على غرار خطاب الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت "ترسانة تحقيق الديمقراطية"، يجب أن تؤسِّس إفريقيا ترسانة من المستثمرين ابتداءً من القاعدة: من الداخل وليس من الخارج، من القاعدة إلى القمة وليس العكس، وتركز على التكرارية بدلاً من قابلية التوسّع.
قبل بضع سنوات، اقترح بريندان مولين (أحد مؤلفي هذه المقالة) أن يُستوحَى من مشروع مارشال نموذج جديد للاستثمار المؤثر المصمم ليطبق في إفريقيا، لأن الاستراتيجية التنموية التي اتبعتها الولايات المتحدة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت مرنة بما يكفي لدخول السوق، حيث يؤدي دعمها إلى إحداث أثر مضاعف طويل الأمد، فهي بذلك لم تحفز الاقتصاد الأوروبي فحسب، بل انتشلت القارة الأوروبية من آثار الدمار الناتجة عن زمن الحرب.
لكن مشروع مارشال يتطلب موارد خارجية نحصل عليها من القمة إلى القاعدة لإعادة بناء اقتصاد كان حيوياً فيما مضى. إن مهمتنا مختلفة في إفريقيا، فنحن لا نحاول إعادة البناء؛ نحن نؤسس ونحاول أن نبني لأول مرة. والأهم من ذلك، أن إفريقيا لن تعتمد على الموارد الخارجية لحل مشاكلها. علينا أن نبذل قصارى جهدنا، وعلينا أن نفعل ذلك بالاستعانة بالموارد الضخمة التي بحوذتنا فعلاً والتي لا يستهان بها في القارة الإفريقية.
لهذا نريد أن نستمد الإلهام من خطة مختلفة تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية، خطة نظمت الموارد المحلية الموجودة أصلاً واستفادت منها لبناء إطار عمل تنموي جديد طويل الأمد وقابل للتكرار: كانت خطة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في عام 1940 في خطاب "ترسانة تحقيق الديمقراطية" –على حد قوله– هي "تفعيل موارد البلد ومواهبه" لقيادة "الجهد الجماعي الجبار" للانتصار في الحرب، وتنمية الاقتصاد وخلق فرص العمل.
كان اقتصاد الولايات المتحدة في حالة يرثى لها في عام 1940، وذلك في أثناء مواجهتها للتحديات الجيوسياسية للحرب العالمية الثانية وتداعياتها المبهمة: 35% من السكان عاطلون عن العمل. دعا الرئيس فرانكلين في الفترة بين عيد الميلاد والعام الجديد في دردشة غير رسمية القطاع الصناعي الخاص إلى المساعدة في تنشيط الاقتصاد وقلب موازين الحرب. كما دعا إلى "صناعة الطائرات والسفن والكثير غيرها في المصانع"، وأكد "ضرورة أن يكون منتجوها هم العمال والمدراء والمهندسون مستعينين بالآلات التي يجب أن يبنيها مئات آلاف العمال من مختلف أنحاء الدولة".
قال فرانكلين: "علينا أن نكون ترسانة الديمقراطية الضخمة".
لتحقيق ذلك، اجتمعت الإدارة مع قادة الأعمال في جميع أنحاء الدولة وطلبت منهم العمل على تحقيق التنمية والإنتاج والتوظيف. فطوّرت هذه الرؤية الواضحة والمواءمة بين سياسة الحكومة والإنتاج الرأسمالي الحديث، القدرات التكنولوجية المتقدمة، ودربت جيلاً جديداً من المدراء والمخترعين والقادة. جمعت خطة فرانكلين الأمة لاستثمار مواردها وتسخيرها في أكثر المواضع احتياجاً لها، وهي خوض الحرب وتحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وبحلول ربيع عام 1943، أصبحت قدرة الولايات المتحدة التصنيعية تضاهي مجموع قدرتي حلفائها وأعدائها، وانخفضت نسبة البطالة إلى 4.7%، وأصبح الأميركيون قادرين على إنتاج متطلبات الانخراط في الحرب.
تحتاج إفريقيا إلى تطبيق خطة مماثلة، لمكافحة الصراع (المجازي) الذي نواجهه اليوم. نحتاج إلى تطبيق خطة تمنح شبابنا فرصة الحصول على عمل والنمو وترك الأثر، لإثراء القارة الإفريقية وتنمية الأعمال والقطاعات المحلية فيها وتخفيف اعتمادها على الأسواق المتقدمة.
التحدي الذي نواجهه
إن التحدي الذي نواجهه على عدة جبهات؛ تبرِِز تأثيرات جائحة "كوفيد-19" أوجه عدم المساواة لدينا، وتصعّب اللحاق بركب الاقتصاد الغربي، حيث سنواجه تضخماً ديموغرافياً في أعداد الشباب، مقابل عدد فرص العمل القليل جداً، كما نواجه هجرة العقول والمواهب التي نريد الحفاظ على وجودها، ونفتقر أيضاً إلى رأس المال الكافي للاستثمار في الأفكار والشركات والمشاريع لأن معظم الناس يظنون أن مجازفة الاستثمار في إفريقيا كبيرة والعائدات الواردة منها منخفضة جداً.
ومع ذلك، لدينا إمكانات عظمية تماماً كما كانت تملك الولايات المتحدة في زمن فرانكلين. بصفتي عضواً في ما آمل أن يصبح "العائد الديموغرافي" لإفريقيا، أعتقد أنه علينا محاكاة مشروع الرئيس فرانكلين والاستثمار في الموارد وتسخيرها في المواضع التي تحتاج إليها لتؤسس لنمو يمكن تكراره.
ترسانة من المستثمرين المشغلين
يكون المستثمر المشغل المحلي شاباً يبحث عن اكتساب خبرة استثمارية وتشغيلية. سيكتسب بضع سنوات من الخبرة في العمل المؤسسي ورغبة عميقة في إحداث تأثير. وسيكلّف بإيجاد مشاريع صغيرة ومتوسطة وتمويلها وتنميتها:
- إيجاد مشاريع صغيرة ومتوسطة لا تجتذب رأس المال عادة.
- تمويل رأس المال النامي في المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومواءمة مصالحها مع رواد الأعمال.
- تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال دمج نفسها في عمليات المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتطبيق المهارات وتناقلها بالتزامن مع رائد الأعمال.
نحتاج إلى تغيير توجه تدفقات رأس المال البشري ودفع شبابنا إلى الاستثمار في رواد أعمالنا الصغيرة والمتنامية والعمل معهم، لتأسيس بنية يتحاشى فيها أفضل الأفراد في إفريقيا وألمعهم الشركات المتعددة الجنسيات، وتنضم إلى الصناعات المضاعفة وتنشئ بيئة عمل متنامية قائمة على رأس المال البشري. يجب أن نمنح شبابنا فرصة لتعلم المهارات الإدارية، وإحداث أثر في الأعمال التجارية المحلية، والاهتمام بإمكاناتها في خلق فرص العمل والعوائد المالية على المدى الطويل.
يعالج نموذج المستثمر المشغل كلاً من التحديات المذكورة في الفقرة السابقة، فهو نموذج داخلي وليس نموذجاً خارجياً، يبدأ من القاعدة ويتجه نحو القمة وليس العكس، ويركز على التكرارية بدلاً من قابلية التوسع.
تسخّر سياسة التنمية المستدامة الموارد الموجودة مسبقاً وتوجهها لملأ الفجوات لتحقق أقصى قدر ممكن من عنصر الإضافة. يعد تأسيس البنية التحتية ضرورياً لكنه غير كافٍ، لأنه لا ينشئ خدمات إضافةً إلى هذه البنية التحتية الداعمة ولا يحدد مساراً من القاعدة إلى القمة لإلهام الشباب في إفريقيا. علينا إيجاد مسارنا الخاص لتحقيق التنمية، جزئياً لأن أفضل أفرادنا وألمعهم يعملون غالباً لحساب الشركات الدولية، فتخسر بذلك بيئة عملنا المحلية هذه المواهب.
دعوني أذكر العلامة التجارية "نايتف تشايلد" (Nativechild) التابعة لشركة الاستثمار "سيتشا كابيتال" (Secha Capital)، كمثال على طريقة تحقيق إنجازات عظيمة من خلال جمع أفضل الموارد المحلية من رأس المال البشري وتحفيزها وتشجيعها. تبيع شركة "نايتف تشايلد" منتجات طبيعية للعناية بالشعر، هذا يعني أنه في كل مرة يشتري فيها المستهلك زيتاً لنمو الشعر أو كريم ترطيب من "سونتو" وفريقها، يعاد توزيع هذه الأموال إلى الاقتصاد الإفريقي، بدلاً من زيادة إثراء المنافسين الموجودين في الولايات المتحدة وأوروبا. إضافة إلى ذلك، ساعدت "سيتشا" و"نايتف تشايلد" في بناء جيلنا المستقبلي من القادة: أونكوبوتس كومالو، متدربة سابقة في "نايتف تشايلد" ستغادر شركة "ماكنزي" (McKinsey) لإطلاق عملها الخاص في مجال التكنولوجيا الصحية. وسيما لالو، خريجة "المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (إنسياد)" (INSEAD) وشركة "باين" (Bain)، قدِّمت لها عروض عمل من نيويورك إلى لندن، لكنها فضَّلت البقاء في جنوب إفريقيا للاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة مثل "نايتف تشايلد" وتنميتها. ولا تختلف قصتي عن هذه القصص: فلولا أنني شغلت دور المستثمر المشغل في شركة "سيتشا"، لكنت أعمل الآن في أحد البنوك الأميركية الكبرى بدلاً من عملي هنا في القارة الإفريقية على تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة وخلق فرص العمل.
قد يكون الأهم من ذلك إنشاؤنا قيمة مالية مذهلة إذا استثمرنا مبالغ صغيرة من رأس المال المرن في الأعمال التجارية النامية ودعمناها برأس مال بشري رفيع المستوى عبر هؤلاء المستثمرين المشغلين. كتبت "مجموعة بوسطن الاستشارية" (BCG) أن "المستثمرين الذين يوسعون آفاقهم سيجدون أهدافاً استثمارية كثيرة، إذ تجد الفرص الذهبية في إفريقيا لدى الشركات الصغيرة ذات النمو المتسارع، التي لديها إمكانية تحقيق المزيد من النمو من خلال ضخ رأس المال الخارجي وتلقي المساعدة الإدارية".
للأسف معظم المؤسسات الاستثمارية التي أتواصل معها لا تطمح إلى اتباع استراتيجيات مبتكرة لكنها تنوح بسبب كثرة العوائق أمام الاستثمار. كما قال شامات باليهابيتيا: عندما تعمل في صندوق رأس المال المغامر (الجريء) أو شركة أسهم خاصة، غالباً لا تكون وظيفتك "مستثمراً" بقدر ما تكون "منسق العلاقات مع المستثمرين". وهذا سبب آخر لاقتراحي العمل وفق نموذج المستثمر المشغل: علينا تخصيص رأس المال الذي سيحث فئات مختلفة واسعة من الأشخاص الذين يمكننا أن نعدهم ليكونوا مدراء وقادة في عدد هائل من القطاعات.
ففي شركة الاستثمار "سيتشا كابيتال" فقط، لدينا قيمتان قابلتان للمقارنة حديثتان في السوق في شركتي "ووكينا" (WUKINA) و"ستوفيلبيرغ بيلتونغ" (Stoffelberg Biltong)، حيث جمعتا أقل من مليون دولار من رأس المال الخارجي، لكن يمكنهما تحقيق عوائد ضخمة، يعزى جزء من الفضل في ذلك إلى نموذج المستثمر المشغل: إن شركة "ووكينا" مثل شركة "آفون" (Avon) للشعر المستعار في إفريقيا، على غرار شركة "مايفن" المدعومة برأس مال مغامر بقيمة 40 مليون دولار في الولايات المتحدة، والقيمة القابلة للمقارنة لشركة "ستوفيلبيرغ بيلتونغ" وهي شركة "ستراي" (Strye) في الولايات المتحدة، التي طرحت للاكتتاب العام من خلال صفقة "شركة الاستحواذ لأغراض خاصة – سباك" بقيمة 170 مليون دولار. هذان مجرد مثالين في قطاعات "قديمة" و"منفرة"، لكنها ضخمة. تنمو شركتا "ووكينا" و"ستوفيلبيرغ بيلتونغ"؛ لأنهما تقدمان منتجاً عالي الجودة، وقليلاً من الابتكار، وتنفيذاً احترافياً من خلال رائد أعمال والمستثمر المشغل "سيتشا".
توجد شركات كثيرة مثل هذه الشركات في إفريقيا. ولا تحتاج إلا إلى القليل من رأس المال النامي ورأس المال البشري. علينا أن نمكن أفضل الأفراد وألمعهم في إفريقيا ليصبحوا ترسانة من المستثمرين المشغلين لإيجاد الأعمال التجارية في القارة وتمويلها وتنميتها لتحقيق التأثير والعوائد!