تقدم منصة "ستانفورد للابتكار الاجتماعي" الجزء الثاني من سلسلة "الاستماع العميق"، التي بيّنا في جزئها الأول ضرورة الإنصات من أجل بناء العلاقات الصادقة، وسنتحدث في هذا الجزء عن الأدوات غير اللفظية التي تساعد على ممارسة الاستماع العميق.
أجرت عالمة النفس مونيشا باسوباثي تجارب توضح آثار الانتباه لسرد المتحدث. في إحدى التجارب، كان المستمع مشتت الانتباه بمهمة أخرى، مثل عد كلمات المستمع التي تبدأ بالحرف "ت". تشير أدلة باسوباثي إلى أنه عندما ينصت الأشخاص بانتباه دون أن يكون انتباههم مشتتاً، فهم يبدون للمتحدث كأنهم يدعمون ما يعبر عنه. وبدوره، يمكن لمفهوم الانتباه هذا تمكين المتحدثين من مشاركة قصص أكثر تماسكاً، بالإضافة إلى سرد مزيد من التفاصيل حول قصصهم، ومشاركتها لفترة أطول من الوقت.
إن الاستماع ليس تمريناً سلبياً. فعلى سبيل المثال، أظهر بحث أجرته عالمة النفس جانيت بافيلاس، أن الاستماع في الوقت الحقيقي هو عملية نشطة يشارك فيها المستمع السرد مع المتحدث. يحدث هذا الإبداع المشترك من خلال قناة ردود مضمنة، سواء اللفظية أو غير اللفظية منها.
الأدوات غير اللفظية
تتطلب طريقة الاستماع العميق من المستمع أن يتفحص كلاً من سلوكه والطريقة التي يتلقاه فيها المتحدث. حيث يمكن لتعابير الوجه، مثل الابتسام والعبوس، أن تؤثر في اختيار المتحدث للكلمات وكيف يقرر إكمال قصته، إن قرر إكمالها أساساً. وفي تجربة أجراها عالم النفس الاجتماعي كاميل بيوكبوم، كان المشاركون الذين ناقشوا مقطع فيلم مع مستمعين مبتسمين أكثر ميلاً إلى تقديم تفسيرهم الخاص لأن تعبيرات الوجه الإيجابية شجعتهم على الشعور بالقبول والفهم. وعلى النقيض من ذلك، كان المشاركون الذين تحدثوا إلى مستمعين عابسين قد حدّوا ما شاركوه بالرسالة الوظيفية للفيلم -العناصر الواقعية والملخص- لأنهم شعروا بأنهم أقل أماناً وبالتالي كانوا أقل استعداداً لمشاركة المزيد من وجهات النظر الشخصية.
إن أجسادنا تشير إلينا وإلى الشخص الذي يحاورنا سواء أكنا نستمع بعمق أم لا. قد نكون حاضرين بأنفاس سريعة، متحمسين للاعتراض والتدخل، أو بأنفاس أعمق وأبطأ ما يشير إلى أننا هادئون وصبورون ومُستقبِلون لما نسمعه. يمكن للمستمع أن يميل إلى الأمام لإظهار الاهتمام، أو أن يتخذ وضعية مفتوحة تدل على التقبل، أو أن يتبنى موقفاً منغلقاً من خلال مقاطعة ذراعيه لإظهار موقفه الدفاعي. علاوة على ذلك، فإن الحفاظ على الاتصال البصري مع المتحدث لا يمكّن المستمع فقط من التقاط إشارات في إيماءات المتحدث، مثل عض الشفة السفلية أو حركات العين القلقة، ولكنه أيضاً ينقل الانتباه والاحترام.
الصمت أداة قوية غير لفظية تسمح للمتحدث بالراحة والتفكير؛ لأنه يقلل من ردود الفعل الفيزيولوجية التي تتداخل مع التفكير الانعكاسي. فالاستماع المتعاطف يعني إفساح المجال للصمت بعد أن ينتهي المتحدث من الحديث؛ وهذا بدوره يهيّئ الظروف لكل من المتحدث والمستمع أن يتفكرا في صياغة ردودهما أكثر. وجد بحث جديد في مجلة "علم النفس التطبيقي" أجراه عالم النفس الاجتماعي جاريد آر. كورهان وعلماء السلوك التنظيمي جينيفر آر. أوفربيك، ويري تشو، وتينغ زانغ، ويو يانغ، أن توجيه أحد الأشخاص أو كليهما في المفاوضات الثنائية لاستخدام الصمت الممتد يعزز التحول من التفكير الثابت الافتراضي النقضي إلى إيجاد حلول أكثر إبداعاً. يُظهر هذا البحث أيضاً أن الناس يبالغون في تقدير عدد الثواني التي يقضونها صامتين، ما يشير إلى أن المستمعين قد يحتاجون إلى عد ثواني الصمت قبل أن يستجيبوا.
إلا أن الصمت ليس دوماً أداةً بنّاءة. فهو يمكن أن يُستخدم أيضاً للحطّ من الشخص المقابل أو تجاهله أو للإشارة إلى الاختلاف في الرأي. فعندما لا يرغب المستمعون في سماع ما يقوله المتحدث أو مناقشته، يمكنهم إلغاء صوت المتحدث أو تجاهله عن عمد. كما يمكن للمستمع غير المستجيب أيضاً أن يعكس أنه غير مهتم، مما يؤدي إلى إسكات المتحدث بشكل فعال. وإليكم النصائح الست التالية لممارسة الاستماع العميق غير اللفظي التي تستند إلى العمل الداخلي والإدراك الذاتي:
لاحِظ الأحكام | كن على دراية بأي أحكام قد تكون لديك بشأن الشخص الذي يتحدث وما يقوله. ولاحظ ما إذا كانت لديك رغبة في تغيير الشخص الآخر، ثم تخلص من هذه الأفكار.
ركز على نفسك | كن واعياً لنبرة صوتك، ولاحظ ما يحدث عندما تسمح لنفسك باستمداد السكون الذي بداخلك.
راقب حركات جسدك | خذ وقتاً في التفكير في جسدك، لتصبح مدركاً له ولحركاته. كيف تتواصل باستخدام جسدك، وبأنفاسك، وبوضعية كتفيك ويديك؟
حافظ على التواصل البصري | إن النظر إلى المتحدث يُظهر له أنك مهتم بما يقوله. عندما تجري المحادثات بشكل افتراضي، يكون الاتصال البصري أكثر صعوبة، لأنك إذا كنت تنظر إلى الكاميرا، فلا يمكنك أيضاً النظر إلى المتحدث ومراقبة لغة جسده.
تمرّن على الصمت | عدّ إلى 10 بعد أن ينتهي المتحدث من إيصال فكرته قبل أن ترد على ما قاله.
جسّد الصمت الداعم | حاول تجسيد صمت صبور داعم، بدلاً من الصمت المعترض أو غير المهتم.
إعادة طرح الأفكار نفسها من منظورك الشخصي
إن الإشارات غير اللفظية مهمة ولكنها ليست كافية. يمكن للمستمع أن يثبت أنه سمع ما قاله المتحدث من خلال تلخيص رسالة المتحدث وإعادة طرحها بصياغته الشخصية منطلقاً من هذا المعنى لتأكيد التفاهم المتبادل. يمنح هذا الأسلوب المتحدث فرصة لتوضيح أفكاره، والبناء على ما قاله، والتوصل إلى فهم أعمق يمكنه بعد ذلك مشاركته مع المستمع.
تتطلب هذه الممارسة من المستمع استخدام كل حواسه وقدرته على التفكير والتعاطف لفهم ما يقوله المتحدث بالكامل. بعد ذلك، يجب على المستمع تحديد النقاط الأكثر بروزاً في قصة المتحدث ثم توصيل تفسيره للمتحدث للتحقق مما إذا كان قد فهمها بشكل صحيح. يتضمن عكس المعنى الأساسي لكلمات المتحدث التركيز على الكلمات المنطوقة بطاقة وانفعال وتكرارها، فضلاً عن الكلمات المشحونة عاطفياً. يجب أن يولي المستمع اهتماماً خاصاً لاستخدام المتحدث للغة التصويرية، مثل الاستعارات وصيغ المبالغة وصيغ التفضيل -وكلها تشير إلى أن معنى هذه الكلمات يحمل أهمية بالنسبة للمتحدث.
تتيح المحادثة للمستمع فرصاً متعددة ليعكس المعنى مرة أخرى للمتحدث. ويمكن مقابلة عكس المعنى هذا بواسطة توكيد المتحدث لفهم المستمع، أو تصحيحه أو الإسهاب في شرحه. فالحوار الذي يهدف إلى توضيح المعنى ينجح في خلق فهم مشترك عندما يؤكد المتحدث ما تمت إعادة طرحه عليه. يمكن للمستمع بعد ذلك المتابعة بأسئلة، مثل "هل فاتني أي شيء؟" أو "هل يمكنك إخباري بالمزيد؟"، لإظهار الاهتمام بالمتحدث، وكذلك لتشجيعه على التفصيل والتعمق أكثر في سرد قصته. فالتحقق من المتحدث من خلال تلخيص ما سمعه المستمع يمكّن المتحدث من التعبير عن قصته بطريقة مختلفة أو فهمها على نحو مختلف كنوع من العملية المتصاعدة، عبر مقاربة الفروق الدقيقة ووجهات النظر المختلفة في كل تكرار، مما يخلق صورة أكثر ثراءً لكل من المتحدث والمستمع.
خلال عملية الاستماع العميق، يجب على المستمع أن يعكس فهمه ليس فقط لمعنى مضمون ما سمعه بل أيضاً لفهمه الشخصي لمشاعر المتحدث. وهذا النوع من عكس المعنى يتطلب تلخيص مشاعر المتحدث من خلال تقييم تعابير وجهه، ونبرة صوته، وسرعة حديثه، ومستوى طاقته. إذا فشل المستمع في عكس الحالة العاطفية للمتحدث -حتى لو تمكن من استيعاب المعنى تماماً- فمن غير المرجح أن يشعر المتحدث بأنه مسموع حقاً، كما يوضح المحلل النفسي دونيل ستيرن: "نحن بحاجة إلى الشعور بأن الآخر الذي نشغل تفكيره يستجيب لنا عاطفياً، وأنه يهتم بما نختبره وكيف نشعر تجاهه". وبتعبير آخر، فإن عكس فهمنا للمشاعر يوضّح التعاطف.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.