التحول الأخضر للاقتصاد السعودي: الطريق إلى الحياد الصفري بحلول 2060

5 دقيقة
التحول الأخضر
shutterstock.com/Black Salmon

في عالم يتسابق نحو التقدم والتكنولوجيا، يقف الكوكب أمام تحدٍّ حقيقي وهو: كيف نعيش ونتطور دون أن تختنق الأرض بالغازات الدفيئة؟ فمع تزايد الكوارث المناخية وارتفاع درجات الحرارة، لم يعد الحديث عن البيئة رفاهة أو "موضة خضراء"، بل أصبح ضرورة مصيرية.

إذ يبيّن تقرير فجوة الانبعاثات لعام 2023، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة ازدادت بنسبة 1.2% بين عامي 2021 و2022 لتسجل مستوىً قياسياً جديداً بلغ 57.4 غيغا طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون.

وفي حين تستهدف المملكة العربية السعودية تقليل الانبعاثات الكربونية بمقدار 278 مليون طن سنوياً بحلول عام 2030، بلغت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من احتراق الوقود نحو 533 مليون طن في عام 2022، مع وصول نصيب الفرد من الانبعاثات إلى نحو 15 ألف طن، بحسب الوكالة الدولية للطاقة.

بدأت الدول تدرك أن المستقبل يُبنى على الطاقة النظيفة، والاقتصاد الأخضر، وأن الوصول إلى "صفر انبعاثات" هو الأداة الفعالة لمواجهة تغير المناخ، وهو ما يتطلب اتخاذ العديد من الإجراءات بدءاً من الحلول المعتمدة على الطبيعة مثل التشجير، وصولاً إلى الحلول التقنية المصممة لامتصاص ثاني أوكسيد الكربون، مثل نشر آلات التقاط الكربون من الهواء مباشرةً وتخزينه. وتشير التقارير، إلى أن هناك حاجة إلى 2,500 محطة كبيرة لالتقاط 3.57 مليارات طن من ثاني أوكسيد الكربون من الهواء بحلول عام 2040.

وفي إطار التحولات العالمية نحو النمو المستدام، وضعت المملكة العربية السعودية خطتها للتحول من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد أخضر قائم على الابتكار والاستدامة، وحددت هدفاً طموحاً يتمثل في تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060. وتظهر الأبحاث أن الوصول إلى صافي انبعاثات صفري يتطلب نشر تدابير لإزالة 371 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً من الغلاف الجوي لتعويض انبعاثات غازات الدفيئة الإجمالية في عام 2060. لكن هذا الالتزام يتجاوز أنه مجرد تعهد بيئي؛ بل يمثّل مخططاً استراتيجياً لتعزيز متانة اقتصاد المملكة، وتحقيق التنوع، وضمان النمو الطويل الأمد في عالم يتجه بسرعة نحو الاستدامة.

والمقصود بالتحول الأخضر للاقتصاد، هو عملية إعادة توجيه الأنشطة الاقتصادية لتكون أكثر استدامة وصداقة مع البيئة، من خلال تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والحد من انبعاثات الكربون، وتحفيز الابتكار في مجالات الطاقة المتجددة، والنقل النظيف، وإدارة الموارد على نحو فعّال، وذلك بهدف تحقيق نمو اقتصادي متوازن يحافظ على البيئة، ويوفر فرص عمل جديدة. 

ويتطلب هذا التحول سياسات حكومية داعمة، واستثمارات كبيرة في البنية التحتية المستدامة، وتعاوناً دولياً لمعالجة التحديات البيئية العالمية، وعلى رأسها تغيّر المناخ.

الحياد الصفري: ضرورة بيئية أم فرصة اقتصادية؟

لطالما اعتمد الاقتصاد السعودي على العائدات النفطية، ما جعله أحد أقوى الاقتصادات العالمية، لكنه في الوقت نفسه عرضة لتقلبات الأسواق العالمية للطاقة. وإدراكاً لهذه المخاطر، تتبنى المملكة نموذج الاقتصاد الدائري للكربون (circular carbon economy) أو اختصاراً (CCE)، الذي يركز على تقليل الانبعاثات وإعادة استخدامها وإعادة تدويرها وإزالتها، بدلاً من التخلص التام من الوقود الأحفوري.

تشير دراسة حديثة أجراها محمود اليوسف وآخرون (2025) باستخدام نموذج ليونتيف ثنائي المراحل (two-stage Leontief input-output model)، إلى أن هذا التحول لا يمثّل فقط ضرورة بيئية، بل يُعد خياراً اقتصادياً مستداماً. فمن المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي السعودي بمعدل 2% سنوياً بحلول عام 2060، مع توفير أكثر من 23 مليون وظيفة جديدة، مدفوعة بالاستثمارات في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الخضراء والبنية التحتية المستدامة. إضافة إلى ذلك، فإن هذا التحول يفتح الباب أمام أسواق مالية جديدة، مثل السندات الخضراء، التي قد تشكّل 30% من السوق المالية السعودية، ما يمثّل فرصة استثمارية بقيمة 39 مليار دولار بحلول عام 2060.

استراتيجية الاستثمار والتمويل: سد الفجوة الخضراء

يتطلب تحقيق الحياد الصفري استثمارات ضخمة، وهو ما دفع صندوق الاستثمارات العامة في المملكة إلى اتخاذ السعودية خطوة تحولية نحو الاستدامة من خلال تخصيص 5.2 مليارات دولار للسندات والصكوك الخضراء، وتثير هذه الخطوة تساؤلاً منطقياً: لماذا تستثمر السعودية في أدوات مالية مثل السندات الخضراء؟

تؤدي السندات الخضراء دوراً حيوياً في الاقتصاد الحديث، إذ لا تُعد مجرد أداة مالية تهدف إلى تحقيق العوائد، بل وسيلة لتمويل المشاريع المستدامة، وإعادة التدوير، وتحسين كفاءة استخدام الموارد.

كما أنها تجذب شريحة واسعة من المستثمرين، وتوفر فرصاً لتنويع المحافظ الاستثمارية، إذ سجلت المملكة طلبات بـ 7.25 مليارات يورو على أول طرح لسندات خضراء مقومة باليورو في الشرق الأوسط، ومن المرجح أن تُستثمر العوائد في تمويل مشروعات مستدامة، مثل زراعة 10 مليارات شجرة وحماية 30% من الأراضي في المملكة.

وتشير التقديرات في دراسة أجراها اليوسف وآخرون (2025) إلى أن السندات الخضراء ستشكّل 15% من إجمالي السوق المالية السعودية بحلول عام 2030، وهو ما يعادل استثمارات بقيمة 14 مليار دولار، على أن تتضاعف بحلول عام 2060. ومع ذلك، يبقى التحدي الأبرز هو ضمان الشفافية والمساءلة في الاستثمارات الخضراء، إذ يمكن لظاهرة "الغسل الأخضر" القائمة على الخداع والتعتيم والتضليل، أن تقوّض ثقة المستثمرين بمصداقية تقارير الاستدامة وجودة المعلومات التي تجمعها الشركات وتقدمها حول الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG)، إذ يحرص أصحاب المصلحة على ضمان أن الشركات تعطي الاستدامة الدرجة الكافية من الاهتمام وذلك لضمان الشفافية والدقة.

التحول الاقتصادي: خريطة طريق نحو التنويع

لا يتمثل التحول السعودي في مجرد استبدال عائدات النفط، بل في بناء اقتصاد أكثر تنوعاً قائم على المعرفة. ومن بين القطاعات الواعدة التي ستقود هذا التحول:

  • الطاقة المتجددة: تشهد الاستثمارات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح توسعاً سريعاً. ويُعد مشروع نيوم نموذجاً مبتكراً حيث يتضمن منظومة طاقة بنحو 4 غيغا واط قائمة على الهيدروجين الأخضر، ما يضع المملكة في مقدمة الدول المصدّرة للطاقة النظيفة.
  • التكنولوجيا الخضراء: تشمل الابتكارات في احتجاز الكربون، وحلول كفاءة الطاقة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، والتخطيط الحضري المستدام، ما يسهم في خلق وظائف ذات قيمة مضافة عالية.
  • الزراعة المستدامة وإدارة المياه: نظراً لمحدودية الموارد المائية في المملكة، تمثل تحلية المياه، والزراعة الرأسية، والإنتاج الغذائي القائم على كفاءة الموارد، أولوية استراتيجية.

تتماشى هذه الجهود مع التحولات الاقتصادية العالمية نحو النمو المستدام، وتعكس تجارب الدول التي نجحت في تنويع اقتصاداتها بعيداً عن الاعتماد على الموارد الطبيعية، ومنها كندا والنرويج، إذ يستثمر صندوق الثروة السيادي النرويجي في قطاعات متجددة مثل التكنولوجيا والطاقة النظيفة حول العالم، لضمان مستقبل بعيداً عن النفط للأجيال المقبلة، وتقدم الحكومة دعماً قوياً للسيارات الكهربائية يتمثل في الإعفاء من الضرائب والشحن المجاني، وتُعد الطاقة الكهرومائية المصدر الرئيسي للطاقة في النرويج، إذ تشكّل نحو 90% من إمدادات الكهرباء.

أما كندا، فقد سعت لتنويع الاقتصاد ودعم الابتكار الأخضر عبر فرض نظام تعويضات كربونية لتشجيع الشركات على استخدام الطاقة النظيفة، وتموّل الحكومة مشاريع الهيدروجين الأخضر، وتقنيات احتجاز الكربون، وتدعم رواد الأعمال في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية.

التوصيات والسياسات الداعمة للتحول الأخضر

على الرغم من السياسات والإجراءات التي اتخذتها المملكة في إطار التحول الأخضر، فإن بعض المجالات تتطلب مزيداً من التحسين، مثل تحسين التشريعات، وتعزيز التكامل التكنولوجي، وزيادة القدرة على التكيف في الثقافات التنظيمية.

ولضمان نجاح هذا التحول، لا بد من تعزيز الأطر السياسية والاقتصادية عبر عدة محاور رئيسية:

  1. تعزيز التمويل الأخضر: من خلال وضع لوائح واضحة وحوافز مشجعة للسندات الخضراء، لجذب المستثمرين المحليين والدوليين.
  2. الشراكات بين القطاعين العام والخاص: يسهم التعاون الحكومي مع القطاع الخاص في تسريع التحول الأخضر، خاصة في البنية التحتية والتكنولوجيا.
  3. تطوير القوى العاملة: عبر تقديم برامج تدريبية في الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والصناعات الخضراء، لتلبية متطلبات سوق العمل الجديدة.
  4. تعزيز كفاءة الطاقة والاقتصاد الدائري: عبر الاستثمار في الشبكات الذكية، وكفاءة الاستهلاك الصناعي، وتقنيات احتجاز الكربون، لتعزيز الاستدامة مع الحفاظ على القدرة التنافسية.
  5. التعاون الإقليمي والعالمي: من خلال شراكات مع دول مجلس التعاون الخليجي وأوروبا وآسيا، ما يساعد المملكة على الاندماج في سلاسل التوريد العالمية للطاقة الخضراء.

مستقبل الاقتصاد السعودي: نحو الريادة العالمية

يمثّل تحول المملكة إلى اقتصاد منخفض الكربون تحدياً وفرصة في آنٍ واحد. وسيكون العقد المقبل حاسماً في تحديد مدى نجاح المملكة في تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والمسؤولية البيئية، إذ أثبتت التجارب العالمية أن تنويع مصادر الدخل، وتشجيع الطاقة النظيفة، وتوجيه الأموال الذكية للاستثمار في المستقبل، هي مفاتيح المواءمة بين الاقتصاد والبيئة.

المحتوى محمي