يمكن للخبراء المتألقين كتابة أوراق سياسات مقنعة ومليئة بالأفكار الخلاقة للارتقاء بمجتمعنا، لكن لن يؤثروا في أي جدل دائر ويحددوا مساره إذا لم يقرأ أحد أعمالهم ويستوعبها. وفهم هذا الأمر جون بوديستا ومؤسسو مركز التقدم الأميركي، سي أيه بي (Center for American Progress CAP)، عندما بدؤوا إنشاء نوع جديد من مراكز التفكير، كانوا يعلمون أنك كي تكون مؤثراً، يجب أن تتبنى عقلية استشرافية في أسلوبك في التوعية وأن تعمل بطرق استراتيجية على اختيار من تحاول التأثير فيه. يستدعي ذلك أن تستثمر المؤسسات في التواصل، وهذا ما فعله مركز التقدم الأميركي. بصفتنا مؤسسة تعليمية غير حزبية، يشكل التواصل جزءاً من ثقافتنا ونكرّس ما يقارب نصف ميزانيتنا التشغيلية لأعمال التواصل والتوعية. هل هذا مبتكر؟ نعم. كما أنه من الضروري الحرص على أن يستمع الناس إلى الأفكار التي نطورها وندعمها، وأن تؤثر هذه الأفكار فيهم وتنتقل بينهم؛ يبدأ إحداث التغيير من الذهاب إلى الناس حيث يكونون.
ولهذا السبب بالتحديد كان مركز التقدم الأميركي من أوائل المتبنين لوسائل التواصل الاجتماعية والرائدين فيها في عالم السياسة، وكان موقعنا القائم على المدونات، ثينك بروغرس (Think Progress)، أحد المواقع السياسية التي سجلت أكبر عدد من الزيارات على الإنترنت، ولكن عندما أطلقناه في عام 2005 كان فكرة جريئة وغير مجربة. كانت قنوات المركز على فيسبوك ويوتيوب وتويتر مفعلة مسبقاً، وتقود الحوارات تقريباً قبل أي جهة أخرى في واشنطن، إذ كنا نعلم أن الجماهير الناقدة كانت تجمع الأفكار والمعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي وتشاركها. مكنتنا التكنولوجيا الجديدة من دخول مساحات حوار جديدة، كما مكنتنا البيانات، ومنها أدوات البريد الإلكتروني الجديدة المتقدمة والأدوات التحليلية على مواقعنا الاجتماعية، من نشر أفكارنا.
اقرأ أيضاً: استراتيجية الاتصالات: دليلك المختصر لتحقيق تغيير اجتماعي فعلي
قادنا ذلك إلى إنشاء منصة قوية للتوعية والفعاليات؛ نعلم أن المعلومات تنتشر (وتثبت) عندما يجتمع الناس وجهاً لوجه، ولكننا مجدداً نشعر بأننا ملزمون بكسر هذا القالب؛ فنحن كما نحب أن نقول، لسنا مركز تفكير تقليدياً. بالإضافة إلى إعداد حلقات الحوار والخطابات، استحدثنا برنامج بكرة التطوير (Reel Progress) لعرض الأفلام بهدف جذب الناس إلى مشاهدة الأفلام الروائية والوثائقية المؤثرة وذات العقلية التقدمية، هذا يعكس إدراكنا لوجود أكثر من طريقة للوصول إلى الجمهور، فمثلاً في بعض الأحيان، يكون السبيل لتوضيح وجهة نظر سياسية حول الهجرة هو عرض فيلم عن الحالمين (Dreamers)، وهم الأفراد الذين يستوفون شروط قانون التنمية والإغاثة والتعليم للأجانب القصر، أو المشاركة في حوار حول السياسة وقوة الثقافة في مهرجان سندانس السينمائي (Sundance Film Festival).
ولكن الأفكار هي الأهم في نهاية المطاف. فمثلاً في أواخر عام 2005، ازداد النقاش حول حرب العراق تعقيداً بسبب الخوف والارتباك بشأن أمن الولايات المتحدة، وكان من الصعب على المجتمع التقدمي بالذات التعبير عن ارتيابه أو معارضته المطلقة للحرب في مثل هذا المناخ السياسي المشحون. احتاج من لم يعارضوا الحرب بالكامل إلى طريقة لانتقادها، مع احترام مشاعر الأمن القومي ومخاوفه في الوقت ذاته. وفي هذه الظروف أصدر مركز التقدم الأميركي مخطط إعادة التوزع الاستراتيجي لإنهاء الحرب في العراق، ولم تكن هذه خطة رائعة فحسب، بل مكنت التقدميين من تحويل الحوار من جدل متطرف (إما الانسحاب الفوري أو مواصلة السير في الطريق ذاته) إلى البحث عن طرق سحب القوات بطريقة منطقية ومرنة. كان هذا التحول في أسلوب الخطاب في غاية الضرورة والحساسية حينها، إذ خلقت الخطة مساحة أتاحت لواضعي السياسات والمؤثرين التعبير عن آرائهم حول الحرب دون الحياد عن منظور الأمن القومي الدقيق، وبدأنا نرى تحولاً في الحوار الوطني حول مشاركة الولايات المتحدة في العراق. لم يحدث هذا بين ليلة وضحاها، كما لم يحدث لأننا أصدرنا بياناً صحفياً فقط، فقد طور فريقنا مساعي استراتيجية للتواصل والتوعية ونفذها لعرض خطتنا أمام أكبر عدد ممكن من الناس، بدءاً من المراسلين وقادة الكونغرس وصولاً إلى الناشطين التقدميين.
بعد عقد تقريباً في عام 2013، خضنا معركة صعبة أخرى، وهذه المرة كانت حول الميزانية الفيدرالية، إذ سيطر موضوع التقشف المالي على الحوارات السياسية والمالية لأشهر في العاصمة واشنطن. أدت تلك السياسة السيئة مصحوبة بتعطيل الحكومة الفيدرالية إلى تعزيز رواية عن عجز الحكومة زادت الوضع سوءاً، وفي تلك اللحظة الحرجة أصدر مركز التقدم الأميركي تقريراً بعنوان "حان وقت بدء الحوار المالي من جديد" ولاقى صدىً واسعاً، إذ استعرضنا فيه سلسلة من مبادرات التواصل الاستراتيجي مثل التوعية الإعلامية الرفيعة المستوى والحملة المنسقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان تأثيره على واضعي السياسات يمثل تحولاً عن أسلوب السرد الذي يركز على التقشف، والذي يدل أن الظروف الاقتصادية تغيرت لكن عملية وضع الميزانية والحوارات حولها لم تتغير. وكما هو الحال مع إعادة التوزع الاستراتيجي، لم يحدث التحول في الحوار صدفة بل تطلب صياغة استراتيجية تواصل وتوعية مدروسة وتنفيذها للتأثير في الحوار.
أولى مركز التقدم الأميركي على مدى أكثر من 11 عاماً الكثير من الاهتمام والتفكير في أفكار السياسة التي يبتكرها، والطريقة التي يدرج بها هذه الأفكار في مجرى السياسة والسياسات. تبنى فريقنا الأول مفهوم التواصل واستثمر فيه، ويرى كل فرد في مركز التقدم الأميركي أن التواصل جزء من عملهم، وأعتقد أن هذا ما يميزنا عن العديد من أقراننا، وهو أيضاً ما يجذب إلينا بعضاً من ألمع العقول في مجال صنع السياسة. وإذا نظرت إلى أنجح المؤسسات مهما كانت مهمتها ستجد أن استراتيجية التواصل القوية والمتكاملة تشكّل دائماً جزءاً مهماً من عملها.
اقرأ أيضاً: صياغة استراتيجية الاتصالات: مزيد من الأسئلة
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.