بداية من الأضواء الساهرة في الشوارع العربية، يشتهر شهر رمضان بأيادي الخير التي تمتد لصناعة التغيير، والمساهمة بالقليل من الجود للتأثير الإيجابي في المجتمع، ورسم الابتسامة على وجوه الفئات الأكثر احتياجاً. وحتى الماضي القريب، كانت الأعمال الخيرية التقليدية، تظهر مدفوعة بمبادرات فردية نابعة من الإحساس بالمسؤولية المدنية أو الدينية، حيث ركزت على الطرق المعهودة للعطاء والقضايا الاجتماعية التي تؤثر في المجتمعات المحلية مثل الرعاية الصحية والفقر.
دفع افتقار بيئة العطاء الاجتماعي في المنطقة العربية إلى الثقة بين الجهات المانحة والمؤسسات الخيرية، الجهات المانحة إلى تنفيذ برامجها الاجتماعية بنفسها، وبحسب دراسة بعنوان: "حالة الحوكمة في قطاع العطاء الاجتماعي – منطقة الخليج" لمبادرة "بيرل" في عام 2018، فإن غالبية المؤسسات الخيرية تكتفي بالحصول على ملاحظات الأطراف المعنية الداخلية فقط، في حين تعهّد 91% من المؤسسات المشاركة في الدراسة من البحرين والكويت وعمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بالتزامهم بإجراءات تقييم الأنشطة والبرامج، مع تطلعات لتحسين عملية تقييم الأثر.
لكن ما الدور الذي يؤديه العمل الخيري في دعم المجتمعات العربية حقاً؟ هل الأمر يتعلق فقط بدعم الفئات المحتاجة أو تسخير الأماكن لصالح رفاة الأفراد؟ وكيف يمكن التأكد من عملية التبرعات في المنطقة العربية ووصولها إلى الفئات المستهدفة فعلاً؟ ولماذا ترتبط ثقافة التطوع والعطاء بفترة معينة من المناسبات؟
على الرغم من الأسئلة الكثيرة المطروحة في هذا الصدد، فقد شهد العالم العربي مجموعة توجهات جديدة بشأن العمل الخيري، فمن رحم المعاناة ولدت الأفكار الاجتماعية الجديدة الداعمة، إذ أوضحت جائحة "كوفيد-19" أهمية العمل الخيري خاصة بعدما تسبب الانتشار السريع للوباء في أزمة صحية واقتصادية عالمية تختبر كل واحد منا. وبات هناك وضع جديد أرغمنا على العيش فيه بطبيعية.
اللافت للنظر ليس فقط حجم رأس المال الذي التزم به كبار المحسنين، لكن أيضاً كيف قُدّم بسرعة قياسية، وبشروط أقل، وبتعاون أكبر مع الآخرين.
تأثير الأزمات على العمل الخيري
في مواجهة الوباء العالمي، كان العمل الخيري الفردي والمؤسسي مستجيباً ومشاركاً وذكياً. وبالتالي فإن التحدي أمام القطاع غير الربحي هو الحفاظ على هذه الميزات. سيكون الانجذاب نحو طرق العمل القديمة قوياً، خاصة أن المؤسسات الخيرية تكافح مع تأثير الانكماش الاقتصادي على ثرواتها. على سبيل المثال، أسهمت الأعاصير المميتة في زيادة إجمالي التبرعات الخيرية بصفة كبيرة، كما أوضحت الدراسة الأميركية للباحثين تاتيانا ديريوجينا، وبينجامين ماركس بعنوان: "ميزانيات التبرعات الخيرية الشخصية المرنة في أعقاب العواصف المميتة".
- مرونة العطاء
على مدار العشرين عاماً الماضية، اعتمد القطاع الخيري نهجاً أكثر صرامة حيث يقوم على البيانات. مع أن هذه التطورات عززت المجال من نواحٍ كثيرة، فهي في المقابل جعلت عملية البحث عن المنح وإدارتها أكثر تعقيداً، خاصة بالنسبة للمؤسسات المجتمعية الصغيرة. لذا فقد سرّعت الجائحة من التحركات لتقليل تلك العقبات؛ ما دفع العديد من المؤسسات إلى تخفيف متطلبات المنح.
ويعتبر تسريع عملية اتخاذ القرار، ومنح المستفيدين مرونة إضافية في كيفية استخدامهم للأموال من أهم الأمور التي ظهرت بسبب الأزمات، ووفقاً للدراسة السابقة الذكر، فقد يعد التبرع الخيري عقب التعرض للكوارث الطبيعية أمراً شائعاً، إذ تشير دراسة استقصائية تمثيلية على المستوى الوطني إلى أن حوالي 30% من الأسر الأميركية تبرعت بالمال في عامي 2017 و2018، وهذا يعني أن العطاء ما هو إلا استجابة للاحتياجات الجديدة.
- الابتكار المتاح
دفعت الجائحة عدداً من المانحين إلى التعمق في مواردهم وتغيير مناهجهم في تقديم المنح لتوزيع رأس مال أكبر مما خططوا له. وظهرت أساليب جديدة للعصف الذهني من أجل الوصول إلى أهم الحلول الممكنة للعطاء ودعم الفئات الأكثر احتياجاً، بينما ظهر نهج الابتكار الاجتماعي المتاح الذي أدى إلى حشد مجموعة متنوعة من الأشخاص.
وبالتالي، فإن هذا النهج يزيد من احتمال تسخير المهارات المتعددة في حل المشكلات، وظهور أفكار جديدة نتيجة الإثراء المتبادل للأفكار الذي يضفيه هذا التنوع، ويمكن اعتبار المؤثرين على الشبكات الاجتماعية المختلفة ممن غيّروا توجهاتهم، واستغلوا الشهرة التي وصلوا إليها لدعم القضايا الإنسانية واحدة من أبرز الأمثلة، فتخصيص الوقت الكافي لإطلاق حملات خيرية، مكنّهم من إحداث التغيير بالإيجاب في المجتمع، في بادرة إيثار واضحة لصالح المجتمع.
- توافق الأولويات
قد تختلف اهتمامات المجتمع فيما بينهم، لكنهم في مواجهة الأزمات كانوا على قلب رجل واحد، يسعون إلى تحقيق بعض أهداف العطاء الموحدة وإحداث حلول جذرية، لذلك فقد استمر مشهد العمل الخيري في التطور والتوسع، بجهود جماعية، وسبق أن ذكرنا في مقال عن العمل الخيري بالمؤسسات العربية أنه على الرغم من العراقيل التي تواجه منظومة العمل الخيري في المنطقة العربية، فإن الجيل الجديد من روّاد العطاء بات يعتمد النهج الاستراتيجي المميز الذي يركز على تحسين مستوى معيشة الفئات المهمشة في المجتمع.
- حوكمة العمل الخيري
عند اتخاذ قرار المنح، يعد التركيز على الجودة والشفافية عاملاً مهماً، لكن الوضع الحالي أظهر أن معظم المعلومات التي يتم مشاركتها مع الجهات المانحة يعتمد على التقارير السنوية، وهذا ما أظهرته دراسة مبادرة "بيرل" سالفة الذكر، إذ أكد ذلك 85% من المشاركين فيها، في حين أوضحت الحاجة إلى تحسين مستوى ممارسات الحوكمة في بيئة العطاء الاجتماعي والعمل غير الربحي، بينما أشار 60% منهم إلى ضرورة تعزيز حوكمة العمل الخيري وممارسات الحوكمة داخل مؤسساتهم.
لذلك، في الوقت الذي تسعى فيه المنطقة العربية إلى حوكمة العمل الخيري، ظهرت مجموعة من المبادرات مثل مبادرة "حوكمة القطاع غير الربحي" التي أطلقتها "وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية" السعودية في عام 2019، وكانت استجابة للتحديات الحالية التي تواجه القطاع غير الربحي، مستهدفة ضمان التزام المؤسسات الخيرية بالأنظمة ذات العلاقة واللوائح التنظيمية والأساسية وممارسات الحوكمة الفعالة.
- العمل الخيري الاستراتيجي
لسنوات عديدة، أضاف المحسنون بالمنطقة العربية الطابع المؤسسي على عطائهم وتنفيذ جهودهم بطريقة فعّالة، وفي الوقت الحالي، فإننا نشهد عصراً جديداً من العمل الخيري الاستراتيجي الجماعي، حيث يتطلب من القطاعين العام والخاص الوصول إلى حلول مترابطة وعالية التأثير وتنفيذها بشكل تعاوني لخلق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع، وفي سبتمبر/أيلول من عام 2021، أعلنت "جامعة نيويورك أبوظبي" تزامناً مع الذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها، مبادرة "العمل الخيري الاستراتيجي" الأولى من نوعها في المنطقة، وجاءت بموجب اتفاقية أبرمتها الجامعة مع رائد الأعمال الاجتماعي بدر جعفر، بهدف تحفيز المانحين على التعاون في العطاء من خلال تقديم نماذج جديدة للاستثمارات الخيرية والشراكات الفعّالة بين المؤسسات الخاصة والعامة وغير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة.
بينما اعتمدت التوجهات الخيرية الجديدة بالمنطقة على الانتقال إلى نهج جديد من العطاء والعمل الخيري قائم على مكافحة الأمراض والأوبئة، والتأثير الاجتماعي، والشراكة والتعاون، والمشاريع الخضراء.
ولأن العمل الخيري الاستراتيجي يعِد النهج القائم على إيجاد الحلول الجذرية للمشاكل والتحديات من خلال تبني أدوات مبتكرة تحفز على التغيير، واستثمار الأموال في دعم أفكار جديدة لم تُختبر سابقاً لمعرفة مدى كفاءتها، فهو يرتكز على عدد من المعايير بداية من المعرفة وصولاً إلى الشراكات وتقييم الأثر، في حين تأتي أهميته بالوطن العربي من واقع أن مجال العمل الخيري في المنطقة يزخر بالفرص المستقبلية الواعدة.
وختاماً، فإن سياسة الجودة التي تتبعها المؤسسات الخيرية يمكنها أن تعكس قدرتها على استثمار مواردها لتحقيق الأثر المجتمعي المطلوب. وفي المنطقة العربية، فإن التوجهات الجديدة للدعم باتت تعتمد على استغلال كل الموارد من أجل الوصول إلى الأهداف الاجتماعية المنشودة؛ ما يؤكد استدامة أثر الأعمال الخيرية على الرغم من الأزمات التي تواجه المنطقة.
نُشر المقال استناداً على أبحاث من منصة ساهم