الاستكشاف الذاتي لتعزيز فعالية قادة التغيير الاجتماعي

الاستكشاف الذاتي
Shutterstock.com/Pheelings media
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يتعرض الرواد الاجتماعيون، لا سيما أولئك الذين يعملون على قضايا حساسة سياسياً أو اجتماعياً، لخطر متزايد للإصابة بالاحتراق الوظيفي بسبب أعباء العمل والقلق والضغط الاجتماعي. لذا سنستعرض في مقالتنا هذه مفهوماً قد يساعد القادة الاجتماعيين على تخطي مرحلة الاحتراق، ويعمل على تحسين صحتهم العقلية، هذا المفهوم هو «الاستكشاف الذاتي».

تقول بدرية هوليا؛ مؤسسة سلسلة الصالات الرياضية «بي-فيت» (b-fit): «كنت أشعر بأنني محاصرة وغاضبة في معظم الأوقات، لقد عملت من الصباح الباكر حتى منتصف الليل، مع عدم وجود وسيلة للتعبير عن احتياجاتي العاطفية والفكرية بخلاف التواصل مع الموظفين لديّ، والنساء في المناطق المحلية اللواتي نقدم خدماتنا لهن، وشعرت بمرور الوقت بالحاجة إلى تواصل أكثر عمقاً، وشعرت أيضاً بالذنب لأنني أردت المزيد، لقد كنت في حالة غير صحية على الإطلاق».

لقد سمعنا عن الكثير من هذه المشاعر خلال العديد من محادثاتنا مع الرواد الاجتماعيين؛ إذ قال مايك ساني؛ مؤسس «بايت ذا بالوت» (Bite the Ballot)؛ وهي مؤسسة معنية بالمشاركة المدنية وتتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها: «كنت أعتمد على الأدرينالين الاصطناعي في السنوات الخمس الأولى، ما يراه الناس هو الجوانب البراقة فقط، لكن لا أحد يعلم ما في الأعماق، لقد ألقيت اللوم على نفسي جرّاء عدم تحقيق مهمة المؤسسة على نحو أسرع، وعانيت من متلازمة المحتال، ولم يفهم أي من أفراد عائلتي ما كنت أمرّ به؛ لذلك شعرت بالوحدة بشكل لا يصدق».

قالت وانجا موغونغو؛ المديرة التنفيذية المؤسسة لصندوق «أوهاي إياشري» (UHAI EASHRI)؛ أول صندوق نشط محلي يدعم قضايا حقوق الإنسان في أفريقيا: «عندما تعمل في ظل نظام قمعي بهدف تغيير هذا النظام، فأنت تدرك باستمرار السلطة الضئيلة التي تملكها مقابل السلطة التي يتمتع بها الظالمون، لم أحصل على إجازة لمدة سبع سنوات، لأنني شعرت أنه من المستحيل أخذ استراحة أثناء مناقشة القوانين الظالمة؛ والتي تتم الموافقة عليها في الهيئات التشريعية الأفريقية».

أدت وطأة العمل الشديدة والضغط المستمر الذي واجهته موغونغو في النهاية إلى إصابتها بالاحتراق الوظيفي؛ وهو أمر دفعها إلى التفكير العميق والمستمر بالذات، وأدى في النهاية إلى تنحيها، وأضافت: «إن العمل في مجال حقوق الإنسان استهلك طاقتي طوال فترة شبابي، وسألت نفسي للمرة الأولى في حياتي، مَن أنا من دون عملي؟ قررت البدء في التخطيط لترك العمل، ثم استقلت من منصبي؛ وهو ما كنت بحاجة إليه بسبب الإرهاق والإجهاد».

كانت هذه مجرد أمثلة قليلة من بين العديد من الأفكار والآراء الشجاعة التي شاركنا بها الرواد الاجتماعيون وقادة المؤسسات الخيرية، وغيرهم من قادة التغيير الاجتماعي خلال عام 2019، وقد تضمن بحثنا؛ الذي أُجري بالتعاون مع «مشروع الرفاه» (Wellbeing Project)، مقابلات متعمقة مع 30 قائداً مختلفاً لتحديد رؤىً جديدة اكتشفوها عن أنفسهم من خلال ما يُعرف بالاستكشاف الذاتي (أو العمل على الذات أو على المستوى الشخصي أو الرعاية الذاتية)، والتغييرات التي أحدثوها نتيجةً لتلك الأفكار، كما استفسرنا عن طبيعة تلك العادات لفهم الأدوات والبرامج والموارد التي أثبتت فاعليتها.

كأول مقالة في هذه السلسلة حول الرفاه، وجدنا أن الاستكشاف الذاتي المتواصل ساعد القادة على إدارة طاقتهم وقدرتهم على التأقلم ليصبحوا قادة فرق أكثر كفاءة، وتطوير تعاون فاعل مع المؤسسات الأخرى للدفع بالتغيير الإيجابي والمستدام قدماً أثناء معالجة الأفراد والمؤسسات والحكومات الحالية للمشكلات. دعونا فيما يلي نلقي نظرة أقرب على بعض التحولات المميزة التي مر بها القادة من خلال الاستكشاف الذاتي والعادات التي نجحت معهم.

كيف يتبلور الاستكشاف الذاتي

نحن نعرّف الاستكشاف الذاتي على أنه عملية معاينة للذات، والتفكير فيها بهدف واضح؛ يتمثل في رفع الوعي الذاتي، والاتصال مرة أخرى بالهدف، والشعور بالسعادة، والشفاء من الصدمات السابقة، والتحول نحو أنماط سلوك أكثر صحةً؛ خاصةً فيما يتعلق بالتفاعل مع الآخرين، وتشمل المهارات المفيدة؛ التي يتم تطويرها من خلال ممارسة الاستكشاف الذاتي: الاستماع الجيد والصبر والتعاطف والوضوح والرؤية الشاملة لكيفية تأثير مختلف القضايا والأشخاص والشركاء على بعضهم البعض.

تجذب قيمة الاستكشاف الذاتي اعترافاً متزايداً؛ سواء في القطاع الاجتماعي أو خارجه، ويصف عالم النفس ريتشارد شوارتز؛ مؤسس «مركز القيادة الذاتية» (The Center for Self-Leadership)؛ وهو مركز تدريب يركز على الاستكشاف الذاتي، ثماني نتائج للاستكشاف الذاتي، وهي: الهدوء والفضول والوضوح والتعاطف والثقة والإبداع والشجاعة والترابط.

في الوقت ذاته، عمل جيري كولونا؛ الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة تطوير القيادة «ريبوت دوت آي أو» (Reboot.io)، مع العشرات من المدراء التنفيذيين والرواد الاجتماعيين، لمساعدتهم على ممارسة القيادة بحس إنساني ومرونة واتزان، وفي كتابه الجديد «إعادة التشغيل: القيادة وفن التنمية» (Reboot: Leadership and the Art of Growing Up)، كتب كولونا التالي: «يساعدنا الاستكشاف الذاتي العميق على التأمل ورؤية الأنماط في حياتنا والعوامل التي تشكل هويتنا»، إنه يعتبر الاستكشاف الذاتي ثورياً في جزء منه، لأنه نادر الحدوث، وقد يكون مُحبِطاً في كثير من الأحيان.

ويضيف: «نحن مهيؤون اجتماعياً لاعتبار أن الاستكشاف الذاتي ينطوي على التسامح مع الذات، وهو قريب جداً من الحقيقة؛ إذ أن ممارسته لا تجعلنا قادةً أفضل فحسب، بل تساعدنا أيضاً على أن نكون أفضل على المستوى الشخصي، وأكثر سعادةً ومرونة».

العلاقة السببية بين المعاينة الذاتية وتغيير السلوك هي جوهر الاستكشاف الذاتي، يدرّس ديفيد غيرمانو؛ المدير التنفيذي لـ«مركز العلوم التأملية» (Contemplative Sciences Center) في «جامعة فيرجينيا»، مقرراً عن «ازدهار الإنسان»؛ حيث يدرب الطلاب على عيش حياة أكثر صحة وتفاعلاً، وقال خلال مقابلتنا معه: «إذا أردنا أن يكون أداؤنا أفضل، فنحن بحاجة إلى الاهتمام بالعادات التي ننخرط فيها، وتقييم ما إذا كانت هذه العادات تؤدي إلى نتائج تتماشى مع أعمق قيمنا.

لا يمكنك أن تقول أنا أتطور عاطفياً، لكنني محطّم جسدياً، أنت بحاجة إلى فهم العلاقة بين عاداتك والإسهامات والنتائج»، وفي كتاب «الاقتصاد المقدّس» (Sacred Economics)، أكد المؤلف تشارلز آيزنشتاين أيضاً على هذه الصلة؛ حيث يقول: «في النهاية، لا يمكن فصل العمل على الذات عن العمل لجعل العالم مكاناً أفضل، لأن كل منهما يعكس الآخر، وكل منهما وسيلة للآخر؛ عندما نغير أنفسنا، تتغير قيمنا وأفعالنا أيضاً».

للقادة المهتمين بتطوير ممارسة الاستكشاف الذاتي ولكنهم غير متأكدين من أين يبدؤون، نوصي بما يلي:

  • ابدأ الآن. لا تنتظر حتى تصاب بالإرهاق أو تفرض عليك مؤسستك الخروج، إذا قلت لنفسك أنك ستبدأ بممارسة الاستكشاف الذاتي في غضون ستة أشهر بمجرد أن تتحسن الظروف، أو إذا كنت تواجه صعوبةً في تخصيص الوقت، فتذكر أن الاستكشاف الذاتي لا يعني الانغماس مع الذات؛ لأنه ليس رفاهية، بل أساس نجاحك ومرونتك في العمل والحياة.
  • ابدأ بخطوات صغيرة. اعمل على بناء عادة يومية لممارسة اليقظة الذهنية، من أجل تعزيز قدرتك على البقاء في الحاضر؛ قد يعني ذلك تخصيص خمس دقائق لتمارين التنفس العميق في الصباح، أو قبل اللقاءات الهامة بالاستعانة بتطبيقات التأمل؛ مثل «هد سبيس» (Headspace) أو «إنسايت تايمر» (Insight Timer)، أو قضاء بعض الوقت يومياً في مراقبة المناظر الطبيعية والاستماع إلى الأصوات من حولك؛ أثناء تنقلاتك أو في حديقة مجاورة. 
  • احرص على تنمية نظام الدعم الاجتماعي من حولك. ابحث عن عمد عن تواصل حقيقي ووثيق تجريه مع شخص يُعدّ نظيراً لك، وابحث عن أشخاص يعملون على تطوير عاداتهم الخاصة، واحرص على إجراء محادثات شخصية معهم حول كيفية سير العملية وما الذي تتعلمه عن نفسك. 
  • إدخال ممارسة الاستكشاف الذاتي إلى مؤسستك. قد يشمل ذلك إجراء محادثات قصيرة مع زملائك قبل وبعد اجتماع الفريق للاستفسار عن أحوالهم، أو القيام بمبادرات بسيطة؛ مثل اصطحاب زميل إلى الغداء، ويمكن أن ينطوي أيضاً على الاستعانة بجهة منسِّقة للذهاب لمكان هادئ لإنشاء مساحات آمنة للآراء الصريحة، وتطوير علاقات عمل تتسم بالشفافية والصدق أكثر. 
  • خذ بالاعتبار الاستعانة بمدرب أو معالج. يمكن أن يساعدك الدعم المهني على فهم مصدر محفزاتك العاطفية بشكل أفضل، وتغيير طريقة نظرتك لتجارب الماضي المؤلمة، والشفاء من الصدمات العميقة، أو يمكن أن يساعدك ذلك على التركيز على جوانب شخصيتك؛ مثل ممارستك للنقد الذاتي أو تفضيلك للأنا العليا؛ والتي يمكن أن تدفعك نحو ممارسات غير صحية أو مدمرة للذات. 
  • ابحث عن برنامج منظم مناسب لك. هناك مجموعة متنوعة من البرامج التي يمكن أن تساعدك على إنشاء عاداتك الخاصة وتطويرها؛ على سبيل المثال، يقدم «مشروع الرفاه» برنامج تطوير داخلي لمدة 18 شهراً؛ يعلّم آليات الاستكشاف الذاتي، وهناك برامج أخرى مثل «ورشة عمل الأعمال الخيرية» (The Philanthropy Workshop) و«تندرل» (Tendrel). 
  • الذهاب إلى مكان هادئ للاسترخاء. ذكر معظم الأشخاص الذين تحدثنا إليهم قيمة الذهاب بشكل دوري إلى مكان هادئ لإعادة النظر في أولوياتهم وطرق تواصلهم مع أنفسهم، ويقود بعض تلك الأنشطة مدرسون أو جهات منسِّقة، لكن يمكنك أيضاً الذهاب إلى مكان معين لتجلس مع نفسك بهدوء؛ إذ يتيح لك ذلك الوقت للتفكير المتواصل، والعودة متجدداً ومنتعشاً ومستعداً للانخراط بالحياة اليومية بمنظور جديد.

اقرأ أيضاً: فوائد ممارسة الاستكشاف الذاتي.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.