كيف يُحدث العطاء تغييراً في المنطقة العربية؟ بنك الطعام المصري ومؤسسة ساويرس مثالاً

مؤسسات خيرية
shutterstock.com/addkm
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الأول من سلسلة مؤسسات خيرية مؤثّرة: كيف يُحدث العطاء تغييراً في المنطقة العربية، والتي سنتحدث فيها عن العمل الخيري المؤثّر ونستعرض نماذج من المنطقة العربية. وفي الجزء الأول سنتناول أسس العطاء الفعّال، ونقدم نموذجين من عمل المؤسسات الخيرية القائم على الابتكار، وتوسيع نطاق الممارسات الفعّالة.

يطمح روّاد العطاء والمانحين لإحداث تأثير حقيقي في العالم من خلال العمل الخيري، وأمام تعقّد المشاكل التي تواجه المجتمعات من فقر، وجوع، وأوبئة، وتغير المناخ، وغيرها، تبرز أهمية العمل الخيري المتميز في التوصل إلى حلول جذرية لهذه المشاكل ونشر أثرها على أوسع نطاق لتطال أكبر عدد من المستفيدين.

ويتطلب تحقيق التأثير على نطاق واسع تعاوناً فعّالاً مع الجهات المعنية وأصحاب المصلحة، ويجب أن يعتمد هذه التعاون على ثلاث ركائز أساسية، هي: الحوار، وتبادل البيانات، والشراكات، إذ بات الحوار ضرورياً للمشاركة في عمليات صنع القرار وتطوير أُطر العمل، وزادت أيضاً أهمية إتاحة البيانات في الوقت المناسب لدعم اتخاذ قرارات أفضل.

وعلى الرغم من العراقيل التي تواجه منظومة العمل الخيري في المنطقة العربية، إلا أن الجيل الجديد من روّاد العطاء بات يعتمد النهج الاستراتيجي المميز الذي يركز على تحسين مستوى معيشة الفئات المهمشة في المجتمع، وتعتمد مؤسسات غير ربحية مثل بنك الطعام المصري، ومؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية مجموعة من الأدوات مثل الابتكار، وتوسيع نطاق الممارسات الفعّالة لتقديم عمل خيري متميز وواسع الأثر، نستعرضها فيما يلي:.

الابتكار: بنك الطعام المصري

تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من مشكلة هدر الغذاء، وبحسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الفاو يُهدر نحو ثلث المواد الغذائية التي تُزرع في المنطقة، فيما يقدّر فاقد الطعام في مصر بنحو 50 كيلو غراماً لكل شخص سنوياً، ومع توقعات بوصول تعداد السكان إلى 120 مليون نسمة بحلول عام 2050، من المحتمل أن تتراوح نسبة هدر الخضروات والفاكهة بين 45 و55% من الإنتاج السنوي.

وتتكبد مصر أكثر من 20 مليار جنيه سنوياً، ما يعادل 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي بسبب إصابة الأطفال بنقص التغذية، بحسب تقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي عام 2013، بعنوان: تكلفة الجوع في أفريقيا: الآثار الاجتماعية والاقتصادية لنقص تغذية الأطفال في مصر. وما يدعو إلى القلق أيضاً هو تبعات حالة الجوع، فعندما لا تتمكن الأسرة من الحصول على لقمة العيش يضطر الأولاد إلى ترك المدرسة للحصول على عمل.

وبناءً على المعطيات السابقة، أسس رائد الأعمال الاجتماعي معز الشهدي بنك الطعام المصري عام 2006، لتكون أول مؤسسة متخصصة في مكافحة الجوع عبر ابتكار برامج فعّالة بالتعاون مع الجهات المهتمة بالقضاء على هذه المشكلة.

وعمل الشهدي، رئيساً لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا لدى مجموعة فنادق ستايل العالمية، ما ساعده في إدراك مشكلة هدر الطعام الفائض في الفنادق والمطاعم، لذلك قرر البحث مع مجموعة من الأصدقاء فكرة إطلاق بنك للطعام ليضع حداً لمعاناة الأفراد من الجوع.

وتميز بنك الطعام المصري بأنه لا يعمل على مكافحة الجوع من خلال توزيع الطعام فقط، وإنما يساهم أيضاً في معالجة أسبابه الجذرية المتمثلة بالبطالة والفقر، ومن جهة أخرى يجمع الطعام الفائض من الفنادق والمطاعم قبل إتلافه.

وكان الشهدي وشركاؤه المؤسسون يمتلكون مهارات إدارة الأعمال، والموارد المالية، وشبكة العلاقات اللازمة لمكافحة الجوع، لذا استثمروا نحو 1.4 مليون دولار لتشغيل البنك، وتعاونوا مع المؤسسات غير الحكومية الشريكة لإعادة توزيع الطعام الفائض إلى الأسر المحتاجة، ووظّف الشهدي علاقاته مع الفنادق والمطاعم لتشجيعها على الحد من هدر المواد الغذائية، ووزّع البنك العُلب لحفظ المواد الغذائية غير المستخدمة وتغليفها، ودرّب العاملين على الحد من هدر الطعام.

بعد مضي عِقد على التأسيس، أصبح البنك يخدم 12 مليون شخص سنوياً في مصر من خلال برامجه المتنوعة، ونجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي لنحو 7.3 مليون شخص كانوا يعتمدون على المساعدات التي يقدمها البنك، وعقَد شراكة مع نحو 9 آلاف مؤسسة غير حكومية في جميع أنحاء مصر، واستطاع حفظ 20 مليون وجبة شهرياً من الإتلاف في الفنادق والمطاعم، وكان للتبرعات دوراً مهماً في تحقيق الاستدامة المالية للبنك، إذ وصلت إيراداته إلى نحو 343 مليون دولار.

غيّر بنك الطعام المصري المفهوم التقليدي لبنوك الطعام باعتماده نهجاً مبتكراً يقوم على ستة محاور:

  1. برامج الإطعام: صمّم البنك تطبيق مصر خالية من الهدر للتواصل مع أقرب مؤسسة شريكة لاستلام الطعام الفائض عن الفنادق والمطاعم وغيرها، ثم تقوم المؤسسات المشاركة بتوزيعها على الفئات المُستحقة من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السن، والأيتام، والنساء المعيلات، ومُعيل الأسرة المصاب بمرض مزمن، ويقدم برامج إطعام أخرى مثل الإطعام الشهري والتغذية المدرسية.
  2. برامج التنمية وبناء القدرات: في هذا المحور، يعمل البنك على تدريب الأفراد العاطلين عن العمل وتطوير مهاراتهم لإيجاد فرص عمل مناسبة لهم بالتعاون مع الشركات المحلية، وذلك بهدف تحقيق الاكتفاء الاقتصادي الذاتي ليصبحوا في غنى عن الطعام الذي يقدمه لهم البنك.
  3. رفع مستوى أداء المؤسسات غير الحكومية الشريكة: بهدف تنظيم عشوائية العمل الخيري، يعمل بنك الطعام المصري على تطوير عمل المؤسسات الشريكة، وتدريبها على المهارات اللازمة لتصبح البرامج أكثر فعّالية، على سبيل المثال، يكثُر التبرع بالطعام خلال شهر رمضان، بينما تنقص الكميات على مدار الأشهر المتبقية من السنة، لذا عمل البنك على تعبئة الأغذية وتخزينها لتوزّع على الأُسر المحتاجة على مدار السنة، وبالتالي يضمن هذا الحل المبتكر توفير كميات ثابتة من الطعام للمحتاجين.
  4. برامج التوعية بعدم هدر الطعام: للتقليل من هدر الطعام، وإعادة توزيع الطعام الفائض غير المستخدم، عمل البنك على إعداد دليل للفنادق والمطاعم حول طرق التعامل مع الأغذية والأطعمة بطريقة صحية وسليمة، وتوقيع بروتوكول مع غرفة المنشآت الفندقية المصرية حول حفظ الطعام غير المستخدم في الفنادق، وتعاون البنك أيضاً مع وزارة التربية والتعليم لإدراج مفهوم هدر الطعام في الكتب المدرسية وتوعية الأجيال المقبلة بأهميته.
  5. برامج التطوع: يشارك في عمليات البنك متطوعون من مختلف الأعمار والفئات، يقومون بتدريب الشباب وتأهيلهم للوظائف، وجمع التبرعات، وتعبئة الطعام وتوزيعه، والمساهمة في ضبط جودة المؤسسات المشاركة.
  6. الاستثمار لضمان الاستدامة: يسعى البنك للدخول في استثمارات تُدر دخلاً يضمن استمراريته واستدامة عمله دون الاعتماد على الهبات والتبرعات، ومن هذه الاستثمارات، مزارع التسمين، وأراضي للمنتجات الزراعية، ومصانع للتعبئة والتغليف وغيرها.

في عام 2013، نقل بنك الطعام المصري نموذجه إلى دول أخرى سواء عربية أو غير عربية؛ بهدف الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستفيدين، وأنشأ شبكة بنوك الطعام الإقليمية والتي تضم 33 بنك طعام في 30 بلداً.

تتعرض كل مؤسسة إلى صعوبات خلال سنواتها الأولى، وكان على بنك الطعام المصري بذل مجهود لتوعية الأفراد بمفهوم هدر الطعام، وتغيير وجهة نظرهم حول نموذج عمه، والتأكيد أنه يوفر فائض الطعام الذي لم يُستخدم.

توسيع نطاق الممارسات الفعّالة: مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية

يُعد قطاع الزراعة من دعائم الاقتصاد المصري، إذ يساهم بنحو 14.5% من إجمالي الناتج المحلي، ويشكل نحو 28% من إجمالي الوظائف، وتتركز أكثر من نصف عمالة القطاع في صعيد مصر، ويمثّل هذا القطاع فرصة للحد من الفقر وضمان الأمن الغذائي.

وعلى الرغم من أن الزراعة مصدر رزق أساسي في صعيد مصر الذي يشهد مستويات فقر مرتفعة، إذ يعيش 56.7% من سكان الريف في الصعيد بأقل من دولار واحد يومياً، ويفتقر نحو 40% منهم للغذاء الكافي للاستمرار في الحياة.

بهدف الحد من الجوع، وتحسين مستوى دخل المزارعين، تأسس برنامج التنمية الزراعية المستدامة عام 2012، للعمل على تحديد الممارسات الزراعية الفعّالة واختبارها وتوسيع نطاقها بما يساهم في الحد من الفقر بمنطقة الصعيد.

تعمل عائلة ساويرس بمجال العطاء، فعملت من خلال مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية على دعم لبرنامج التنمية الزراعية المستدامة في مرحلته الأولى الذي يمثل جزءاً من المؤسسة المصرية للتنمية المتكاملة، النداء، وانطلق من فكرة أن أغلب المزارعين في منطقة الصعيد يفتقرون للممارسات التي تزيد الإنتاجية الزراعية، وبعضهم غير قادر على تحمل تكلفة الأدوات اللازمة لتطبيق هذه الممارسات، فضلاً عن محدودية فرص النفاذ إلى الأسواق لبيع المحاصيل، لذا يعمل البرنامج على تحديد الممارسات المبتكرة والمُتبعة داخل المزارع وخارجها في مناطق جغرافية أخرى، ثم يُكيف هذه الممارسات مع احتياجات المجتمعات المحلية ويطبقها في صعيد مصر، وبناءً على قياس التجربة وتقييم نتائجها يستعين البرنامج بشركاء محليين، وحملات الترويج، وكسب التأييد، لتوسيع نطاق تطبيق هذه الممارسات.

وركز البرنامج في مرحلته الأولى من عام 2012 إلى عام 2016، على محافظة قنا التي تعد واحدة من أفقر محافظات الصعيد، وأطلق نماذج لممارسات أعمال زراعية، منها تدريب المزارعين وتزويدهم بالأدوات اللازمة لإعادة تدوير الفضلات الزراعية من أجل إنتاج العلف والسماد بدل من إتلافها، وتدريب النساء على إنتاج الحليب وتشغيل وحدات لمنتجات الألبان داخل المزارع وربطها بمنشآت التصنيع والتعليب، واستطاع البرنامج في هذه المرحلة تدريب أكثر من 3 آلاف شخص في 25 قرية، وخلق 900 فرصة عمل في مجال الزراعة المستدامة.

ودرّب البرنامج أيضاً المزارعين على ممارسة إعادة تدوير الفضلات الزراعية خلال المرحلة الأولى، واعتمدت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي هذه الممارسة الناجحة ضمن أعمالها بما يضمن توسيع نطاق تطبيق إعادة التدوير في مناطق أخرى من مصر، كما قدمت مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية مبلغ 14 مليون جنيه  إضافية لدعم أنشطة البرنامج لغاية العام 2021، مع تركيز الجهود على إحداث أثر أعمق في محافظة قنا، وإطلاق نماذج لممارسات جديدة، منها تعزيز تربية النحل وإنتاج العسل، وتدريب النساء الريفيات على أفضل الممارسات في تربية الماعز.

أدركت مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية أن استهلاك الوقت والموارد لتطوير نماذج أولية تجريبية وقياس نتائجها، يمكّن المؤسسات من التوصل إلى تدخلات مثبتة وتوسيع نطاق أثرها، لذا ركزت على هذا النهج في عمل “برنامج التنمية الزراعية المستدامة” لتلبية احتياجات المجتمع المحلي في صعيد مصر، وتحسين حياة المزارعين في المنطقة وتأمين سبل حياة أفضل لهم.