال استناداً إلى بحثٍ مقدّم من مركز "أبحاث الشباب العربي".

المحتوى محمي