النساء العاملات في القطاع غير الرسمي: فرص مهدرة وموارد غير مستغلة

تمكين المرأة في سوق العمل
shutterstock.com/Gorodenkoff
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

رغم الجهود المبذولة من أجل تمكين المرأة في سوق العمل وتقليل الفجوة بينها وبين والرجل، فإن الأرقام على أرض الواقع لا تعكس تغييراً كبيراً. إذ تتنبأ مانويلا تومي، مديرة إدارة ظروف العمل والمساواة في منظمة “العمل الدولية”، بأن تحقيق المساواة المنشودة سيستغرق أكثر من 200 عام إذا سار التغيير بهذه الوتيرة المتباطئة. ولا نقصد بالحديث عن تمكين المرأة في سوق العمل هنا توليها مناصب سياسية كأن تصبح مثلاً رئيسة دولة، أو زيادة عدد الوزيرات، أو زيادة تمثيلها في المجالس التشريعية. فعلى الرغم من أهمية تمثيل النساء السياسي، فإن التمكين هنا هو تسهيل وصول النساء إلى الوظائف مناسبة، مع نيل حقوقهن العادلة في المقابل فيما يتعلق بالأجور والحماية والدعم والتدريب وغيره.

تعاني المنطقة العربية أكثر من غيرها فيما يتعلق بالحديث عن تمكين المرأة في سوق العمل، إذ بلغ معدل مشاركة المرأة العربية في سوق العمل 18.4%، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 48%. وفي المقابل يزداد عملهن غير المأجور في المنزل لنحو 5 مرات عما يقوم به الرجل من أعمال الرعاية غير المأجورة.

القطاع غير الرسمي.. الملجأ غير الآمن للنساء للعاملات

ولكن حتى هذه النسبة القليلة تعاني الكثير من الحقوق المهدرة في سوق العمل خاصة في قطاع العمل غير الرسمي، الذي تزداد مشاركة النساء فيه أكثر من العمل الرسمي لعدة أسباب مثل عدم وجود بدائل، وانخفاض مستويات التعليم، ونقص المهارات لدى السيدات، إلى جانب توفير بعض المرونة في العمل من المنزل، وعدم تطلب هذه الوظائف للتفرغ الذي لا تستطيع المرأة توفيره بسبب أعباء رعاية الأطفال وكبار السن التي تقع على عاتقها على نحو غير متكافئ. إذ إن 58% من النساء العاملات يعملن في وظائف غير رسمية، وترتفع هذه النسبة إلى 75% في بلدان أميركا اللاتينية، و89% من بلدان جنوب آسيا، وتصل إلى أكثر من 90% في بلدان إفريقيا وفقاً لمنظمة “العمل الدولية”.

تقبل النساء العمل في الأعمال غير الرسمية، سواء موظفات أو صاحبات مشروعات صغيرة، مضطرات إلى قبول ظروف عمل غير مناسبة أو آمنة لهن، إذ يعملن مقابل أجور منخفضة، متخليات عن حماية قوانين العمل، وأي مزايا اجتماعية مثل التأمين الصحي أو إجازات مرضية مدفوعة الأجر، أو حتى المعاش التقاعدي الذي يؤثر على المرأة على المدى الطويل. لذا تجد النساء المسنات يعشن الآن مستوى أقل مما يستحقنه. فحتى في دول تنعم باقتصادات متقدمة مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، تحصل المرأة على ​​معاش أقل بنسبة 30% من معاش الرجل.

جائحة “كوفيد-19”.. مصباح يسلط مزيداً من الضوء على معاناة النساء العاملات

وجهت جائحة “كوفيد-19” ضربة قوية لاقتصادات العالم بأكمله، خاصة الاقتصاد غير الرسمي، فوفقاً لدراسة أجرتها منظمة “العمل الدولية” (ILO)، انخفض دخل العاملين في الاقتصاد غير الرسمي بمقدار 60% خلال الشهر الأول من الجائحة. لكن النساء العاملات في الاقتصاد غير الرسمي كنّ الأكثر تضرراً بسبب جائحة كورونا. ففي أميركا اللاتينية مثلاً، احتمال أن تفقد النساء وظائفهن في الأشهر الأولى للجائحة كان أكثر من الرجال بنسبة 50%. وفي الاقتصادات التي تشهد أشد إجراءات الإغلاق صرامةً لمواجهة الجائحة، زادت احتمالية إغلاق الشركات المملوكة للنساء بـ 10% عن احتمال إغلاق تلك المملوكة للرجال، خاصة أن الأعمال المملوكة للنساء صغيرة الحجم؛ إما ملكية فردية أو مشروع متناهي الصغر يعمل به أقل من 5 موظفين.

ووفقاً لتقرير منظمة “العمل الدولية” بعنوان “كوفيد-19 وعالم العمل“، فإن تأثير الجائحة على النساء بشكل أكبر يعود إلى عملهن في القطاعات الأكثر تضرراً كالسكن والغذاء والمبيعات والتصنيع، التي يعمل بها 510 ملايين امرأة، أو 40% من العاملات على مستوى العالم.

دعم المرأة في القطاع غير الرسمي = زيادة الناتج المحلي للدولة

حماية النساء في القطاع غير الرسمي لن يؤثر على أوضاعهن الاقتصادية فقط، إنما سيؤدي أيضاً إلى تحقيق التنمية المجتمعية، وذلك بحسب دراسة أجرتها الباحثة رضوى سامي، في “الجامعة الأميركية” بالقاهرة بعنوان “النساء في قطاع الأعمال الصغيرة غير الرسمي: التحديات والحلول“، التي تركز على التحديات التي تواجهها النساء العاملات في القطاع غير الرسمي في مصر، من غياب للاستدامة والأمن وقوانين العمل والضمان الاجتماعي، إلى جانب الأجور المنخفضة، واضطرار النساء إلى القبول بها خاصة في ظل عدم وجود بدائل رسمية من ناحية، وحقيقة أن ما يقرب من 34% من الأسر المصرية تعتمد على المرأة في نفقاتها المعيشية اليومية وتصل النسبة إلى 88% من الأسر في الأحياء الفقيرة من ناحية أخرى. 

وتقدم الدراسة، التي صدرت في عام 2018، توصيات تمت تجربتها في بلدان مثل الهند وأميركا اللاتنية وبعض البلدان الإفريقية تضفي الطابع الرسمي على الوظائف غير الرسمية، ما يمنح العاملات في هذه الوظائف مكتسبات تساعدهن على زيادة الإنتاجية والشعور بالرضا. 

وتضيف الباحثة أن خسارة المجتمع بسبب عدم المساواة في الدخل بين الجنسين تبلغ ما يقرب من 160 تريليون دولار. لذا، من الاستراتيجيات الفعالة لزيادة الناتج المحلي لبلد ما هي محاولة سد الفجوة بين الجنسين في قطاعات العمل. فعلى سبيل المثال، تشير دراسة إلى أن زيادة مشاركة النساء في القوة العاملة تؤدي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي في الإمارات العربية المتحدة 12%، وفي مصر 34%، وفي الولايات المتحدة 5%. كما أوضح “البنك الدولي” أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في النيجر يمكن أن يرتفع بنسبة 25% في حالة سد الفجوة بين الجنسين.

عقبات في الطريق

إذن، لا يؤثر تمكين المرأة في سوق العمل وإتاحة مساحة أكبر لها في سوق الأعمال والمشروعات الصغيرة والاقتصاد غير الرسمي بشكلٍ عام على رفاهتها ورفاهة أسرتها فقط، وإنما سيمتد للمجتمع بأكمله. ورغم أن الحلول متاحة، فإن عقبات في طريق النساء تحول دون حصولهن على حقوقهن يجب أن تكون نصب أعيننا حينما نفكر في حلول فعالة. وفيما يلي أبرز هذه العقبات:

استمرار التمييز

رغم الجهود التي تتبناها منظمات كثيرة حلول العالم، لا يزال هناك تمييز على أساس الجنس في نوعية الوظائف والدخل والأحقية والترقيات وفرص التدريب. فلم تشهد الفجوات بين الجنسين في ميدان العمل أي تحسن ملحوظ منذ 20 عاماً، وفقاً لمنظمة “العمل الدولية”. وبحسب مؤشر الفجوة بين الجنسين السنوي لعام 2021، الذي يرصد التفاوت بين الجنسين في 156 بلداً في أربعة ميادين هي التعليم، والصحة، والفرص الاقتصادية والتمكين السياسي، تبين أن الفجوة الأكبر موجودة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتبلغ نسبتها 40%. ويرصد التقرير تقدماً بطيئاً على صعيد تحقيق المساواة في المنطقة، متنبئاً أن سدّ هذه الفجوة سيستغرق نحو 142 عاماً.

تتضح هذه الفجوة بشكل أكبر في الاقتصاد غير الرسمي الذي يفتقر إلى أشكال الأمان الوظيفي، ولكن بسبب عدم تطلبه للتفرغ، تلجأ إليه النساء اللواتي تقع على عاتقهن مسؤولية رعاية المنزل والأطفال بشكل غير متكافئ الذي يشكل هو الآخر حاجزاً غير مرئي (أو ما يطلق عليه السقف الزجاجي) يعيق تحقيقهن التقدم ويرجعهن خطوات إلى الوراء في الطريق ذاته الخالي من هذا الحاجز بالنسبة لغالبية الرجال.

نقص الثقة بالنساء فيما يتعلق بالأموال

تؤكد الباحثة رضوى سامي في دراستها أن الرجال يدعمون الرجال، ويتعاملون معهم فيما يتعلق بالإقراض وسداد الأموال، مقارنة بضعف الثقة في قدرة المرأة على البقاء في الوظيفة وسداد الأموال. وهذا يزيد من محدودية وصول النساء إلى الموارد وحقوق الملكية ومن قدرتهن على بدء نشاط تجاري أو تنميته. فإذا أرادت سيدة بدء مشروعها الصغير أو تنميته بقرض من البنك، فغالباً سيطلب الأخير منها ضمانات مثل أرض أو منزل مملوك لها، وفي العديد من الثقافات، تستبعد النساء من امتلاك الأراضي والمنازل. فلا عجب أن 80% من الشركات المملوكة للنساء ذات الاحتياجات الائتمانية غير ملباة. ويمكننا هنا الاستعانة بتصريح أكين أديسينا، رئيس بنك “التنمية الإفريقي”: “تقتل القيود المجتمعية الكثير من أحلام النساء، فيما تتحطم الأحلام تماماً أمام البنك. فمن دون ضمانات ومن دون الوصول إلى الأراضي أو الموارد المالية الأخرى، يعتبر البنك نهاية الطريق للعديد من رائدات الأعمال”.

عدم توفير عوامل التأهيل لسوق العمل

يلجأ الكثير من النساء إلى الاقتصاد غير الرسمي والوظائف غير المستقرة بسبب عدم تطلبها الكثير من مهارات سوق العمل. إذ يعزي مؤشر الفجوة بين الجنسين تناقص دور المرأة في سوق العمل عالمياً إلى أن معظم الوظائف صارت مؤتمتة وتحتاج إلى مهارات تقنية، وهو ما يفتقر إليه الكثير من النساء اللواتي يشكلن 26% فقط من وظائف الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، و12% من الوظائف المرتبطة بالحوسبة السحابية.

وأثبتت عدة أبحاث واستطلاعات للرأي أنه عندما يتعلق الأمر بتدريب الموظفين، فإن النساء والرجال الذين يعملون في المكان نفسه لا يتعرضون لهذه الفرص بالطريقة نفسها. فوفقاً لاستطلاع رأي لشركة “ديزاير تو ليرن” (D2L) المتخصصة في البرمجيات، أجرته على 1,000 موظف في المكاتب الأميركية، فإن النساء كنّ أقل وعياً بفرص التدريب والمشاركة بها، إذ أفاد 16% من النساء أنهن لا يتمتعن بإمكانية الوصول إلى هذه الدورات من الأساس مقابل 4% فقط من الرجال أفادوا الشيء نفسه.

الحلول متاحة

حينما نتحدث عن الحلول هنا، لا نقصد حلولاً فقط لتقليل الفجوة بين الجنسين في معدلات المشاركة في قوة العمل، على الرغم من أنها لا تزال شاغلاً رئيسياً في العديد من البلدان، لكن التركيز على نوعية الوظائف المتاحة أمام النساء، خاصة اللواتي يضطررن إلى قبول وظائف غير مستقرة أو آمنة أو حتى منتجة، بسبب القيود المجتمعية والتنظيمية. وفيما يلي بعض الحلول الممكن تطبيقها بسهولة من أجل تمكين المرأة في سوق العمل بالشكل الذي سيعود بالرفاهية عليها وعلى أسرتها، ومن ثم مجتمعها.

دعم القطاع غير الرسمي: يرتكز العديد من اقتصادات العالم على الاقتصاد غير الرسمي أو ما يطلق عليه الاقتصاد الرمادي، لذا يمكننا تطويره ليصبح آمناً للنساء عن طريق إضفاء الطابع الرسمي له. وهناك تجارب عديدة وملهمة ومن ضمنها برنامج “الحد الأدنى لأجور القطاع غير الرسمي” في الهند لضمان العمالة الريفية الذي يضمن ما لا يقل عن 100 يوم من العمل المأجور لكل أسرة ريفية يتطوع أفرادها للقيام بأعمال يدوية غير ماهرة بحد أدنى مضمون للأجور لكل من الرجال والنساء. وإذا لم يتم توفير العمل في غضون 15 يوماً من تقديم الطلب، فيحق للمتقدمين الحصول على بدل بطالة، ما يضمن الاستحقاق القانوني. عزز هذا البرنامج الأمن المعيشي في المناطق الريفية، وقلل الهجرة من الريف إلى الحضر، وأسهم في تمكين المرأة، وسد فجوة الأجور بين الجنسين في المناطق الريفية.

تسهيل الحصول على التمويل: تقف محدودية الحصول على الائتمان عقبة في طريق النساء لبدء أعمالهن أو استمرارها. في نيجيريا على سبيل المثال، عقدت مؤسسة “التمويل الدولية” (IFC) شراكة مع بنك “أكسيس” لتسهيل وصول التمويل إلى موزعي الشركات الصغيرة والمتوسطة في شركة تعبئة “كوكاكولا” بنيجيريا، وكان معظمهم من الشركات الصغيرة والمتوسطة المملوكة للنساء التي تجد صعوبة في الحصول على التمويل بالفعل، فقد كان هدف المشروع في المقام الأول تمكين الشركات الموزعة والموردة المملوكة للنساء من التمويل بشكل أسهل.

هناك استراتيجية أخرى بعيداً عن المؤسسات الدولية، وهي خاصة بتغيير طريقة تفكير المؤسسات المالية والمصرفية تجاه إقراض النساء. ففي مقال عبر موقع “المنتدى الاقتصادي العالمي” بعنوان:لتحسين وصول المرأة إلى التمويل توقفوا عن طلب الضمانات“، تبين المستشارة كارولين كيندي روب أن البنوك الاستثمارية بحاجة إلى النظر إلى المرأة كاستثمار عالي القيمة، خاصة أن الدلائل تشير إلى أن النساء مدخرات أفضل من الرجال، ومقترضات أكثر مسؤولية، ويحسبن المخاطرات بدرجةٍ أكبر. وحينما نمنح النساء فرصاً أفضل للحصول على التمويل، فإننا نوفر 330 مليار دولار من الإيرادات العالمية السنوية، وفقاً لبحث حديث أجراه بنك “نيويورك ميلون” (New York Mellon).

إتاحة الفرصة لتلقي التعليم والتدريب: تشير الدراسات إلى أن حوالي 91% من النساء العاملات في الاقتصاد غير الرسمي أميات، أو أنهن أكملن تعليمهن الابتدائي فقط. رغم أن التعليم يساعد في تحسين الدخل، إذ تميل الأجور إلى الزيادة بنسبة 10% لكل سنة إضافية من المدرسة الابتدائية، و15-25% لكل سنة إضافية من المدرسة الثانوية، و17% للتعليم العالي. لذلك، تقل احتمالية مشاركة النساء اللائي أكملن التعليم الثانوي والعالي في أعمال ذات أجور متدنية أو حماية منخفضة وفقاً لمنظمة “العمل الدولية”.

على الجانب الآخر، تحتاج النساء إلى تلقي التدريب المهني للمساعدة في رفع قدراتهن ومهاراتهن، مما يسمح لهن بالعثور على عمل لائق والتفاوض على أجور أفضل ومميزات مناسبة، أو يقلل من احتمالية عمل بعضهن في الاقتصاد غير الرسمي، لكن هذا يتوقف أيضاً على توافر وجودة الوظائف المتاحة في سوق العمل.

الاستفادة من الحلول الجديدة لمعالجة رعاية الأطفال: أبرز الأسباب التي تدفع النساء إلى قبول أعمال غير مناسبة وغير آمنة وبأجور متدنية هي أنها لا تتطلب التفرغ أو تمنحها بعض المرونة للقيام بأعمال الرعاية المنزلية، لذا يمكن أن يكون إتاحة رعاية للأطفال ميسورة التكلفة إجراءً حيوياً. إذ تظهر الأبحاث أن الأمهات أكثر عرضة للمشاركة في قوة العمل الرسمية إذا كانت هناك طريقة مجانية أو رخيصة لرعاية الطفل.

 نُشر هذا المقال استناداً إلى بحثٍ مقدّم من مركز “أبحاث الشباب العربي