تزداد التحديات التي تواجهها المجتمعات من حيث الحجم والتعقيد، وبات من الضروري توليد عوائد اجتماعية إلى جانب الأرباح المادية لخلق مجتمع أكثر استقراراً وإنصافاً وشمولية.
وعليه بدأت الشركات والمؤسسات والهيئات غير الحكومية مراجعة أدوارها لتكون أكثر تعاوناً، ومنها الجامعات، إذ يتعرض قطاع التعليم العالي لضغوط من أجل إحداث تأثير أكبر في المجتمع، في الوقت الذي يُنظر فيه للجامعات على أنها مؤسسات نخبوية وقليلة الارتباط بالمجتمع والمؤسسات الأخرى.
واقع الابتكار الاجتماعي في الجامعات
تتمثل المسؤولية الرئيسية للجامعات في تقديم العلم والمعرفة، لكن هناك أهداف جديدة يجب أن تخدمها، فبدأت العديد من الجامعات حول العالم التركيز على خلق قيمة سياسية واقتصادية واجتماعية بالاستفادة من الموارد البشرية والقدرات البحثية والروابط التي يمكنها من تعزيز الابتكار الاجتماعي، وعليه، أعد الباحث المصري محمد جابر عباس محمد على دراسة بعنوان: المبادرات الطلابية كآلية لتنمية الابتكار الاجتماعي بين الشباب الجامعي المتميز بجامعة أسوان لمعرفة واقع المبادرات الطلابية وثقافة الابتكار الاجتماعي ودور الإدارات الجامعية في دعم هذه المبادرات، والصعوبات التي تواجه هذه المبادرات كآلية لتنمية الابتكار الاجتماعي.
وتوصلت الدراسة التي طُبقت على 167 طالب وطالبة موزعين على كليات الجامعة المصرية المختلفة، إلى أن الصعوبات التي تواجه المبادرات الطلابية كآلية لتنمية الابتكار الاجتماعي بين الشباب الجامعي تتمثل في ضعف إدراك بعض المسئولين بأهمية المبادرات الطلابية لنشر ثقافة الابتكار الاجتماعي، وضعف التنسيق والتعاون بين الجامعة والمجتمع الخارجي ومؤسساته، وعدم وجود درجات جامعية على المشاركة في أنشطة المبادرات الطلابية والابتكار الاجتماعي، فضلاً عن صعوبة إجراءات تنفيذ المبادرات الطلابية المبتكرة بالجامعة.
يقود الشباب الجامعي مستقبل المجتمعات، وبالتالي لابد من زيادة مشاركتهم في القضايا المختلفة وبناء قدراتهم وتمكينهم للمساهمةة في مجالات التنمية، وعلى نحو موازٍ أصبح الابتكار بأبعاده المختلفة ركناً أساسياً في برامج تطوير التعليم الجامعي.
وتزدادد الدعوات لدمج الابتكار الاجتماعي في مقررات التعليم الجامعي وضمن تخصصات متعددة؛ فاقترحت دراسة بريطانية بعنوان: تعليم الابتكار الاجتماعي: نحو إطار لتعلم التصميم (Social Innovation Education: Towards A Framework For Learning Design) إطاراً نظرياً يدعم تضمين تعليم الابتكار الاجتماعي في البرامج الأكاديمية القائمة، وقدم المنتدى الوطني لتعزيز التدريس والتعلم في التعليم العالي في إيرلندا مبادرة من الشغف إلى العمل (From Passion to Action) المعنية بصقل المهارات، وتمكين أعضاء هيئة التدريس من تضمين الابتكار الاجتماعي وريادة الأعمال في تخصصاتهم، لتعزيز سلوك الطلاب ومهاراتهم وتفكيرهم وسلوكهم.
تظهَر حاجة ملحة أيضاً لدمج الابتكار الاجتماعي بالممارسات والأنشطة الطلابية الجامعية التي تدعم ثقافة المشاركة لدى الطلاب وتحفزهم على خدمة المجتمع بفاعلية؛ ففي بداية العام الجامعي 2018-2019 أسست جامعة أسوان المصرية أول مركز جامعي للمبادرات الطلابية والذي يهدف إلى نشر ثقافة الابتكار الاجتماعي بين الشباب الجامعي المتميز والمشاركين في أنشطة المبادرات الطلابية واعتماد هذه المبادرات كآلية لتحقيق هذا الهدف. لكن، كيف يمكن للجامعات تنظيم نفسها من أجل زيادة الأثر المجتمعي؟
كيفية مساهمة الجامعات في الابتكار الاجتماعي
يمكن للجامعات اتباع 5 طرق أساسية لزيادة قدرتها على الابتكار الاجتماعي؛ منها ما يرتبط بالتنظيم الداخلي للجامعة، ومنها ما يتعلق بتعاونها مع الجامعات والجهات الفاعلة الأخرى:
1- خلق المساحات وتغيير الهياكل داخلياً
تعد البنية التحتية الطريقة الأكثر شيوعاً لتنظم بها الجامعات نفسها؛ إذ ظهرت موجة جديدة من مختبرات للابتكار ومساحات لتجربة الأفكار الجديدة، لكن لا تزال مثل هذه المختبرات حديثة نسبياً في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ويمكن تقسيم المختبرات الناشئة إلى ثلاثة أنواع: مدارس التصميم التي تعمل على التحديات الاجتماعية، والمختبرات التي تتشارك مع الحكومة في وضع السياسات، والمختبرات التي تعمل لتعزيز التغيير الداخلي، على سبيل المثال، يستكشف مختبر بوليمي ديسس (POLIMI-DESIS)، في قسم التصميم بجامعة البوليتكنيك (Polytechnic University) في ميلانو، إيطاليا، كيف يمكن للتصميم أن يمكّن الأفراد والمجتمعات والمؤسسات من إدارة عمليات الابتكار، ويركز المختبر على مجالات الغذاء والنقل وأنظمة التصنيع والإسكان.
ويعمل مختبر ملبورن ومختبرات كامبريدج مع الحكومة لتصميم السياسة العامة المبنية على التجارب والبحوث، فيما يعزز مختبر آي لاب (I-Lab) بجامعة هارفارد (Harvard University) التغيير الداخلي عبر دعم الابتكار وريادة الأعمال في الجامعة.
وتمتلك العديد من الجامعات أيضاً مراكز بحثية تركز على التأثير الاجتماعي والابتكار، مثل مركز التأثير الاجتماعي (Centre for Social Impact. CSI) في جامعة سوينبرن للتكنولوجيا (Swinburne University of Technology) في أستراليا.
2- تبني نهج الشراكة والتعاون
يتطلب التغيير نسج شبكة من العلاقات والشراكات الفعّالة، ولا يكفي أن تنتج الجامعات خبراء دون دفعهم للعمل داخل المؤسسات والهيئات ذات الصلة،وتعكس مؤسسة أشوكا يو (Ashoka U) لتحفيز الابتكار الاجتماعي في التعليم العالي، نهج الشبكة من خلال ضم مجموعة من المؤسسات لإعادة تصوُر دور التعليم العالي، وتبني الابتكار الاجتماعي لتوليد معرفة بالتصميم ولإحداث تغييرات اجتماعية هادفة بالتعاون مع أصحاب المصلحة.
ويمكن للجامعات تبني الابتكار الاجتماعي أيضاً من خلال الشراكات طويلة الأمد عبر القطاعات، على سبيل المثال، تعد جامعة واترلو (University of Waterloo) في كندا، أحد الشركاء المؤسسين لشراكة تعاونية مع مؤسسة مارس ديسكفري ديستريكت (MaRS Discovery District) ومعهد الخطة (Plan Institute)، بهدف دعم تغيير النظام بأكمله للسماح للابتكارات الاجتماعية بالازدهار.
3- إعادة تحديد الاستراتيجية
تحتاج الجامعات إلى تغيير الأطر المؤسسية وخلق حالة من التحول الثقافي التي تسمح بترسيخ الابتكار الاجتماعي. على سبيل المثال، تقوم استراتيجية الأعمال في المجتمع في كلية كوبنهاغن للأعمال (Copenhagen Business School)على مبدأ أن صناعة التغيير واجب أساسي على الجامعات، بما يتماشى مع هدف الجامعة للمشاركة في إنتاج المعرفة التي تركز على حل المشكلات. وتُعرِف كلية كامبردج جادج لإدارة الأعمال (Cambridge Judge Business School) نفسها بأنها منصة للبحث والمشاركة مع المبتكرين الاجتماعيين والأوساط الأكاديمية والسياسات في المملكة المتحدة وفي جميع أنحاء العالم، وتركز على دعم المشاريع الاجتماعية وفهم المبدعين الاجتماعيين والترويج لهم والتفاعل معهم.
ويعد مركز بيرثا للابتكار الاجتماعي وريادة الأعمال (Bertha Centre)، أول مركز أكاديمي في كلية إدارة الأعمال في جامعة كيب تاون (University of Cape Town) بجنوب إفريقيا، يكرس جهوده للنهوض بالابتكار الاجتماعي وريادة الأعمال في المجتمع، ونجح في دمج الابتكار الاجتماعي في منهج كلية إدارة الأعمال، وقدم منحاً دراسية بأكثر من ثمانية ملايين راند جنوب إفريقي، ما يعادل 474 ألف دولار أميركي، للطلاب من جميع أنحاء إفريقيا.
4- إعداد الطلاب للعالم الحقيقي
يتطلب الاستعداد المجتمعي والتأثير الاجتماعي الحقيقي طرقاً جديدة للتثقيف، ويمكن للجامعات توسيع نطاق ذلك عبر تقديم فرص تدريب جديدة ومتعددة التخصصات وجعل التجارب جزءاً من المنهج الدراسي، وتبسيط إجراءات تنفيذ المبادرات، وتوفير أماكن مجهزة لعرضها.
في الوقت نفسه، يتعلق الأمر ببناء رابط أقوى بين الطلاب وسوق العمل وتزويدهم بفرص للانخراط في الممارسة العملية وتزويدهم بالمهارات اللازمة لإطلاق مشاريعهم، فمن خلال مبادرة الابتكار القائم على التحدي (Challenge Based Innovation. CBI) في سويسرا، تتعاون فرق الطلاب ومعلميهم مع الباحثين لاكتشاف حلول جديدة من أجل مستقبل البشرية، ويعد ماتش استديو (MatchStudio) التابع لجامعة جنوب أستراليا مساحة ديناميكية تُمكن الطلاب والأكاديميين من توليد أفكار خارجة عن المألوف والمشاركة في ابتكارات مجدية تعالج التحديات المجتمعية.
5- بناء المعرفة المشتركة
على الرغم من توسّع شبكات الممارسين للابتكار الاجتماعي والالتزام الحقيقي من واضعي السياسات والمؤسسات لدعمه؛ تتفاوت مستويات المعرفة بهذا المفهوم نظراً لحداثته، واهتمت العديد من الجامعات في بناء هذه القاعدة المعرفية؛ إذ تقود جامعة دورتموند التقنية (TU Dortmund University) الألمانية مشروع سي درايف (SI-Drive) بتمويل من "الاتحاد الأوروبي"، لتوسيع المعرفة حول الابتكار الاجتماعي.
طريقة أخرى لنشر المعرفة بالابتكار الاجتماعي، هي النشر الورقي والإلكتروني، إذ تساعد منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي ريفيو التابعة لجامعة ستانفورد (Stanford University) في نشر البحث والمعرفة القائمة على الممارسة، وتثقيف طلاب الجامعات حول مجال الابتكار الاجتماعي.
ختاماً، تحُول الجامعات نحو ثقافة الابتكار الاجتماعي يتطلب مشاركة الجميع، من الإدارة العليا وأعضاء هيئة التدريس، وصولاً إلى المكاتب الإدارية والطلاب والخريجين وأصحاب المصلحة، لتطبيق نهج تغيير مختلف.
هذا المقال نُشر بناءً على أبحاث من منصة "ساهم".