
إن اتّباع قادة القطاع الاجتماعي لنَهج الأثر الجماعي في حل المشكلات، جعل سؤالاً مهماً يدور في أذهان العديد من الأشخاص: فبالنظر إلى مدى تعقيد العمل وتقلُّبه؛ ما هي أفضل طريقة لتقييم الأثر الجماعي، والتقدم الذي تُحرِزه مبادَرات الأثر الجماعي، والنجاح الذي حقَّقته؟
جرت العادة أن تركِّز تقييمات مبادَرات محدَّدة على النتائج التي يحصلون عليها، لمعرفة فيما إذا أفلحت مساعيهم أم لا، والعوامِل التي أدّت إلى نجاحها؛ لكن مبادرات الأثر الجماعي تتضمَّن أنشطةً وبرامج ومبادَرات متعدِّدةً تكون جميعها مكمِّلة لبعضها، إضافةً إلى ذلك؛ هي تهدف إلى تغيير أنظمة شديدة التعقيد، ونتيجةً لذلك؛ إن مجرّد أخذ فكرة عن فعالية مبادَرة معيّنة خلال فترة محدَّدة، لا يدلّ على فعالية هذه المبادَرة بالمجمَل، لذا لتقييم فعاليتها حقاً؛ لا بُدّ لقادة الأثر الجماعي من رؤية الصورة الأشمل؛ والتي تتضمّن العديد من عناصِر المبادَرة المختلِفة، وسبل تفاعلها وتطوُّرها مع مرور الوقت، لذلك هم بحاجة إلى إيجاد طريقة جديدة لتناول التقييم؛ حيث نعتقد أن تقييم الأثر الجماعي بشكل فعال يتطلّب الممارَسات التالية:
الممارَسة الأولى: أن يقيّم شركاء مبادَرات الأثر الجماعي تقدُّم عملية صنع التغيير برمّتها والأثر الذي تحدثه؛ بدلاً من محاولة عزل تأثيرات مبادَرة منفردة ووقْعها، وتشمل هذه العملية الظروف المحيطة بالمبادَرة، وجودة هيكلية المبادَرة وسير عملياتها وفعاليتهما، والطرائق التي تتغير بها الأنظمة التي تؤثّر على القضية المستهدَفة، ومدى التقدُّم الذي أحرزته المبادَرة نحو تحقيق أهدافها النهائية، ولا شكّ أن التركيز النسبي لتقييم الأثر الجماعي سيتحول مع توسُّع مبادَرة الأثر الجماعي، على سبيل المثال؛ قد يقيّم التقييم الأولي قوّة المبادَرة بحدّ ذاتها، وقد يركز التقييم الذي يليه على تأثير المبادَرة على الأنظمة المستهدَفة.
الممارَسة الثانية: بدلاً من الاستعانة بقياس الأداء وتقييمه لتحديد النجاح أو الفشل؛ يجب على شركاء مبادَرات الأثر الجماعي، الاستفادة من المعلومات التي يوفّرها لهم تقييم الأثر الجماعي في اتخاذ القرارات حول أقلَمة مبادراتهم مع المستجدات وتحسينها، ولتحقيق ذلك؛ لا بُدّ لشركاء مبادَرات الأثر الجماعي من دمج تقييم الأثر الجماعي والتعلُّم في الحمض النووي لمبادَرتهم؛ بدلاً من التعامل معهما على أنهما تمرين سنوي (أو ربع سنوي).
إن تبنّي هذا النَهج الشامِل القابِل للتكيُّف لتقييم الأثر الجماعي يتطلّب من القادة القيام بثلاث أمور بطريقة مختلِفة؛ والتي سنوضحها في الأقسام التالية؛ عليهم «دراسة المبادَرة» و«تقصّي الأسباب» و«إكثار السؤال».
اقرأ أيضاً: التأثير الجمعي: حوار حول المشاركة المجتمعية
دراسة المبادَرة
في البداية ينبغي على شركاء الأثر الجماعي تقييم تقدُّم عملية صنع التغيير وفعاليتها بالمجمَل؛ ويتطلَّب القيام بذلك دراسة المستويات الأربع للمبادَرة؛ وهي: الظروف المحيطة بالمبادَرة، والمبادَرة بحدّ ذاتها، والأنظمة التي تستهدفها المبادَرة، والنتائج النهائية للمبادرة.
الظروف المحيطة بالمبادَرة: تشير الظروف إلى كل ما يؤثِّر على تصميم المبادَرة وتنفيذها وفعاليتها؛ بما في ذلك الظروف الاقتصادية، والتركيبة السكانية، والتركيز الإعلامي، والإرادة السياسية، وتوافر التمويل، والقيادة، والثقافة، وغيرها من العوامل. إن التغيرات في الظروف حتمية، وتكون غالباً عنصراً حاسماً في دعم نجاح المبادَرة أو إعاقته، وفي مثال على ذلك؛ بمجرَّد بدء مشروع خارِطة الطريق في ولاية واشنطن في التبلور في عام 2012؛ علم قادته أنه يمكنهم التقدُّم بطلب للمشارَكة في «السباق إلى القمة» لنيل جائزة المنطقة الفدرالية، فنظَّموا أنفسهم بنجاح وفازوا بجائزة 40 مليون دولار، فأدّى تدفُّق الدعم المالي إلى تعزيز إمكانيات المبادَرة بشكل كبير، وتسريع تنفيذ استراتيجياتها ذات الأولوية.
لإدراك كيف يمكن أن تؤثِّر تغيُّرات الظروف المحيطة على نتائج المبادَرة؛ تأمّل المثال التالي عن تقييم الأثر الجماعي النهائي لـحملة «جعل سكاّن مدينة سومرفيل أكثر رشاقةً» (Shape Up Somerville)؛ حيث ركّزت مبادَرة الأثر الجماعي هذه -التي مقرُّها في ولاية ماساتشوستس- على الحدّ من معدلات البدانة على مستوى المدينة، وأدرجت تحليلاً لتركيبتها السكانية المتغيَّرة، وكما لاحظ قادتها: «من المتوقَّع أن ترتفع معدَّلات البدانة كلّما زاد التنوع العرقي في المجتمع؛ كما هو الحال في سومرفيل»، فلولا أخذ تغيرّات التركيبة السكانية المحلية في الاعتبار؛ لما تمكّنت الجهات المتعاوِنة مع المبادَرة من فهم فعالية مساعيها بالكامِل.
المبادَرة بحدّ ذاتها: بالنسبة لأية مبادَرة تتّبع نهج الأثر الجماعي، فإن تغيير الطريقة التي تتفاعل بها المؤسَّسات والأفراد مع بعضهم، والنَهج الذي يتّبعونه لحل المشاكل المعقَّدة يُعَدّ هدفاً جوهرياً، ولو كان مُضمَراً في معظم من الأحيان؛ تكمن القوة الحقيقية لنهج الأثر الجماعي في طريقة عمله؛ وهي القدرَة على توحيد مجموعات متنوِّعة لتحقيق هدف مشترَك، وتشجيع المناقَشات المفتوحة والتواصُل الدائم، ودعم تنسيق الأنشطة والتوفيق بينها، والتشجيع على التعلُّم والتطوير المستمِر، على سبيل المثال؛ وجد تقييم الأثر الجماعي الذي أجرته مبادَرة «مجتمَعات نابضة بالحياة» (Vibrant Communities)؛ وهي مبادَرة لمكافحة الفقر على مستوى دولة كندا بأسرها، أن «الطبيعة متعدَّدة القطاعات لهذه المبادَرة تساهم في دفع الحكومة على متابَعة تغيير «السياسة»، لأن هذه المقترَحات دُرست مدى ملاءمتها من قِبل أصحاب المصالح المختلفة في المجتمَع».
وعلى نحو مماثِل؛ تعزو مبادَرة «جعل سكاّن مدينة سومرفيل أكثر رشاقةً» جزءاً كبيراً من نجاحها إلى «أساليبها المتَّبعة حسب كل مستوى، للتشجيع على الحياة النشيطة والغذاء الصحي»؛ حيث جعلت المبادَرة المدارس العامة، وقادة حكومة المدينة، والباحِثين الأكاديميين، والمؤسَّسات المدنية، والمجموعات المجتمعية، والأعمال التجارية -متضمِّنةً المطاعم-، والمشرِفين على اتّباع نَهج متكامِل لحل المشاكل، شركاءَ لها؛ مما سهَّل حدوث التغيير على مستوى الأنظمة، وبالتالي؛ نجحت المبادرَة في خفض معدَّلات بدانة الأطفال في جميع أنحاء مدينة سومرفيل.
يتطلّب تقييم مدى تقدُّم عملية صنع التغيير في لأثر الجماعي وفعاليتها بمجملها، تركيزاً شديداً على تصميم المبادَرة وتنفيذها، فعلى الرغم من احتمالية تشكيك قادة الأثر الجماعي في قيمة عملية التقييم؛ نحثُّهم على منح الاهتمام إلى جودة مبادَرتهم بحد ذاتها وقوتها؛ وخاصةً في سنواتها الأولى؛ حيث تُتَّخذ القرارات الحاسِمة والبالغة الأهمية خلال هذه المرحلة، والتعلُّم فيها لا غنى عنه.
الأنظمة التي تستهدفها المبادَرة: تطمح معظم مبادَرات الأثر الجماعي إلى تحقيق أهداف ضخمة، فهي لا تسعى إلى معالجة المشاكل المعقَّدة فحسب؛ بل تحاول أيضاً إحداث التغيير على نطاق واسع؛ وإن تحقيق هذه الدرجة من التأثير الذي يستمر مع مرور الزمن، يفرض على مبادَرات الأثر الجماعي إجراء تغييرات جوهرية في الأنظمة؛ من خلال التأثير على المعايير الثقافية والسياسات العامة وتدفُّقات التمويل، بالإضافة إلى الأنماط السلوكية؛ بما في ذلك التغييرات في الممارَسة المهنية أو التغييرات في السلوك الفردي. تهيّئ التغييرات على مستوى الأنظمة، الظروف التي تتيح لمبادَرات الأثر الجماعي تحقيق أهدافها النهائية، على سبيل المثال؛ تعزو مبادَرة «جعل سكاّن مدينة سومرفيل أكثر رشاقةً»، جزءاً من نجاحها إلى مجموعة من التغييرات التي أجرتها على مستوى الأنظمة؛ والتي شملت زيادة تمويل أنشطة مكافحة البدانة، وتقديم عروض على قوائم الطعام الصحية في المدارس العامة، وأكثر من 40 مطعماً محلياً، وإنشاء طرق جديدة للدراجات الهوائية، وإجراء تحسينات لمَرافق الحديقة العامة، وتحسين معايير التغذية في المدارس وغيرها من المؤسَّسات العامة، وتحسينات في تجهيزات التربية البدنية وأماكنها وأنشطتها في المدارس وبرامج ما بعد المدرسة.
النتائج النهائية للمبادَرة: أثناء توسُّع المبادَرة؛ ينبغي على شركاء الأثر الجماعي مراقَبة أهدافهم النهائية بيقظة، فمن الطبيعي أن تُحرز المبادَرات تقدُّماً بطيئاً أو ضئيلاً نحو تحقيق أهدافها في سنواتها الأولى؛ ولكن يجب أن يتوقَّع شركاء الأثر الجماعي تحقيق تغيير ملموس وقابِل للقياس بعد مرور ثلاث إلى أربع سنوات؛ عليهم أن يتتبّعوا هذا التقدُّم مع مرور الزمن بواسطة نظام القياس المشترَك للمبادَرة، والتقييمات الأكثر فعاليةً.
اقرأ أيضاً: الشروط الخمس لتحقيق الأثر الجماعي على الصحة والرفاه
تقصَّ الأسباب
ينبغي على شركاء الأثر الجماعي الاستفادة من النتائج التي يحصلون عليها من أنشطتهم التقييمية، في اتخاذ قرارات ذكية حول أقلَمة المبادَرة وتحسينها، ولاتخاذ مثل هذه القرارات؛ يجب على المموَّلين استكمال أنشطة قياس الأداء -التي تركِّز على تحديد ما يحدث حينها- بأنواع أخرى من التقييم التي تهدف إلى فهم كيفية حدوث التغيير وسبب حدوثه.
يمكن لشركاء الأثر الجماعي توظيف ثلاث نُهُج مختلِفة لتقييم الأثر الجماعي لكل مرحلة من مراحل عمر المبادَرة: التقييم التنموي، والتقييم البنيوي، والتقييم التحصيلي. هذه النُهُج في التقييم ليست متعارِضة؛ حيث يمكن لشركاء الأثر الجماعي -بل ويتوجَّب عليهم- اتّباع مجموعة من النُهُج مع مرور الوقت، فمثلاً؛ استخدمت حملة «المجتمعات النابضة بالحياة» في كندا التقييم التنموي، لتقصّي التغييرات في الظروف المحيطة بالمبادَرة وآثارها المحتمَلة، واستخدمت في الوقت نفسه التقييم البنيوي لصقل مساعيها الحالية، وفي وقت لاحق؛ استخدمت المبادَرة تقييماً تحصيلياً لاستعراض فعاليتها وتأثيرها العام.
أكثِر السؤال
في سياق الأثر الجماعي؛ إن الغاية من قياس الأداء وتقييمه هو دعم التعلُّم، والهدف منه هو إتاحة التحسين المستمر؛ نقترح أن يتّبع شركاء الأثر الجماعي هذه الخطوات للحصول على تقييم الأثر الجماعي بشكل فعّال:
ابدأ مبكِّراً: حتى قبل أن يبدأ العمل بنظام قياس مشترَك للمبادَرة؛ حيث يمكن لشركاء الأثر الجماعي مراقبة مجموعة من مؤشِّرات الأداء المبكِّرة التي تركِّز على جودة تصميم المبادَرة وتنفيذها، كما يمكنهم أيضاً استخدام عناصر التقييم التنموي لإتاحة رؤية عميقة لفعالية المساعي المبكِّرة للمبادَرة، على سبيل المثال؛ تستخدم مبادَرة «الحدّ من وفيات الرُضَّع» في المناطِق الريفية في مدينة ميسوري التقييم التنموي، لتعزيز فهم كيفية تأثير العوامل الظرفية والديناميات الثقافية على تطوير الاستراتيجية؛ حيث يعمل الشركاء مع فريق من المدرِّبين في تقييم الأثر الجماعي لطرح أسئلة مثل: «ما هي وجهة نظر مختلَف أصحاب المصلحة في منطقتنا في مشكلة وفيات الرُضَّع، وما هي الآثار المترتِّبة على تصميم مبادرة الأثر الجماعي الخاصة بنا؟».
دمج التعلُّم في الحمض النووي للمبادَرة: لجعل التعلُّم عمليةً منتظَمةً وفعّالةً ومُطبقَّةً؛ لا بُدّ لشركاء الأثر الجماعي من إنشاء هيكليات وإجرائيات تعلُّم واضحة، على سبيل المثال؛ يمكنهم إتاحة المجال لجلسات التفكُّر الجماعي في بداية الاجتماعات، أو إجراء استقصاء دوريّ للمشارِكين لتحديد القضايا الملِحَّة، وإن هذه الإجرائيات تشجِّع الشركاء على تبادُل المعلومات والأفكار والأسئلة؛ وبالتالي لها أهمية حاسِمة في التطوير المستمر للمبادرة.
تخصيص الموارد بشكل ملائم: لأن التعلُّم أساسي لنجاح نهج الأثر الجماعي، فإن الاستثمار المستمر في قياس الأداء وتقييمه أمر بالغ الأهمية، فبالنسبة للعديد من مبادَرات الأثر الجماعي؛ يتطلّب القياس المتواصِل تخصيص موظَّف يعمل بدوام جزئي أو بدوام كامل، لتنظيم الدروس المستفادَة والإشراف عليها وإدراجها وتطبيقها على المبادَرة، أما بالنسبة للآخرين؛ هذا يعني البحث عن دعم خارجي متمثِّل بمدرِّب أو جهات تقدُّم المساعدة التقنية أو مُقيِّم محترِف؛ من المرجَّح أن تعتمد معظم مبادَرات الأثر الجماعي على مزيج من موارِد التقييم الداخلية والخارجية بمراحل مختلفة؛ أياً كان ما يؤلِّف فريق التقييم، فإننا نحثّ شركاء الأثر الجماعي على التخطيط بعناية للموارد المالية والموظَّفين الذين سيحتاجونهم لدعم نَهج قوي لقياس الأداء وتقييمه، ففي النهاية؛ وكما جاء في تقرير صادِر عن المانحين للمؤسَّسات الفعّالة؛ «عندما نَعدّ التقييم وسيلةً للتعلُّم بغاية التطوير، … تبدو الاستثمارات في التقييم مجديةً لأنها يمكن أن توفِّر المعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات أذكى وأسرع عما يُجدي بالفعل».
تقييم الأثر الجماعي
يقتضي تقييم الأثر الجماعي الفعّال أن يكون مرناً وقابلاً للتكيُّف ومتعدِّد الجوانب؛ ولكن لا يُشترَط أن يكون شاملاً أو مكلفاً للغاية، وتتنوَّع أشكال وضخامة المساعي للتقييم؛ حيث يعتمد نطاق وحجم أيّ تقييم فردي على الوقت والإمكانيات والموارد المتاحة، وإضافةً إلى ذلك؛ إن تركيز التقييم؛ بما في ذلك الأسئلة والنتائج والمؤشِّرات، سوف يتغير مع توسُّع المبادَرة، لذا ستكون مبادرات الأثر الجماعي الأكثر فعاليةً هي تلك التي تدمج التعلُّم والتقييم بسلاسة في عملها منذ البداية، لتسمح لتلك العمليات بالتطوِّر بالتزامن مع تطوّرها، وتستعملها كدليل يرشدها في المستقبل.
اقرأ أيضاً: مبادرات الأثر الجماعي: كيف ننسق بينها؟
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.