تقييم الأثر الجماعي: التعلُّم أثناء العمل

6 دقائق
تقييم الأثر الجماعي
www.unspalsh.com/Jan Antonin Kolar

أدى اتباع قادة القطاع الاجتماعي لنهج الأثر الجمعي في حل المشكلات إلى إثارة سؤال مهم في أذهان الكثيرين: بالنظر إلى مدى تعقيد العمل وتقلبه، ما هي أفضل طريقة لتقييم التقدم الذي تحرزه مبادرات الأثر الجمعي، والنجاح الذي حققته؟

جرت العادة أن تركز تقييمات مبادرات محددة على النتائج التي يحصلون عليها، لمعرفة ما إذا أفلحت مبادراتهم أم لا، والعوامل التي أدت إلى نجاحها، لكن مبادرات الأثر الجمعي تتضمن أنشطة وبرامج ومبادرات متعددة يكمل بعضها بعضاً، كما أنها تهدف إلى تغيير أنظمة شديدة التعقيد. ونتيجة لذلك، لن يدل مجرد أخذ فكرة عن فعالية مبادرة معينة في فترة محددة على فعالية هذه المبادرة بالمجمل. ولتقييم فعاليتها حقاً لا بد لقادة الأثر الجمعي من رؤية الصورة الأشمل التي تتضمن العديد من عناصر المبادرة المختلفة وسبل تفاعلها وتطورها مع مرور الوقت، لذلك فهم بحاجة إلى طريقة جديدة للتقييم، والتقييم الفعال للأثر الجماعي يتطلب الممارسات التالية:

الممارسة الأولى: أن يقيم شركاء مبادرات الأثر الجمعي التقدم المحرز في عملية صنع التغيير برمتها والأثر الذي تحدثه، بدلاً من محاولة عزل تأثيرات مبادرة منفردة ووقعها. تشمل هذه العملية الظروف المحيطة بالمبادرة، وجودة هيكلية المبادرة وسير عملياتها وفعاليتهما، والتغييرات في الأنظمة التي تؤثر على القضية المستهدفة، والتقدم الذي أحرزته المبادرة نحو تحقيق أهدافها النهائية. لا شك في أن التركيز النسبي للتقييم سيتغير مع توسع مبادرة الأثر الجمعي، على سبيل المثال، قد يقدّر التقييم الأولي قوة المبادرة بحد ذاتها، وقد يركز التقييم الذي يليه على تأثيرها في الأنظمة المستهدفة.

الممارسة الثانية: بدلاً من الاستعانة بقياس الأداء وتقييمه لتحديد النجاح أو الفشل، يجب على شركاء مبادرات الأثر الجمعي الاستفادة من المعلومات التي يوفرها لهم التقييم في اتخاذ القرارات حول تكييف مبادراتهم مع المستجدات وتحسينها، ولتحقيق ذلك لا بد لشركاء مبادرات الأثر الجمعي من دمج التقييم والتعلم في أسس مبادرتهم بدلاً من التعامل معهما على أنهما إجراء سنوي (أو ربع سنوي).

يتطلب تبني هذا النهج الشامل القابل للتكيف لتقييم الأثر الجمعي من القادة اتخاذ 3 إجراءات بطريقة مختلفة سنوضحها فيما يلي: يجب عليهم تحديد طبيعة المبادرة وتقصي أسبابها وإكثار الأسئلة.

اقرأ أيضاً: التأثير الجمعي: حوار حول المشاركة المجتمعية

دراسة المبادَرة 

في البداية ينبغي على شركاء الأثر الجمعي تقييم تقدم عملية صنع التغيير وفعاليتها بالمجمل، ويتطلب القيام بذلك دراسة المستويات الأربع للمبادرة: الظروف المحيطة بالمبادرة، والمبادرة بحد ذاتها، والأنظمة التي تستهدفها، ونتائجها النهائية.

الظروف المحيطة بالمبادرة: تشير الظروف إلى كل ما يؤثر في تصميم المبادرة وتنفيذها وفعاليتها، بما في ذلك من ظروف اقتصادية وتركيبة سكانية وتركيز إعلامي وإرادة سياسية وإتاحة التمويل وقيادة وثقافة وغيرها من العوامل. التغيرات في الظروف حتمية، وتكون غالباً عنصراً حاسماً في دعم نجاح المبادرة أو إعاقته. مثلاً، بما إن تبلور مشروع خارطة الطريق في ولاية واشنطن عام 2012، علم قادته أنه بإمكانهم التقدم بطلب للمشاركة في السباق إلى القمة لنيل جائزة المنطقة الفدرالية فنظموا أنفسهم بنجاح وفازوا بجائزة 40 مليون دولار، وأدى تدفق الدعم المالي إلى تعزيز إمكانيات المبادرة بدرجة كبيرة، وتسريع تنفيذ استراتيجياتها ذات الأولوية.

لإدراك كيف يمكن أن تؤثر تغيرات الظروف المحيطة في نتائج المبادرة، تأمل المثال التالي عن التقييم النهائي لـحملة شيب أب سومرفيل (Shape Up Somerville)، حيث ركزت مبادرة الأثر الجمعي هذه ومقرها في ولاية ماساتشوستس على الحد من معدلات البدانة على مستوى المدينة، وأدرجت تحليلاً لتركيبتها السكانية المتغيرة. يقول قادتها إنه من المتوقع أن ترتفع معدلات البدانة مع ازدياد التنوع العرقي في المجتمع، كما هو الحال في سومرفيل، ولولا أخذ تغيرات التركيبة السكانية المحلية في الاعتبار لما تمكنت الجهات المتعاونة مع المبادرة من فهم فعالية مساعيها بالكامل.

المبادرة بحد ذاتها: بالنسبة لأي مبادرة تتبع نهج الأثر الجمعي، فإن تغيير الطريقة التي تتفاعل بها المؤسسات والأفراد فيما بينهم، والنهج الذي يتبعونه لحل المشكلات المعقدة يعد هدفاً جوهرياً، ولو كان مضمراً في معظم من الأحيان. تكمن القوة الحقيقية لنهج الأثر الجمعي في طريقة عمله، وهي القدرة على توحيد مجموعات متنوعة لتحقيق هدف مشترك، وتشجيع المناقشات المفتوحة والتواصل الدائم، ودعم تنسيق الأنشطة والتوفيق بينها، والتشجيع على التعلم والتطوير المستمر. على سبيل المثال، وجد تقييم أجرته مبادرة فايبرنت كوميونيتيز (Vibrant Communities) لمكافحة الفقر على مستوى دولة كندا بأسرها، أن طبيعة المبادرة  المتعددة القطاعات تسهم في دفع الحكومة على مواصلة تغيير السياسة، لأن أصحاب المصالح المختلفة في المجتمع درسوا بالفعل ملاءمة هذه المقترحات لمصالح المجتمع.

وعلى نحو مماثل، تعزو مبادرة شيب أب سومرفيل جزءاً كبيراً من نجاحها إلى أساليبها المتبعة حسب كل مستوى للتشجيع على الحياة النشيطة والغذاء الصحي، إذ عملت المبادرة على إشراك المدارس العامة وقادة حكومة المدينة والباحثين الأكاديميين والمؤسسات المدنية والمجموعات المجتمعية والشركات متضمنة المطاعم، والمشرفين على اتباع نهج متكامل لحل المشكلات، ما سهل حدوث التغيير على مستوى الأنظمة. وبالتالي، نجحت المبادرة في خفض معدلات بدانة الأطفال في جميع أنحاء مدينة سومرفيل.

يتطلب تقييم تقدم عملية صنع تغيير الأثر الجمعي وفعاليتها بمجملها تركيزاً شديداً على تصميم المبادرة وتنفيذها، فعلى الرغم من احتمال أن يشكك قادة الأثر الجمعي في قيمة عملية التقييم، نحثهم على الاهتمام بجودة مبادرتهم نفسها وقوتها، وخاصة في سنواتها الأولى إذ تتخذ القرارات الحاسمة والبالغة الأهمية في هذه المرحلة، والتعلم فيها لا غنى عنه.

الأنظمة التي تستهدفها المبادرة: تطمح معظم مبادرات الأثر الجمعي إلى تحقيق أهداف ضخمة، فهي لا تسعى إلى معالجة المشكلات المعقدة فحسب بل تحاول أيضاً إحداث التغيير على نطاق واسع. يستدعي تحقيق هذه الدرجة من التأثير المستدام من مبادرات الأثر الجمعي إجراء تغييرات جوهرية في الأنظمة، عن طريق التأثير في المعايير الثقافية والسياسات العامة وتدفقات التمويل، بالإضافة إلى الأنماط السلوكية ومنها التغييرات في الممارسة المهنية أو التغييرات في السلوك الفردي. تهيئ التغييرات على مستوى الأنظمة الظروف التي تتيح لمبادرات الأثر الجمعي تحقيق أهدافها النهائية، فمثلاً تعزو مبادرة شيب أب سومرفيل جزءاً من نجاحها إلى مجموعة من التغييرات التي أجرتها على مستوى الأنظمة شملت زيادة تمويل أنشطة مكافحة البدانة وتقديم عروض على قوائم الطعام الصحية في المدارس العامة وأكثر من 40 مطعماً محلياً، وإنشاء طرائق جديدة للدراجات الهوائية وإجراء تحسينات على مرافق الحديقة العامة، وتحسين معايير التغذية في المدارس وغيرها من المؤسسات العامة، وتحسينات في تجهيزات التربية البدنية وأماكنها وأنشطتها في المدارس وبرامج ما بعد المدرسة.

النتائج النهائية للمبادرة: في أثناء توسع المبادرة، ينبغي على شركاء الأثر الجمعي مراقبة أهدافهم النهائية بحذر، فمن الطبيعي أن تحرز المبادرات تقدماً بطيئاً أو ضئيلاً نحو تحقيق أهدافها في سنواتها الأولى، ولكن يجب أن يتوقع شركاء الأثر الجمعي تحقيق تغيير ملموس وقابل للقياس بعد مرور 3-4 سنوات، وعليهم أن يتتبعوا هذا التقدم مع مرور الزمن بواسطة نظام القياس المشترك للمبادرة، والتقييمات الأدق.

اقرأ أيضاً: الشروط الخمس لتحقيق الأثر الجماعي على الصحة والرفاه

تقصَّ الأسباب

ينبغي على شركاء الأثر الجمعي الاستفادة من نتائج تقييماتهم في صناعة قرارات ذكية حول تكييف المبادرة وتحسينها، ولصنع مثل هذه القرارات يجب على الممولين استكمال أنشطة قياس الأداء التي تركز على تحديد ما يحدث بأنواع أخرى من التقييم التي تهدف إلى فهم طرائق التغيير وأسبابه.

يمكن لشركاء الأثر الجمعي توظيف 3 نهج تقييم مختلفة لكل مرحلة من مراحل عمر المبادرة؛ التقييم التنموي، والتقييم التكويني، والتقييم التحصيلي، وكل منها يجيب عن أسئلة مختلفة.

نهج التقييم هذه ليست متعارضة، إذ يمكن لشركاء الأثر الجمعي بل حريّ بهم اتباع مجموعة من النهج مع مرور الوقت. فمثلاً، استخدمت حملة فايبرنت كوميونيتيز في كندا التقييم التنموي لتقصي التغييرات في الظروف المحيطة بالمبادرة وآثارها المحتملة، واستخدمت في الوقت نفسه التقييم التكويني لصقل مساعيها الحالية، وفي وقت لاحق استخدمت تقييماً تحصيلياً لاستعراض فعاليتها وتأثيرها العام.

أكثِر السؤال

الغاية من قياس الأداء وتقييمه في سياق الأثر الجمعي هي دعم التعلم، وهدفه إتاحة التحسين المستمر، نقترح أن يتبع شركاء الأثر الجمعي الخطوات التالية للحصول على تقييم فعال:

ابدأ مبكراً: حتى قبل أن يبدأ العمل بنظام قياس مشترك في المبادرة، إذ يمكن لشركاء الأثر الجمعي مراقبة مجموعة من مؤشرات الأداء المبكرة التي تركز على جودة تصميم المبادرة وتنفيذها، كما يمكنهم أيضاً استخدام عناصر التقييم التنموي لتوفير المعلومات حول فعالية المساعي المبكرة للمبادرة. على سبيل المثال، تستخدم مبادرة للحد من وفيات الرضع في المناطق الريفية بمدينة ميسوري التقييم التنموي لتعزيز فهم أثر العوامل الظرفية والديناميات الثقافية في تطوير الاستراتيجية، ويعمل الشركاء مع فريق من المدربين في التقييم لطرح أسئلة مثل: ما هي وجهة نظر مختلف أصحاب المصلحة بمنطقتنا في مشكلة وفيات الرضع، وما هي الآثار المترتبة على تصميم مبادرتنا للأثر الجمعي؟

دمج التعلم في أسس المبادرة: لجعل التعلم عملية مطبقة ونشطة ومنتظمة، لا بد لشركاء الأثر الجمعي من إنشاء هيكليات وإجراءات واضحة للتعلم. على سبيل المثال، يمكنهم إتاحة المجال لجلسات التفكّر الجماعي في بداية الاجتماعات، أو إجراء استقصاء دوري للمشاركين لتحديد القضايا الملحة. تشجع هذه الإجراءات الشركاء على تبادل المعلومات والأفكار والأسئلة، وبالتالي لها أهمية حاسمة في تطوير المبادرة  المستمر.

تخصيص الموارد على النحو الملائم: بما أن التعلم أساسي لنجاح نهج الأثر الجمعي، فمن الأهمية بمكان الاستثمار في قياس الأداء وتقييمه باستمرار. بالنسبة للعديد من مبادرات الأثر الجمعي، يتطلب القياس المتواصل تخصيص موظف يعمل بدوام جزئي أو بدوام كامل لتنظيم الدروس المستفادة والإشراف عليها وإدراجها وتطبيقها على المبادرة، أما بالنسبة للآخرين فهو يعني البحث عن دعم خارجي متمثل بمدرب أو جهات تقدم المساعدة التقنية أو مقيم محترف، ومن المرجح أن تعتمد معظم مبادرات الأثر الجمعي على مزيج من موارد التقييم الداخلية والخارجية بمراحل مختلفة. نحث شركاء الأثر الجمعي بغضّ النظر عن تكوين فريق التقييم على التخطيط بعناية للموارد المالية والموظفين اللازمين لدعم نهج قوي لقياس الأداء وتقييمه. في النهاية وكما جاء في تقرير صادر عن مجتمع مانحي المؤسسات الفعالة (Grantmakers for Effective Organizations): عندما يصبح التقييم وسيلة للتعلم بغاية التطوير سيبدو الاستثمار في التقييم مجدياً لأنه يوفر المعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات أذكى وأسرع حول ما يجدي بالفعل.

تقييم الأثر الجماعي

يجب أن يكون نهج تقييم الأثر الجمعي الفعال مرناً وقابلاً للتكيف ومتعدد الجوانب، وليس من الضروري أن يكون شاملاً أو مكلفاً للغاية. وتتنوع أشكال جهود التقييم وأحجامها، إذ يعتمد نطاق أي تقييم فردي وحجمه على الوقت والإمكانيات والموارد المتاحة. كما أن تركيز التقييم بما فيه من أسئلة ونتائج ومؤشرات سوف يتغير مع توسع المبادرة، لذا ستكون مبادرات الأثر الجمعي الأكثر فعالية هي تلك التي تدمج عمليات التعلم والتقييم بسلاسة في عملها منذ البداية، لتسمح لها بالتطور بالتزامن مع تطورها، وتجعلها دليلاً يرشدها في المستقبل.

اقرأ أيضاً: مبادرات الأثر الجماعي: كيف ننسق بينها؟

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي