يدرك العالم تماماً أن تغير المناخ يمثل تحدٍ يستوجب معه اتخاذ إجراءات حاسمة على عدة جبهات، فتسارع الحكومات والشركات لخلق تقنيات وابتكارات جديدة تساعدها على الحد من انبعاثات الغازات السامة، لكن بعض الحلول المقترحة لمواجهة تغير المناخ قد تفاقم مستوى التلوث في حياتنا.
تسبب المواد السامة والتلوث ما لا يقل عن 9 ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً وتؤدي إلى أضرار صحية جسيمة، لا سيما في المجتمعات النامية، وتسهم مباشرةً في تغير المناخ، لكن العلاقة هنا تبادلية؛ إذ تعمل تقلُبات المناخ أيضاً على تغيير كيفية تأثير المواد الكيميائية السامة على صحتنا وبيئتنا. ما يعني أن ارتفاع درجة الحرارة، يزيد تعرضنا للمواد الكيميائية السامة.
بحسب دراسة بعنوان: "التحدي الصعب: السمّية المحتملة لحلول التغير المناخي" (A Difficult Situation: the Potential Toxicity of Climate Change Solutions)، تعتمد بعض حلول تغير المناخ على استخدام المواد السامة، فالانتقال إلى السيارات الكهربائية يتم دون إجراء تقييم مناسب لمراحل الإنتاج، بما في ذلك استخراج النفايات التي تحتوي على مواد سامة وخطرة واستخدامها، إذ يمكن أن يتسبب التعدين السريع لمواد مثل الليثيوم والكوبالت والمعادن النادرة في تلوث المياه ونقصها، وانبعاث الغازات الدفيئة.
بالتالي، يتطلب الحفاظ على 1.5 درجة مئوية كهدف مستمر لحماية المجتمعات المتضررة، الحد من الآثار السامة لتقنيات إزالة الكربون على المجتمعات بما يشمل الشعوب الأصلية، والنساء، والأطفال، والمجتمعات المحلية، وذوي الهمم، وكذلك التحرك نحو اقتصاد دائري خالٍ من الملوثات والمواد السامة.
لنستعرض أولاً ارتباط تغير المناخ بالمواد الكيمائية السامة، ثم ننتقل للبحث في تقنيات حلول تغير المناخ التي تزيد من الأضرار البيئية.
أسباب ارتباط تغير المناخ بالمواد الكيميائية السامة
مع استمرار تحديات تغير المناخ، يصبح تقليل تعرضنا للمواد الكيميائية السامة أكثر أهمية من أي وقت مضى، وذلك بسبب ما يلي:
ارتفاع درجات الحرارة وزيادة التعرض للمواد الكيميائية السامة: يقود تغير المناخ إلى موجات حارة بوتيرة أكبر، فالموجات شديدة الحرارة التي كانت تحدث مرتين خلال قرن، قد تحدث مرة كل 6 سنوات تقريباً مع ارتفاع حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية وهو معدل قد نتخطاه خلال عقدين بحسب التقرير الأول من التقييم السادس الصادر عن الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ التابع للأمم المتحدة، الصادر في أغسطس/آب 2021. إذ يمكن أن تسمح درجات الحرارة المرتفعة لبعض المواد الكيميائية بالتبخر بسهولة أكبر، أو التحلل إلى منتجات ثانوية سامة.
الظواهر المناخية والانبعاث المركّز للمواد الكيميائية: قد تؤدي الظواهر المناخية مثل الأعاصير والحرائق إلى إطلاق مواد كيميائية سامة عند احتراق المنازل أو تلف المصانع وتدميرها ما يتسبب بتعرُض الأشخاص والكوكب لجرعات كيميائية عالية التركيز.
تغير المناخ وتفاقم الآثار الصحية لتلوث الهواء: قد تسهم المُركّبات العضوية المتطايرة التي تطلقها المنتجات الكيميائية في إنتاج الضباب الدخاني، ما قد يقلل من جودة الهواء ويؤدي إلى إصابة الأشخاص بأمراض الجهاز التنفسي مثل الربو أو الانسداد الرئوي المزمن، وبالتالي ارتفاع درجات الحرارة سيُفاقم هذه التأثيرات.
المواد الكيميائية السامة وعدم القدرة على التكيف مع تغير المناخ: اكتشفت الدراسات أن المواد الكيميائية المسببة لاضطرابات الغدد الصماء لدى الحيوانات يمكن أن تُغير عملية التمثيل الغذائي وتُعيق قدرتهم على التكيف مع درجات الحرارة المتغيرة، والأمر نفسه ينطبق على البشر؛ لا سيما في المجتمعات التي لا تتوفر فيها إمكانية تبريد الهواء.
المواد الكيميائية السامة وزيادة تعرُض المجتمعات لتأثيرات تغير المناخ: تعد المواد الكيميائية السامة قضية مرتبطة بالعدالة المناخية، فيعد سكان بعض المناطق، ومنها النامية، أكثر تضرراً من التغير المناخي وبحاجة إلى دعم قدرتهم على تحمّل تداعياته، على سبيل المثال، زقاق السرطان (Cancer Alley)؛ هو اسم مستعار للمنطقة الممتدة على مسافة 137 كم جنوب ولاية لويزيانا والتي تضم ما يزيد عن 200 مصنع للبتروكيماويات ومصافي التكرير، وتمثل المنطقة 25% من صناعة البتروكيماويات في أميركا، سكانها أكثر عُرضة للإصابة بالسرطان.
مشاكل بيئية في حلول الطاقة النظيفة
غالبًا ما تستخدم العديد من حلول تغير المناخ مواد ومعادن سامة، تؤدي إلى التلوث وأضرار بيئية أخرى تؤثر في الحياة اليومية، إذ تساعدنا تقنيات الطاقة النظيفة، من الرياح والطاقة الشمسية إلى السيارات الهجينة والكهربائية، على إبطاء تغير المناخ، لكنها ليست مثالية بطبيعتها، إذ تعتمد على معادن هامة مثل الليثيوم والكوبالت والزنك والنحاس والجرافيت وغيرها من المعادن النادرة التي تعد عملية تعدينها مُكلفة بيئياً.
تؤدي بطاريات الليثيوم أيون (Lithium Ion) دوراً مهماً في تطوير مصادر الطاقة البديلة، إذ يستخدم الليثيوم والكوبالت (Cobalt) كعناصر أساسية للبطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية وإنتاج الطاقة الشمسية والكهرومائية، وطاقة الرياح، لكن استخراج الليثيوم غالباً ما يحدث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل وفي ظل ظروف عمل غير صحية وبأجور محدودة.
غالباً ما يكون لهذا الاستخراج تأثيرات سلبية على المجتمعات ويمكن أن يؤدي إلى تدهور التربة وتراجُع إنتاج المحاصيل لسنوات طويلة، ونقص المياه والإضرار برفاهية السكان، وفقدان التنوع البيولوجي، وتفاقم الاحتباس الحراري.
من جهة أخرى، قد يؤدي استخدام الكوبالت في إنتاج بطاريات الليثيوم أيون إلى أضرار صحية وبيئية، ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تمتلك أكثر من نصف احتياطيات الكوبالت في العالم، وتشكل نحو 70% من الإنتاج العالمي؛ يمثل تعدين هذه العنصر المهم تحدٍ خطير، إذ يتحوّل إلى مادة كيميائية قاتلة تضر بالمحاصيل والمياه الطبيعية وتؤدي إلى تلوث المياه.
بحسب تقرير منظمة العفو الدولية "هذا ما نموت من أجله" (This Is What We Die For)، يأتي نحو 20% من الكوبالت المستخرج في الكونغو من المناجم، حيث يستخدم العمال أدوات يدوية لحفر هذا المعدن واستخراجه، وغالباً ما تفتقر هذه المناجم إلى التهوية المناسبة، ويتعرض العمال فيها لمواد سامة يمكن أن يسبب مشاكل صحية، إذ أظهرت الدراسات أن مخاطر العيوب الخلقية لدى الأطفال، مثل تشوهات الأطراف تزداد بشكل كبير عندما يعمل أحد الوالدين في منجم للكوبالت بسبب المستويات العالية من التلوث الناجم عن استخراج هذا العنصر، فضلاً عن حصول بعض عمال مناجم الكوبالت على أجور منخفضة تصل إلى دولارين في اليوم، أي أقل بكثير من خط الفقر.
تدخل أيضاً المعادن النادرة في حلول تغير المناخ مثل النيوديميوم (Neodymium) والديسبروسيوم (Dysprosium) والبراسيوديميوم (praseodymium)، خصوصاً في إنتاج توربينات الرياح والمركبات الكهربائية، والتي يسبب استخراجها ملوثات بيئية مختلفة، على سبيل المثال، يعد منجم بيان أوبو (Bayan Obo) في الصين، أكثر منجم سيئ السمعة، إذ يُخزن ما يزيد عن 70 ألف طن من الثوريوم المشع، ما يهدد مصادر المياه.
تعتمد تقنيات الحد من انبعاثات الكربون على هذه المعادن أكثر من نظيراتها القائمة على الوقود الأحفوري، فبحسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة، تحتاج السيارات الكهربائية مثلاً، إلى ستة أضعاف كمية هذه المعادن مقارنةً بالمركبات التي تعمل بالغاز، وتحتاج محطات الرياح تسعة أضعاف ما تحتاجه المحطات التي تعمل بالغاز.
لكن المناطق منخفضة الدخل أو النامية تتحمل الأعباء الصحية والبيئية لاستخراج هذه المعادن، فشركات التعدين لا تستنزف مصادر المياه المحلية فحسب؛ وإنما تؤدي إلى تلويث الإمدادات النظيفة أيضاً، إذ وجد تقرير أسوشيتد برس في عام 2019 أن أكثر من 50 مليون جالون من مياه الصرف الملوثة من المناجم الأميركية تتدفق إلى مصادر المياه المحلية يومياً.
ويضر التعدين بالموارد الطبيعية من خلال تلويث الهواء بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري ما يؤدي إلى إزالة الغابات، وتهديد التنوع البيولوجي في بعض الأحيان في المناطق المحمية، ويمكن أن يؤدي الضرر البيئي الناجم عن التعدين إلى مشاكل صحية في المجتمعات المجاورة، بما في ذلك السرطان وأمراض الجهاز التنفسي، فضلاً عن تسمم الأسماك والمحاصيل، ونزاعات استخدام الأراضي.
نحتاج إلى مواجهة تغير المناخ من خلال الانتقال إلى الطاقة النظيفة، ولكن علينا أن ندرك الآثار السلبية المحتملة للعناصر المستخدمة في إنتاجها، والعمل على حلول مستدامة تسبب أقل ضرر للبيئة والأشخاص، لا سيما في المجتمعات الضعيفة والنامية.