على الرغم من أننا نعيش اعتماداً على ما نحصل عليه؛ لكننا نصنع حياة بما نقدمه للآخرين. في أعقاب الصراعات والكوارث، يعتمد الأشخاص على كرم الغرباء لمساعدتهم في إعادة بناء حياتهم، ويمكن أن تُحدِث التبرعات للمؤسسات الخيرية فرقاً لمن هم بأمس الحاجة إليها.
ومع ذلك، ليس كل من يمكنه التبرع لهذه المؤسسات يقوم بذلك بالفعل، في الواقع، هناك ظاهرة تُسمى التلاشي الرحمي (Compassion Fade)، وهي تحيز معرفي يرتبط بانخفاض تعاطف الفرد مع الأشخاص الذين يعانون من مشاكل مع زيادة عدد الضحايا، تدفع الأفراد ليكونوا أقل كرماً في مساعدة المحتاجين.
دور الشباب في تعزيز العطاء
تتجه الظروف الاقتصادية والبيئية والاجتماعية نحو مزيد من التعقيد، ويرتفع معها سقف التوقعات حول تلبية الاحتياجات الإنسانية وتحسين جودة حياة الأفراد، ولا يمكن تحقيق ذلك بجهود الحكومات أو المؤسسات الخيرية فقط، وإنما عن طريق وعي الأفراد، وخاصة الشباب، بضرورة العطاء والمشاركة في الجهود المبذولة لحل المشكلات الإنسانية، وفي هذا الإطار، رصدت الباحثتان الكويتيتان حصة السميط ومنال عبد الله الخزي في دراسة بعنوان: وعي الشباب الكويتي بدور الجمعيات الخيرية وعلاقته بتفعيل ثقافة العمل التطوعي لديهم، مستوى وعي الشباب بأهمية دور الجمعيات الخيرية، ودرجة انتشار ثقافة التطوع بين هذه الفئة القادرة على دعم جهود مؤسسات المجتمع المدني.
وتوصلت الدراسة التي شارك فيها 319 من الشباب الكويتي، إلى ارتفاع مستوى الوعي بدور الجمعيات الخيرية داخل المجتمع الكويتي، بينما كان مستوى ثقافة العمل التطوعي لدى أفراد العينة متوسطاً، وأوصت بضرورة التدريب على الأعمال التطوعية في سن مبكر، وزيادة البرامج الإرشادية والتدريبية داخل الكليات والمدارس، والتركيز على دور الإعلام في التعريف بالعمل التطوعي وأهميته بالنسبة للفرد والمجتمع.
يُعد الشباب فئة مؤثرة في تنظيم المجتمع، وعنصراً أساسياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتحتاج المؤسسات الخيرية في رحلتها لتعزيز العطاء وترسيخ ثقافة التطوع إلى التعاون مع كافة الأطراف بما في ذلك الطاقات الشابة القادرة على خدمة المجتمع ما يلبي احتياجاته، وهذا ما أكدته دراسة بولندية نُشرت عام 2021 بعنوان: هل يؤثر تسويق المؤسسات غير الحكومية على العمل التطوعي؟ تأثير المشاركة وعدم المشاركة (Does NGOs’ Commercialization Affect Volunteer Work? The Crowding out or Crowding in Effect).
تتميز المنطقة العربية بارتفاع نسبة الشباب من إجمالي عدد السكان، وبحسب تقرير حالة سكان العالم 2020 الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، وصل تعداد سكان المنطقة العربية إلى 377 مليون نسمة من إجمالي تعداد سكان العالم البالغ 7.7 مليار نسمة، وسجلت نسبة الشباب بين 10 و24 سنة نحو 28% من إجمالي سكان المنطقة، لذا من الضروري وضع برامج تأهيلية تسهم في استثمار طاقات الشباب وحثّهم على الانخراط في العمل الخيري.
وتتمثل أسباب عزوف الشباب عن المشاركة في العطاء كما رصدتها دراسة فلسطينية في عام 2020 بعنوان: اتجاهات الشباب العاملين في مؤسسات المجتمع المدني بمحافظة عدن نحو العمل التطوعي، في غياب التنشئة الأسرية التي تنمي سلوك التطوع والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم وجود التحفيز والتشجيع وكثرة التعقيدات البيروقراطية، وضيق الوقت، وعدم وجود برامج ثابتة لرعاية المتطوعين وتنظيمهم، وبالمثل، أكدت دراسة سعودية بعنوان: أهمية دوافع المشاركة المجتمعية لدى الشباب: دراسة تطبيقية، الأندية التطوعية نموذجاً، على تبرّم الشباب من المشاركة التطوعية، أو المساهمة بدرجة ضعيفة جداً، ويعود ذلك لضعف الوعي بدور الجمعيات الخيرية التي يمكن أن تنظم جهود التطوع، إذ يرتبط مفهوم العمل الخيري وقيمته وممارسته بالسياق الثقافي للمجتمع، والانخراط فيه يمثل خطوة إيجابية لحل المشكلات بما يتلاءم مع ظروف كل مجتمع، كما يتيح الفرصة للأفراد للمشاركة المجتمعية الفعّالة كلٍ وفق اهتماماته وإمكاناته، فكيف يمكن للمؤسسات الخيرية تشجيع الأفراد على العطاء؟
كيفية حثّ الأفراد على العطاء
إذا كانت مؤسستك الخيرية تواجه مشكلة فقدان الأشخاص حماسهم تجاه نداءات التبرع، فيمكنك التغلب على ذلك من خلال الخطوات السبع التالية:
1- صِفْ تأثير العطاء
يرغب الأفراد في معرفة تأثير العطاء الذي يقدمونه، ومعرفة وجهة الأموال التي تبرعوا بها، لذا احرص على إظهار أثر التبرعات على المحتاجين، إذ وجدت دراسة كندية بعنوان: إحداث فرق مهم: التأثير يطلق العنان للفوائد العاطفية للإنفاق الاجتماعي الإيجابي (Making a difference matters: Impact unlocks the emotional benefits of prosocial spending)، أن السعادة المرتبطة بالتبرع لجمعية خيرية كانت بسبب إخبار المشاركين أن تبرعهم ذهب لشراء ناموسية سرير لطفل في إفريقيا، وأن ذلك سيُحدث فرقاً في حياته.
2- اربط العطاء بالهوية والهدف
يكون الأفراد أكثر استعداداً للتبرع عندما يرون أن الكرم جزء من هويتهم، فربط التبرع بهوية الشخص قد يزيد من عطائه، على سبيل المثال، كان الأطفال أكثر استعداداً لمساعدة الآخرين عندما صُنفوا على أنهم مساعدون، كما وجدت دراسة كورية بعنوان: إعطاء الذات: زيادة الالتزام والكرم من خلال إعطاء ما يمثل الذات (Giving the Self: Increasing Commitment and Generosity Through Giving Something That Represents One’s Essence)، أنه عندما يتخلى الناس عن شيء يمثل ذاتهم، مثل التبرع بالدم، أو ممتلكات شخصية؛ يكونون أكثر التزاماً بدعم القضية في المستقبل مقارنةً بالأشخاص الذين قدموا شيئاً أقل خصوصية، لذا اجعل الأفراد يتماهون مع مؤسستك الخيرية أو قضيتك لضمان استمرارية عطائهم.
3- استخدم كلمات معبرة
تؤثر الكلمات في عواطف الأفراد ومشاعرهم وتحدد سلوكهم وتصرفاتهم، لذا فإن استخدام كلمات معبّرة سيزيد التبرعات التي تجمعها لمؤسستك، وفي تجربة قام بها الأخصائي النفسي الفرنسي نيكولاس غوجوين (Nicolas Gueguen) ونشر نتائجها في دراسة بعنوان: أثر كلمة حب في الامتثال لطلب المساعدة الإنسانية: تقييم في مكان ميداني (The effect of the word “love” on compliance to a request for humanitarian aid: An evaluation in a field setting)، تبين أن كلمة "الحب" تثير مشاعر التضامن والتعاطف والدعم، ما دفع الناس لأن يكونوا أكثر سخاءً.
4- تجنب الصور النمطية
يمكنك الخروج عن المألوف والابتعاد قليلاً عن الصور النمطية المعتادة لجذب تعاطف الأفراد نحو المحتاجين، فهذه الصور قد لا تكون مقنعة تماماً كما تتوقع، ففي دراسة كندية بعنوان ثمن الجمال: الآثار السلبية للجاذبية على التعاطف مع الأطفال المحتاجين (The Price of Being Beautiful: Negative Effects of Attractiveness on Empathy for Children in Need)، عُرض على المشاركين صوراً لأطفال محتاجين بعضهم يتصف بالوسامة الشديدة، والبعض الآخر كانوا متوسطي الجمال، وعلى الرغم من أن وصف الصورة تحدث عن فقدان الطفل لمنزله ووالديه نتيجة كارثة طبيعية؛ لم يُحدث مظهر الطفل فرقاً، ولكن عندما ارتبط وصف الصورة بأحداث أقل مأساوية؛ حكَم المشاركون على الأطفال الأجمل بأنهم أكثر ذكاءً وقدرة على مساعدة أنفسهم.
من جهة أخرى، توصلت دراسة بريطانية أيضاً بعنوان: التبرع لضحايا الكوارث: الاستجابات للأحداث الطبيعية والبشرية (Donating to disaster victims: Responses to natural and humanly caused events)، أن الناس يتبرعون أكثر إذا تبين لهم أن المحتاجين يحاولون مساعدة أنفسهم بدلاً من انتظار عطاء الآخرين، وهنا يمكنك مثلاً استخدام صور لعائلات تحاول بناء ملجأ لها، على سبيل المثال، بدلاً من انتظار وصول المساعدة.
5- استفد من الكرم المعدي
الإنسان ابن بيئته، ويحرص على معرفة العادات والتقاليد والسلوك الذي يتماشى مع المجتمع الذي ينتمي إليه، وبالتالي يتأثر بتصرفات من حوله، لذا يمكنك الاستفادة من فكرة أن العطاء "معدي اجتماعياً"، إذ أثبتت دراسة أميركية بعنوان: المطابقة الإيجابية: تعميم القواعد الاجتماعية عبر السلوك والتعاطف (Prosocial Conformity: Prosocial Norms Generalize Across Behavior and Empathy)، أن المشاركين الذين شاهدوا غيرهم يقدمون تبرعات سخية، كانوا أكثر استعداداً للتبرع بالمال من أولئك الذين شاهدوا أشخاصاً آخرين يقدمون تبرعات قليلة، والعمل السخي الذي يقوم به شخص واحد يمكن أن يلهم غيره للعطاء، ما يوضح كيف يمكن لشخص واحد أن يؤثر في عشرات وربما مئات الأشخاص في إطار شبكتهم الاجتماعية، بما في ذلك أولئك الذين لم يلتقوا بهم مسبقاً.
6- اربط المتبرعين بالقصص والعمل الذي تقوم به
لا يهتم الناس بمعرفة أهداف مؤسستك أو رسالتها، وإنما يريدون أن يروا نتائجها على أرض الواقع، هل تمكنت مؤسستك من توفير العلاج لمرضى السرطان؟ هل استطاعت إلحاق الأطفال بالمدرسة؟. كلما ربطت الأفراد بالعمل الذي تقوم به، زادت مساندتهم لجهود مؤسستك، لذا إذا كانت لديك حكايات ملهمة من متطوعين آخرين أو من مجموعات محلية، انقلها وشجعهم على مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي لتصل إلى أكبر عدد من الأفراد، لكن احرص على عدم الإفراط في التركيز على القصص الفردية كي لا تفقد تأثيرها، فما تحتاجه مؤسستك حقاً هو استمرار الأفراد بالتبرع على المدى الطويل بدلاً من التبرع لمرة واحدة بعد الاستماع إلى قصة فردية واحدة.
7- اطلب من الناس الدفع لاحقاً واشكرهم على الفور
قد يساعد تغيير توقيت طلب التبرع في تحفيز المتبرعين المحتملين على العطاء لمؤسستك، إذ بينت دراسة أميركية بعنوان: العطاء الخيري غير المتسق مع الوقت (Time-Inconsistent Charitable Giving)، أن منح المشاركين القدرة على اختيار التوقيت المناسب لهم لإرسال أموال التبرع؛ زاد من العدد الإجمالي للأشخاص الذين قرروا التبرع، وكذلك، منحهم حرية الامتناع عن التبرع في أي وقت جعلهم أقل احتمالية لعكس قرارهم الخاص بالعطاء.
إذاً، اتباع مؤسستك الخيرية لهذه الخطوات سيجعل الأفراد جزءاً أساسياً من منظومة عملك، ويشعرهم أن العطاء الذي يقدمونه حسب إمكاناتهم واهتماماتهم سينعكس إيجاباً في تنمية المجتمع.