تصمد أبرز المشكلات العالمية الملحة أمام الإجراءات التدخلية التي تعتمد على الهيكليات القيادية التنازلية، بدءاً من شبح التغيّر المناخي وصولاً إلى مشكلة الفقر المتجذرة، ويدرك الناس بصورة متزايدة أن ذلك يقتضي العمل التعاوني. لكن المبادرات التعاونية لا تُنفّذ من تلقاء نفسها، فهي تتطلب قادة من نوع خاص؛ قادة الأنظمة. في مقالة "فجر قيادة الأنظمة" التي احتلت صدارة غلاف إصدار شتاء عام 2015 من مجلة ستانفورد للابتكار الاجتماعي، سلّط المؤلفون بيتر سينغيي وهال هاميلتون وجون كانيا الضوء على نوع جديد من القادة، وناقشوا فكرة أن قادة النظام لا يدفعون عجلة التغيير بصورة فردية، بل يتيحون مشاركة مجموعة كبيرة من الأشخاص في القيادة الجماعية.
لاستكمال المقالة. نقدّم لكم عنصرين يوضّحان عمل قادة الأنظمة في مجالات محدّدة من القضايا لتحفيز التغيير الاجتماعي، ونشاركهما مع الامتنان للمؤلفين المشاركين في كتابة هذه المقالة.
كانت شبكة مختبر الغذاء المستدام (Sustainable Food Lab) من أمثلة قيادة الأنظمة التي ذكرها سينغيي وهاميلتون وكانيا في مقالتهم، وهي شبكة تجمع أشخاصاً من بعض أضخم الشركات الغذائية ومن مجموعة واسعة من المؤسسات غير الحكومية. هاميلتون هو مدير شبكة مختبر الغذاء والمؤسس المشارك لأكاديمية التغيير المنهجي، ويقدّم في هذه المقالة الفرعية نظرة أولية على دور الرحلات التعلّمية والتخطيط للأنظمة وغيرها من الممارسات في ظهور قادة أنظمة من العملية التي تبنتها شبكة مختبر الغذاء.
اقرأ أيضاً: فوائد الاستكشاف الذاتي لقادة التغيير الاجتماعي
قادة الأنظمة في شبكة الغذاء المستدام
هال هاملتون
في المقالة التي ألفتها أنا وبيتر سينغي و جون كانيا، "فجر قيادة الأنظمة" التي نشرت في إصدار شتاء عام 2014 من مجلة ستانفورد للابتكار الاجتماعي، وصفنا قادة الأنظمة بأنهم أشخاص يحفزون القيادة الجماعية. افتتحنا المقالة بوصف الطريقة التي دعا بها نيلسون مانديلا أصحاب البشرة البيضاء من جنوب إفريقيا للانضمام إلى أصحاب البشرة السمراء وتخطي الحدود نحو مستقبل مشترك.
كانت إسهاماتي في هذه المقالة مستمدّة من تجربتي في المساعدة على تأسيس شبكة مختبر الغذاء المستدام ثم قيادتها، وهي مؤسسة مرجعية لشبكة من شركات الأغذية والمؤسسات غير الحكومية، وأبحث في هذه المقالة الأهمية التي اكتسبها تعزيز قيادة الأنظمة في عملنا بالصناعات الغذائية. ساعد بيتر سينغي في تقديم المشورة لمختبر الغذاء منذ بداية تأسيسه، وكنا دائماً نطبّق نهجه المتعلق بإمكانيات التغيير المنهجي القائم على 3 ركائز: الاطلاع على النظام، والمحادثة التأملية، والمشاركة في صنع المستقبل. وبإضافة النظرية يو (Theory U) التي طوّرها أوتو شارمر (Otto Scharmer)، اختبرنا بنية تنظيمية للتغيير المنهجي قائمة على عدد من أصحاب المصلحة، تعرف باسم "مختبرات التغيير".
في عام 2004، عملت مجموعة مكوّنة من 30 قائداً من الشركات والمؤسسات غير الحكومية وجهات حكومية من 3 قارات على تأسيس مختبر الغذاء لتسريع الاستدامة في النظام الغذائي السائد. لم يقبل كل من دعوناهم في البداية الانضمام إلى مختبر الغذاء؛ أخبرني نائب الرئيس الأول في إحدى الشركات الغذائية أن الاستدامة ليست ضمن مجال اهتمامهم، لكن على مدى السنوات العشر التي تلتها أصبحت الاستدامة هي المفهوم السائد. تلتزم جميع شركات المواد الغذائية تقريباً اليوم بالحدّ من الأثر البيئي السلبي لمصانعها وأعمالها، وقدّم معظمها التزامات تصل إلى سلاسل توريدها.
طبيعة نظام الأغذية المعقّدة والتنازلات التي يجب على شركات الأغذية تقديمها للحدّ من تأثيرها على البيئة مرهقة؛ فشركات الأغذية تحتاج إلى السمعة الحسنة لأن الجزء الأكبر من قيمة الشركة يكمن في علاماتها التجارية ولذا يجب أن يرتبط اسمها بجهود تنظيف المجاري المائية وتحسين حياة صغار المزارعين، كما تحتاج إلى إمدادات موثوقة من المكوّنات التي تتطلب مياهاً وفيرة وتربة صحية، وتحتاج إلى موافقة المؤسسات غير الحكومية العالمية مثل أوكسفام والصندوق العالمي للحياة البرية، وقد تعلمت الاستفادة من الخبرات التقنية التي يتمتع بها الموظفون الميدانيون في هذه المجموعات، ويجب أن تتعاون مع المنافسين لوضع معايير وأدوات قياس مشتركة. لتحقيق كل ذلك تحتاج شركات الأغذية والمؤسسات غير الحكومية إلى قادة الأنظمة.
اقرأ أيضاً: الاستكشاف الذاتي لتعزيز فعالية قادة التغيير الاجتماعي
بناء قادة الأنظمة
أول خطوة لتصبح قائد نظام هي تنمية قدرتك على رؤية النظام من منظور الآخرين. جرّب أحد مؤسسي مختبر الغذاء، لاري بوليام، ذلك في رحلة تعليمية في المختبر في عام 2004. كانت مجموعته تضم عدداً من مدراء الشركات وقادة من الحكومة والمؤسسات غير الحكومية والشركات الصغيرة. زارت المجموعة في رحلتها التعليمية المزارع الصغيرة والكبيرة، وتحدث أعضاؤها إلى منظّمي العمل ومدراء المصانع وروّاد الأعمال ومراقبي الأنظمة. تفاجأ بوليام في البداية بحقيقة أن "الجميع يسمعون إلى الحديث نفسه، لكن كل شخص يسمع تفاصيل مختلفة فيه، وأنا أكتسب معارف كبيرة من خلال التعلّم مع أعضاء المجموعة الآخرين".
بوليام جمهوري محافظ من مدينة هيوستن، وكان قبل تقاعده أحد كبار المسؤولين التنفيذيين الذين يديرون شركة بقيمة 40 مليار دولار. عندما طلب منه رئيسه التنفيذي تمثيل شركة سيسكو في تأسيس مختبر الغذاء بدأ يجتمع مع ناشطين بيئيين ومنظّمين مجتمعيين لأول مرة. ذات مرة التفت نحوي وقال: هال، لا أظن أني أعجب هؤلاء الأشخاص كثيراً"، ولاحقاً بعد تنقّلنا في مختلف أنحاء الريف البرازيلي وزيارة المزارع والمصانع، وبعد مشاركة تجربة البحث عن الرؤية في جبال أريزونا، ساعد بوليام في بدء تحالف رائد مع منظمة أوكسفام لدعم صغار المزارعين في غواتيمالا. طلبت منه ذات مرة أن يفتتح اجتماعاً مع قادة شركات آخرين، وإليكم ما قاله لهم:
"ليس من المعتاد أن يجتمع المنافسون الشرسون معاً ويتعاونوا لتحقيق المصلحة العليا، وهذا ما نفعله، فجوهر عملنا في مختبر الغذاء المستدام يكمن في قدرتنا على تحقيق 100 بل ألف ضعف عما يمكن لكل منا فعله بمفرده. نحن نفعل ما يجب فعله وما يفيد العالم ويفيد شركاتنا أيضاً. تتمتع مشاركة شركة سيسكو بميزة تنافسية، لكن لا يمكننا أن نحققها بالكامل من دون التعاون مع الآخرين في هذه المجموعة لتعميم مبادئ الاستدامة".
الرحلات التعليمية
إحدى أكثر الوسائل فعالية لتنمية القدرة على رؤية الأنظمة كما يجب، هي المشاركة في الرحلات التعليمية كالتي انضم إليها بوليام في البرازيل، فهي أكثر بكثير من مجرد جولات ميدانية، وتتطلّب المحادثات التأمّلية التي تدور فيها حضور مجموعة متنوعة من المشاركين. ولهذا السبب يعمل مختبر الغذاء جاهداً في جمع الأشخاص الذين يملكون مجموعة متنوعة من الخبرات ووجهات النظر حول أنظمة الغذاء والزراعة. في بداية كل يوم، نجمع أعضاء المجموعة ليجلسوا بصمت ويدونوا افتراضاتهم على دفتر يومياتهم حول الزيارات التي سيقومون بها في ذاك اليوم وما يثير فضولهم وما يرغبون في تحقيقه. ثم يجلسون بصمت مرة أخرى بعد كل زيارة ميدانية ويفكرون في الأمور التي فاجأتهم أو ألهمتهم، ثم يشارك كل منهم أفكاره مع المجموعة واحداً تلو الآخر دون تعليق أو نقاش. تحفّز هذه المشاركة المحادثات التأملية التي تحتدم في بعض الأحيان، ولكنها تبقى دائماً ضمن سياق الثقة المتبادلة والاستكشاف المشترك. خذ مثلاً تعليقاً من شخص بدأ حديثه بوجهة نظر ناشطة بحتة:
"أحد الأمور التي تثير اهتمامي في هذه العملية برمّتها هي أننا نمّينا القدرة على التساؤل فيما بيننا، وطرح أسئلة صعبة والشعور بالأمان للإجابة والاعتراف بعدم معرفة شيء عما يحدث. أتعهد لمختبر الغذاء بأن ألتزم باستمرار محاولة الإجابة عن الأسئلة معكم جميعاً، ولذلك أود أن يستمر المختبر بتوفير مساحة آمنة للتعلّم".
عقد مختبر الغذاء مؤتمره السنوي للقيادة في كوستاريكا في عام 2008 بعد انطلاق مجموعة تضم 10 أشخاص في رحلة تعليمية في هندوراس. شارك في هذه الرحلة مسؤولون تنفيذيون من عدة شركات غذائية كبرى، مثل يونيلفر (Unilever) وسيسكو، وانضموا إلى المسؤولين عن المزارعين والمؤسسات غير الحكومية المحلية وموظّفي منظمة أوكسفام في بريطانيا العظمى الذين يعملون في أميركا الوسطى. زارت هذه المجموعة المتنوّعة صغار المزارعين والجمعيات التعاونية والمؤسسات غير الحكومية التي كانت مهمّتها القضاء على الفقر.
في بداية الرحلة كانت وجهات نظر المشاركين متباينة تماماً، وما فتئ موظّفو الشركات الغذائية يكررون أنهم بحاجة إلى الجودة والكمية الكافيتين، وأن "هؤلاء المزارعين الصغار والجمعيات التعاونية ينتجون الحد الأدنى، ولا يتبعون أي معايير للجودة أو الأمان، لذا فهم يعملون في عالم منفصل تماماً عن عالم التجارة". من الطبيعي أن تتّخذ منظمة أوكسفام والمؤسسات غير الحكومية المحلية موقفاً مناقضاً، إذ قالت مثلا إن "سبب فقر صغار المزارعين هو الاقتصاد العالمي غير المتكافئ الذي يمنح الأفضلية للأغنياء ويستغل الفقراء، يتحمل هذه الشركات على عاتقها التزاماً أخلاقياً بتقديم المساعدة".
عند نهاية الرحلة التعليمية، تقاربت وجهات نظر أعضاء المجموعة بدرجة كبيرة، وكتبوا تقريراً مشتركاً لمشاركته مع سائر مؤتمر قيادة مختبر الغذاء في غواتيمالا. حققت المجموعة 3 إنجازات رئيسية من رحلتها التعليمية:
- فهم مشترك للنظام الذي يشارك أعضاء المجموعة فيه.
- التزام مشترك بتحسين حياة الفقراء.
- عدة أفكار أولية حول ما يمكن أن تسهم به كل مؤسسة لتحقيق الالتزام المشترك.
منذ تلك الرحلة التعليمية. كان موظّفو منظمة أوكسفام في بريطانيا العظمى بأميركا الوسطى يختبرون العمل مع الشركات التجارية، فتعهّدت شركة يونيليفر بتحسين حياة 500 ألف من صغار المزارعين حول العالم، كما تشاركت شركة سيسكو مع أوكسفام في غواتيمالا، وأدخلت شركة التوريد التي تتعامل معها، سوبيرير فودز (Superior Foods). نتيجة لذلك تعلّمت مئات أسر المزارعين الصغار في مرتفعات غواتيمالا على مدى السنوات الأربع الماضية زراعة البروكلي وتزويد كل من الأسواق المحلية ومصانع التجميد في أسواق أميركا الشمالية بالمنتجات.
عندما تنشأ قيادة النظام في عمل المشروع التعاوني كما في هذه الحالة، يمكن أن تحقق تغييراً جذرياً. لكن في بعض الأحيان لا تسير الأمور كما يجب، إذ نفشل حين لا نتمكن من دفع الأطراف الفاعلة الرئيسية إلى إفساح المجال للثقة والإبداع. قبل بضعة أعوام مثلاً، دعتنا إحدى المؤسسات غير الحكومية الكبرى العاملة في مجال صيد الأسماك لتنسيق مبادرة للأثر الجمعي، وكان أكبر تحدّ واجهناه هو أن هذه المؤسسة لديها وجهة نظر راسخة مسبقة بشأن الاستراتيجية اللازمة لاستعادة الموارد السمكية التي أرهقها الصيد الجائر. دعونا مجموعة متنوعة من المشاركين الذين صاغوا مجموعة إبداعية من المشاريع التعاونية، لكن المبادرة تعثرت لأننا عجزنا عن تنمية الثقة الكافية بين المشاركين أصحاب الاستراتيجيات التنظيمية المتباينة، فبعض المشاركين المهمّين أصحاب الاستراتيجيات المختلفة لاستعادة الموارد السمكية لم يشعروا بأنهم مرحب بهم في الاجتماعات، ومع غياب هذه الثقة تعثرت المجموعة مرة تلو الأخرى.
الإخفاقات مخزية، لكنها أيضاً فرص رائعة للتمعن في الشروط الأساسية لتحقيق النجاح، يمكن بناء قادة الأنظمة عبر 3 بواباس أساسية؛ إعادة توجيه الاهتمام، وإعادة توجيه الاستراتيجية، والممارسة ثم الممارسة ثم الممارسة. فيما يلي أمثلة على أهمية كل من هذه البوابات.
اقرأ أيضاً: هل تعترض المؤسسات غير الربحية طريق التغيير الاجتماعي؟
إعادة توجيه الاهتمام
إن البوابة الأولى التي يجب على قادة الأنظمة عبورها هي فهم دورهم في النظام بأكمله، وأن يكونوا قادرين على الانفصال عن هذا الدور ورؤية العالم من منظور الآخرين ووفقاً لمصالحهم. عندما أتحدث مع الأشخاص الذين يحتمل أن ينضموا إلى مبادرة ما، أبحث عن المصالح المتداخلة بينهم. مثلاً. عندما أجريت رفقة آدم كاهين مقابلات لأول مرة مع أعضاء محتملين من فريق مؤسسي مختبر الغذاء، تحدثنا إلى مزارعين ومدراء أعمال وقادة مؤسسات غير حكومية وأفراد من الهيئات الحكومية من 3 قارات، وكان أهم سؤال طرحناه هو: "ما الهدف الوحيد الذي تحاول تحقيقه والذي يفوق إمكانياتك مع شركائك ومواردك الحاليين؟" تقودنا خلاصة الإجابات عن هذا السؤال إلى مساحة إبداع خصبة يمكن أن تنشأ منها شراكات جديدة، ومع تنامي هذه الشراكات الجديدة يدرك الجميع أن أدوارهم في مؤسساتهم المنفصلة صيغت بطرائق لا تسهم دائماً في التوصل إلى حلول إبداعية، فمع التمعن والمشاركة والتأمّل والمساحة الآمنة، تظهر احتمالات لم تكن قائمة من قبل.
في مثالنا عن منظّمة أوكسفام وشركتَي سيسكو ويونيليفر، كان الناشطون في منظّمة أوكسفام يلقون اللوم دائماً على الشركات الجشعة، لكن عندما لاحظوا أن رجال الأعمال عبّروا أيضاً عن اهتمامهم بحياة صغار المزارعين تغيرت آراؤهم وأدركوا أنه يمكنهم العمل مع شركاء من قطاع الأعمال. وعلى نحو مماثل، اكتشف المسؤولون التنفيذيون في شركة سيسكو طرائق جديدة لتنفيذ الأعمال التجارية تعود بالفائدة على صغار المزارعين والمصنّعين على حد سواء.
يساعد التعاون على هذا النحو المؤسسات غير الحكومية ورجال الأعمال أيضاً على اكتشاف أمر أساسي أهم من هذه المهام والاستراتيجيات الموسّعة؛ القدرات الشخصية التي يجب عليهم تنميتها. يتطلب وضع هدف مشترك بين مسؤول تنفيذي في شركة بمدينة هيوستن وقائد مزرعة تعاونية في غواتيمالا القدرة على استشعار كل منهما احتياجات الشخص الآخر وقيمه. تختلف حياة كل منهما اختلافاً جذرياً عن حياة الآخر، ومع ذلك يجب أن يفهم كل منهما ما يكفي عن الآخر كي يتمكنا من عقد أي اتفاق. يلاحظ قادة الأنظمة حواجز الاختلافات الثقافية التي تصيغ وجهات نظرهم ووجهات نظر الآخرين عن العالم، ولذلك يعملون جاهدين لرؤية ما وراء هذه الحواجز وإدراك أدوارهم في بنائها، فيتحول اهتمامهم من تغيير الأنظمة الخارجية إلى تغيير قيمهم وتصوراتهم الداخلية.
استراتيجية إعادة التوجيه
يمكن أن يؤدي تغيير اتجاه اهتمام الفرد ووجهة نظره إلى تغيير استراتيجية مؤسسته، وللتشجيع على ذلك يعمل فريق مختبر الغذاء بجدّ لإنشاء مساحات آمنة تتيح لأعضاء المجموعة للقضاء على التحديات في منشئها. عندما سئلت المديرة الإدارية في شركة تارغت، ليزا بويد، عما ستشاركه مع زملائها بعد رحلة تعليمية في شمال غرب البيرو الذي يعاني شح المياه قالت: "أظن أنني سأخبرهم أن كل فرضية كنت أفكر فيها عندما أتيت إلى هنا انقلبت رأساً على عقب". يحتمل أن يكون الشك شرطاً أساسياً للتعلّم، فهو يؤدي إلى الانفتاح بدرجة أكبر على شراكات مع مؤسسات وأشخاص غير متوقعين.
يشعر العديد من شركات الأغذية والمشروبات الكبرى بالقلق بشأن استمرارية الحصول على إمدادات من المكونات الزراعية في مختلف الظروف، وخاصة أن المياه تزداد ندرة في أجزاء كثيرة من العالم. مثلاً، تركّز هذه الشركات أولاً على بناء مستوى كفاءة أعلى في المصانع وعملية التعلّم لتخفيض استخدام المياه بدرجة كبيرة واعتماد إعادة التدوير، وتتطلّع لاحقاً إلى تعزيز التغييرات في الإنتاج الزراعي من خلال العمل مع المزارعين مباشرة لاستخدام الري بالتنقيط مثلاً لتخفيض بصمتهم المائية.
على الرغم من أهمية هذه الاستراتيجيات للحدّ من مخاطر جفاف المياه، فهي غالباً غير كافية. فمثلاً توفر مصانع المشروبات حوافز لمزارعي الشعير تدفعهم إلى اتباع أفضل الوسائل لتقليل استخدام المياه، لكن إذا تجاوزت نسبة استهلاك المياه نسبة توافره في منطقة زراعة الشعير فستبقى زراعة الشعير مهدّدة.
لتجاوز مخاطر جفاف المياه. لا بدّ من التعاون بين جميع الأطراف الرئيسة مع مستخدمي المياه في الأراضي، إذ لا يمكن لأي طرف تنفيذ حلول مجدية بمفرده. لكن التعاون يؤدي إلى الفوضى ويحتاج إلى التنظيم والتنسيق بمهارة، لذا يساعد مختبر الغذاء في تنظيم تعاون عالمي حول قضية المياه مع عدد من كبرى شركات الأغذية والمشروبات. يشارك الفريق التعاوني بيانات حول أماكن زراعة السلع الأساسية ويحدد المناطق التي تواجه مخاطر جفاف المياه منها للعثور على الأماكن التي يمكن لهذه الشركات العمل معاً فيها، واستقطاب الدعم من المؤسسات غير الحكومية مثل منظّمة الحفاظ على الطبيعة (Nature Conservancy).
رحلة العمل الجماعي ليست يسيرة، إذ يجب على مسؤولين المشتريات في كل شركة مشاركة البيانات التي يعدّونها سرية وتنافسية. وتتنافس المؤسسات غير الحكومية أحياناً على أرض الواقع على استقطاب الشركاء والتمويل، وتواجه الهيئات الحكومية صعوبة في التفكير خارج حدود المهام الموكلة إليها. يتطلب تنظيم مساحة آمنة يمكن للأطراف المتعاونة من خلالها تعلّم إعادة توجيه استراتيجياتها استخدام كافة أدوات قيادة الأنظمة.
الممارَسة ثم الممارَسة ثم الممارَسة
كلما زاد تطبيق المشاركين لأدوات مثل الرحلات التعلمية والتخطيط للأنظمة، زادت مهارتهم فيها. قد يبدو ذلك بديهياً لكن الكثيرين يفشلون في تخصيص الوقت لها.
على سبيل المثال. يوجد أسلوب صحيح وآخر خاطئ لتعليم طرائق وضع مخططات النظام واستخدامها؛ رأيتُ فرقاً يعرض عليها مخطط نظام أنشئ مسبقاً فتشوشت أبصار الحاضرين وهم يحاولون متابعة الخطوط والأسهم، كما كنت جزءاً من فرق شارك جميع أفرادها في وضع مخطط النظام ورأيتُ تدفق أفكارهم عندما بدأوا يلمسون التآزر بين مختلف المؤسسات في النظام نفسه.
لمساعدة الناس على تنمية قدراتهم في قيادة الأنظمة، أعقد مع زميلي كل شهر اجتماعات لثلاث مجموعات مختلفة لتدريب الأقران؛ إحداها تضم أفراداً من مؤسسات غير حكومية، والأخريان تضمان مسؤولين عن الاستدامة من شركات الأغذية أو المشروبات. نبدأ كل مكالمة بلحظات صمت عام قصيرة، ثم يشارك أحد الأفراد تحدياً مهنياً، وبعد أن يشارك مقدّم الحالة التحدي الذي يواجه، يتمعن الآخرون فيه ويشاركون ردود فعلهم. نترك النصائح لنهاية المكالمات، ونمحّص في المحادثات لنحقق أكبر قدر ممكن من الإدراك الذاتي، ويتعلم كل شخص رؤية الأمور من منظور الآخرين. ذكاؤهم وهم مجتمعون أكبر منه وهم متفرقون، وبمرور الأشهر يمارسون المحادثة التأملية، ويطّلعون على النظام، ويتصوّرون بصورة جماعية الخطوات التالية المحتملة.
ينظّم مختبر الغذاء قبل أي اجتماع سنوي الرحلات التعليمية، وأحياناً تجرى 5 أو 6 رحلات في الوقت ذاته، ونقسّم المشاركين بحيث تضم كل مجموعة صغيرة مشاركين من رجال الأعمال وغير رجال الأعمال، وننسّق المحادثات بدقة. يسعى بعض قادة الفكر في العالم جاهدين لعدم تفويت هذه الفرص السنوية على الإطلاق، كي يتعرفوا على الأفكار الجديدة وينموا علاقات أعمق مع أشخاص من المؤسسات والقطاعات الأخرى.
كما أن هذه التجارب معدية نوعاً ما، فقد انتشرت الشراكات بين الشركات والمؤسسات غير الحكومية في الأنظمة الغذائية حين اكتشفت مؤسسات مثل وكالة خدمات الإغاثة الكاثوليكية (Catholic Relief Services)، أنها تستطيع تنفيذ مهمتها على نحو أفضل من خلال المشاريع التعاونية مع الشركات التي تستمد مواردها من البلدان النامية. وقد تعلّم العديد من قادة الشركات كيف ينظرون النظام، وبنوا في بعض الأحيان خبرات أكبر من خبرات خبراء المؤسسات غير الحكومية الذين كانوا يتعلمون منهم.
إلا أن الرحلة المقبلة تستدعي مزيداً من قادة الأنظمة، مع توسّع مجال العمل ليشمل أقسام المشتريات بأكملها ضمن الشركات ومكاتب المؤسسات غير الحكومية على مستوى الدول، وواضعي السياسات في وزارات الزراعة، وقادة البرامج التعاونية من المزارعين في جميع أنحاء العالم. نحن بحاجة إلى تنمية قدرة عدد أكبر بكثير من قادة الأنظمة على العمل التعاوني استناداً إلى التواصل الفعّال والإدراك الواضح للهدف.
نسأل أحياناً في مختبر الغذاء عن مقاييسنا للنجاح وما أنجزناه على أرض الواقع؟ بصفتنا مؤسسة مرجعية نسهم في تقديم الدعم في تصميم المشاريع التي تعمل على تحسين معيشة ملايين الناس وإدارتها وتحسين النتائج البيئية لملايين الهكتارات. لا يمكننا الاستئثار بالفضل في هذه النتائج من دون المؤسسات التي نعمل معها، ولكن يمكننا القول إننا ساعدنا في بناء مئات من قادة الأنظمة في عشرات المؤسسات يبتكرون أساليب جديدة للعمل التعاوني ووسائل جديدة لممارسة الأعمال.
يوضح مثال آخر عن قيادة الأنظمة ذكره سينغيي وهاميلتون وكانيا في مقالتهم مبادرة في مدينة دالاس تهدف إلى تحسين ظروف الأطفال المصابين بالربو. اجتمع المشاركون من عدة مجالات معاً في مرحلة محورية من المبادرة لتحديد العوامل التي تحدد نتائج مرضى الربو والتي تتضمن التدخلات السريرية والهيكليات الأسرية والمجتمعية، كما أنشأ المشاركون رسماً بيانياً يوضّح ارتباط هذه العوامل فيما بينها.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.