عندما يمتزج العطاء اللامحدود بالتفاني في العمل، يبدأ الإنسان تحقيق إنجازات لا يمكن توقعها من دون أن يشعر بالكلل أو الملل. قد تأتي هذه الإنجازات في بعض الأحيان من دون وجود بيئة عمل إيجابية، وقد لا تعتمد على محفزات خارجية مثل وجود فريق عمل استثنائي يساعدك على تقديم أفضل أداء. في كثير من الأحيان، يكون المحفّز الأساسي لتحقيق الإنجازات هو دافع داخلي ينبع من الشخص نفسه، إما لتأثُره بأشخاص ملهمين في بداية حياته أو نتيجة معايشته لأشخاص يواجهون تحديات عديدة.
بدأت رحلتي مع التطوع في السنة الأولى من دراستي الجامعية، حين قررت الانتقال من عمّان، موطني الأصلي، إلى مدينة إربد في شمال الأردن لأكمل دراستي وأحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص اللغويات، فبدأت أتعرف على المدينة وأهلها، ولاحظت حبهم الكبير للقراءة والتعلم. وهناك، بدأت رحلتي الحقيقية في عالم العطاء.
تُعرف مدينة إربد بوجود العديد من المقاهي، ويحمل كل مقهى في داخله قصة فريدة عن الأشخاص الذين يرتادونه إما للاستمتاع بوقتهم أو للعمل فيها. ونظراً لكثرة الإقبال على المقاهي؛ قررت أن أسهم بإنشاء مكتبة صغيرة في كل مقهى بالمدينة، وطرحت هذه الفكرة على زملائي في الجامعة، وسرعان ما بدأنا بتنفيذها. وكان هدفنا من هذه المبادرة هو تعزيز حب سكان إربد للقراءة وتحفيز زوّار المقاهي من مختلف الأماكن والبلدان على القراءة والاستفادة منها.
كنت جزءاً من هذه المبادرة لفترة من الزمن، ثم توقفت عن متابعتها بسبب ظروف شخصية. ولكن، على الرغم من ذلك، لم أستسلم قط واستمررت في العمل على أفكار جديدة. اليوم، بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على تلك الفترة، ومع حبي الدائم للتطوع ومساعدة الآخرين، أجد نفسي دائماً أتساءل لماذا أستمر في العمل التطوعي دون مقابل؟ وإلى متى سأستمر؟ اليوم، وجدت الإجابة، وسأسردها لكم في النقاط الأربع الآتية:
1. الشعور بالامتنان
يشعر العديد من الأشخاص بعدم الرضا عن الحياة بسبب الرواتب المتدنية، وندرة الفرص، وفي المقابل يوجد أشخاص يتمتعون بكل مقومات الرفاهية لكنهم يرغبون دائماً في المزيد. وعندما يبدأ هؤلاء الأشخاص بالعمل التطوعي سيدركون بأن الحياة غير متكافئة وأن البعض يعمل بجد واجتهاد ولكن حياته مليئة بالمصائب والتحديات، وبعد انتهائهم من النشاط التطوعي سينتابهم شعور بالسعادة والامتنان.
وهذا ما أثبتته دراسة مسحية لكاثرين فيراسامي مورالي وسامبا سيفان على ألف متطوع في مؤسسة تطوعية بماليزيا، توصلتا من خلالها إلى أن الرضا عن الحياة يتأثر بالفترة الزمنية للتطوع وطبيعة الاتصال مع المستفيدين وكذلك الشعور بالسكينة والهدوء بتكرار مرات التطوع.
2. العطاء بلا حدود
توصل الطبيب وعالم النفس الأميركي ماكسويل مالتز ومؤلف كتاب: "علم التحكم الآلي النفسي" (Psycho-Cybernetics) إلى أن الإنسان يحتاج إلى 21 يوماً لاكتساب عادة جديدة، وعلى الرغم من الجدل الذي أُثير حول قدرة الشخص بالفعل على اكتساب عادة خلال هذه المدة القصيرة؛ فإن فكرة التكرار قد تنعكس إيجاباً على عالم التطوع. فالشخص الذي يمارس النشاط التطوعي باستمرار يرى تأثيراً إيجابياً على أدائه في العمل؛ إذ يبدأ بمساعدة أعضاء الفريق بلا مقابل، ويتولى مهام إضافية لا تتعلق بوظيفته اليومية، ما يؤثر تأثيراً إيجابياً في مهاراته ويساعده على فهم جوانب جديدة من العمل.
بصفتي خبيرة في مجال الموارد البشرية، أؤمن بأن الشخص المتميز في عمله هو الشخص القادر على تنفيذ مهام متنوعة لا تتعلق بما هو متوقع يومياً، ويفعل ذلك دون أن يشعر بالإرهاق أو الملل، وهذه هي الصفات التي يتحلى بها الشخص المتطوع.
في يوم من الأيام، عملت مع زميلتي التي كانت تتطوع دائماً في مراكز رعاية كبار السن، وتميزت بقدرتها اللامحدودة على مساعدة زملائها، فقد كانت دائماً مستعدة لتقديم يد العون حتى وإن استغرق الأمر ساعات أو أيام، ليثبت ذلك أنها صبورة ومتفهمة جداً، وهذا ما دفع مديرها المباشر إلى التوصية بإكمالها درجة الماجستير في بريطانيا، إذ ركز على حبها لإسعاد الآخرين.
3. الثقة بالنفس
يتوقع العديد من الأشخاص أن التطوع عمل سهل، ولكن على العكس تماماً، فالعمل التطوعي يرتبط بتحديات تتعلق بالميزانيات ونقص الموارد والمصادر وغيرها. ونرى أن معظم الشركات أو الأفراد لا يرغبون في إنفاق مبالغ مالية كبيرة دون وجود ربح أو عائد على الاستثمار، فيدرك الشخص المتطوع باستمرار مدى صعوبة الحصول على الموارد، لذلك ينفقها ويستغلها بأفضل الطرق وأكفئها، وقدرته على تجاوز مثل هذه الصعوبات تجعله شخصاً واثقاً بنفسه.
وبما أنني خبيرة في مجال الموارد البشرية؛ دائماً ما أفضل توظيف الأشخاص الواثقين من أنفسهم؛ لأنهم قادرون على تحقيق المستحيل، بالإضافة إلى اهتمامهم بصورتهم المهنية والاستمرار في العمل بجد واجتهاد حتى يحافظوا على سمعتهم الجيدة أمام أنفسهم والآخرين.
4. يفتح طرقاً وأبواباً جديدة
من خلال عملي التطوعي، تمكنت من الحصول على مقابلات عمل في شركات لم أكن أحلم يوماً بأن أترشح لمنصب فيها، فعندما تخرجت في الجامعة وبدأت رحلة البحث عن عمل، لاحظت الشركات ما أمتلكه من خبرة تطوعية تمنح أي فرد فرصة لإثبات نفسه وتطويرها على نحو أفضل من العمل في وظيفة ثابتة. عادةً ما تكون توقعات الشركات مرتفعة، ولكن عندما يتعاملون مع متطوعين وافقوا على مساعدتهم بمقابل بسيط، تزيد نسبة تقبل الأخطاء لديهم بصورة كبيرة مقارنة بالموظفين الدائمين. وبناءً على ذلك، تكون الشركات عادة مستعدة لمنح الأشخاص المتطوعين فرصاً متعددة، خاصة لأن العمل معهم يكون لفترة قصيرة. لذلك أنصح دائماً الأفراد بالبدء بالعمل التطوعي حتى يتمكنوا من اكتساب خبرات ومهارات متعددة وفي مجالات مختلفة.
قد نرى العديد من الأفراد الذين حصلوا على فرصة تدريب في وكالة ناسا أو شركة جوجل ولكن لم نر العديد من الأشخاص الذين عملوا في هذه الشركات بسهولة.
في النهاية، إذا كنتم في طريقكم إلى البدء بمسيرتكم المهنية، أو إذا كان ينتابكم اليأس من الحياة، أنصحكم بالعمل التطوعي لما له فائدة على الجسد والنفس والروح، وكذلك تحقيق أفضل النتائج في مسيرتكم المهنية. علماً بأن العمل التطوعي لا يتعلق فقط بحجم التأثير إنما أيضاً بقدرتكم على الاستمرارية.