تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الأول من سلسلة "الاقتصاد الاجتماعي والثورة الصناعية الرابعة" والتي سوف نتحدث في الجزء الأول منها عن الكيفية التي يلبي من خلالها التقدم التكنولوجي حاجات الاقتصاد الاجتماعي، وسنتعرف على أهم الاعتبارات الاستراتيجية للاقتصاد الاجتماعي.
الثورة الصناعية الرابعة (4IR) هي إطار عمل واسع أو مصطلح عام يشمل البيانات والتكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي (AI)، وعلاقتها بالأمور المادية، مثل البنى التحتية والسيارات والمنازل والمدن، وهي تمثل توجهات واقعية وبالغة الأهمية، لكن للأسف معظم التعليقات حولها – سواءً المتحمسة أو الناقدة – تنبع من وجهة نظر تكنولوجية حتمية. يفترض معظم الناس أن التكنولوجيا الجديدة تصيغ المجتمع بشكل مباشر، إما بتوليد ثروة جديدة أو بإضعاف الديمقراطية، بدلاً من الإدراك أن المجتمع هو القادر على تحديد اتجاه البحث والتطوير (R&D) وتحديد طريقة استخدام هذه التكنولوجيا.
قبل عقد من الزمن، كان العديد من قادة المجتمع المدني والمعلقين يأملون أن تؤدي المنظمات غير الربحية دوراً بارزاً في تطوير منصات وخدمات جديدة تعتمد على تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، لكن ما حدث أن الشركات الربحية مثل "أوبر" (Uber) و"أير بي إن بي" (Airbnb) هيمنت على هذا المجال. لقد شاركت من كثب بصفتي ممولاً ومستثمراً لبعض المتنافسين، وشهدت معاناتهم لتحويل "تعاونيات المنصات" (فكرة إدارة سيارات الأجرة عن طريق الإنترنت، ورعاية الأطفال، وغيرها من الخدمات كتعاونيات بدلاً من الأعمال التجارية التقليدية) من فكرة واعدة إلى خيار منطقي لإدارة الخدمات على نطاق واسع.
نواجه خطراً بالغاً في أن تتبع الأجيال القادمة من الذكاء الاصطناعي نمطاً مشابهاً، الذي يتمثل بهيمنة الأعمال التجارية وبعض الحكومات على تطوير التكنولوجيا، ويصبح المجتمع المدني متفرجاً عاجزاً. من جهة أخرى، توجد فرص أيضاً للاقتصاد الاجتماعي بجميع أشكاله ليحدد استراتيجياً تطوير تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وتطبيقها في سبيل تحقيق المصلحة الاجتماعية.
الأخلاقيات والأنظمة لتوجيه الثورة الصناعية الرابعة
رُوِّج للثورة الصناعية الرابعة في البداية بأنها مفهوم أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، وقد تبنته الشركات وبعض الحكومات بقوة. من ناحية أخرى، كانت استجابة المجتمع المدني لها محدودة. إن المؤلَّفات الأكاديمية الحالية حول التأثيرات الاجتماعية المحتمَلة للثورة الصناعية الرابعة هي حديثة العهد، وغالباً قليلة جداً، وتتمحور غالباً حول المبادئ العامة المرتبطة بالأخلاقيات بدلاً من التحليل المفصّل للأثر. ويركز معظمها على النواحي التي يمكن أن يهدد بها الذكاء الاصطناعي القيم مثل الصدق والسلام والديمقراطية، بواسطة الحرب الخوارزمية، كتفشي الأخبار الكاذبة أو التزييف العميق، والتحيز الخوارزمي المدمج في أدوات صناعة القرار خاصةً في بعض المجالات، مثل العدالة الجنائية، والإساءات المحتملة الناتجة عن تكنولوجيا التعرف على الوجه وغيرها من الأدوات.
يعتبر هذا التيقظ أمراً ضرورياً لأن الذكاء الاصطناعي يصبح أكثر انتشاراً ويؤدي دوراً أكبر في صناعة القرار. ومع أن التمويل الخيري والتجاري المتميز لمراكز أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم مرحب به، وأن الكثير من مقترحات القطاع الأخلاقية مقبولة، فإنها تفتقر غالباً إلى الوضوح في الآثار الاجتماعية والسياسية للذكاء الاصطناعي، فضلاً عن الخيارات الاستراتيجية، وتميل إلى إصدار قوائم بمبادئ يصعب تنفيذها. إضافة إلى ذلك، لم ينجز المجتمع المدني عملاً يذكر في خيارات السياسة العامة، مع وجود بعض الاستثناءات. في الواقع، اضطر واضعو السياسات في المفوضية الأوروبية والحكومات الوطنية إلى وضع خيارات لأنفسهم. فمثلاً على إثر النظام الأوروبي العام لحماية البيانات، تحرك الاتحاد الأوروبي لتعزيز البعد الاجتماعي للتكنولوجيا من خلال إصدار مجموعة من المقترحات لتقييد الذكاء الاصطناعي وتوجيهه، من تكنولوجيا التعرف على الوجه إلى الائتمان الاجتماعي، ومن المستغرَب تضمين عدد قليل من المساهمات من المجتمع المدني أو الأوساط الأكاديمية في تلك العملية.
تعزيز التكنولوجيا في سبيل الإحسان
وضعت معظم هذه المساعي تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة ضمن إطار التهديد الذي يقتضي تنظيمها ووضع قيود لها. لكن ركز قليل منها على توظيف الذكاء الاصطناعي في تحقيق غايات ذات طابع اجتماعي في الغالب. على سبيل المثال، تستخدم شركة "إيروبوتيكس" (Aerobotics) طائرات دون طيار والذكاء الاصطناعي لتحديد الآفات ومعالجتها لتحسين الناتج الزراعي.
في قطاع التعليم، يستخدم البعض الذكاء الاصطناعي لتحسين تصميم المناهج الدراسية وتقييمها وتزويد الطلاب بمواد تعليمية مخصصة عن طريق الإنترنت. تشمل الأمثلة الأخرى استخدام القادة المدنيين في تايوان أداة الذكاء الاصطناعي "بوليس" (Polis) لتنسيق الحوار الديمقراطي، وتستخدم المؤسسات الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات بدءاً من المساعدة في تشخيص المشكلات الصحية إلى مساعدة اللاجئين في إعادة التوطين.
في كثير من الحالات، كان المجتمع المدني فعالاً جداً في استخدام التكنولوجيا الرقمية التي أصبحت جاهزة بالفعل. يتضح هذا في شبكة الابتكار الاجتماعي الرقمي (DSI) المتنامية في أوروبا – التي تضم عدة آلاف من المؤسسات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والمجموعات الشعبية – وفي مؤسسات بناء القدرات، مثل "تيك سوب" (TechSoup) و"داتا كايند" (DataKind) في الولايات المتحدة و"سايبر فولانتاريس" (cibervoluntarias) في إسبانيا و"كاست" (CAST) في المملكة المتحدة، و"أكاديمية "البيانات الضخمة" في سيول، و"الشبكة العالمية "و"مختبر التعبئة".
كما توجد نماذج واعدة ضمن نطاق محدود عن إنجازات التكنولوجيا. تستخدم شركة "أوبين بايونيكس" (Open Bionics) الروبوتات لإنشاء أيدٍ روبوتية مفتوحة المصدر وأطراف اصطناعية يمكن للآخرين إعادة إنتاجها بسهولة باستخدام مواد جاهزة وتقنيات النماذج الأولية السريعة. تنتج "ميش بوينت" (MeshPoint) أجهزة لإنشاء شبكات إنترنت من نوع الند للند في مواقع الكوارث ومخيمات اللاجئين، وتستخدم مشاريع مثل "تونيك" (Tonic) و"بروفينانس" (Provenance) قواعد البيانات المتسلسلة (blockchain) لجعل سلاسل التوريد أكثر شفافية. تستخدم مؤسَّسات أخرى روبوتات الدردشة لتحسين تسجيل الناخبين، وحل المضايقات في مكان العمل، ودعم الابتكار في مناطق الكوارث.
كما توجد بعض البرامج المتخصصة، مثل "إمباكت تشالينج" (Impact Challenge) الذي أطلقته شركة "جوجل.أورغ" (Google.org)، الذي يدعم المبادرات التي تطبق الذكاء الاصطناعي بغاية تحقيق المصلحة الاجتماعية، ومنصة "الذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان" (AI for Good)، التي تسعى إلى إصدار تطبيقات ذكاء اصطناعي قابلة للتطوير وعملية لتحقيق أثر عالمي. في أميركا الشمالية، ربطت المشاريع الطموحة في مقاطعتَي ساسكاتشوان (في كندا) وأليني (في أميركا) بين المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والحكومية باستخدام الذكاء الاصطناعي لاتخاذ إجراءات وقائية متعلقة بالمخاطر الاجتماعية. تعتبر الجهود المبذولة في الولايات المتحدة لإنشاء سحابة أبحاث وطنية – توفر موارد حاسوبية للباحثين بإقامة شراكة بين الحكومة والشركات والجامعات – نموذجاً جيداً للمبادرات الأكثر توجهاً نحو العامة، على الرغم من غياب المجتمع المدني عنها.
على الأرجح اتسع مجال هذه الأنواع من الشراكات. إن البرامج التي تقودها منصات كبيرة (مثل مشروع "سايدووك لابز" (Sidewalk Labs) التابع لـ "جوجل" في تورنتو أو "ريبليكا" (Replica) في بورتلاند)، التي تعهدت بعصر جديد من المدن الذكية، أثبتت أنها غير قادرة على كسب ثقة العامة وأكدت ضرورة اتخاذ تدابير جديدة جذرية لإدارة البيانات لتجنب الانتهاكات.
وفي الوقت نفسه، دفع التمويل الخيري إلى العمل بفعالية في وضع أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وليس استخداماته في المجتمع أو في العمل الخيري بحد ذاته. في الواقع، كانت إحدى آثار قدرة الشركات الكبيرة على استخدام تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة بأساليب مبتكرة، قد يكون تأثيرها على العطاء الخيري الأكبر من المؤسسات نفسها، فمثلاً عن طريق "فيسبوك" الذي يتيح التبرع للجمعيات الخيرية عبر خدمة "فيسبوك ماسنجر" أو الشراكة التي عقدت بين شركة "سيلز فورس" (Salesforce) و"يونايتد واي" (United Way) في الولايات المتحدة لإضافة خاصية إسداء النصيحة إلى منصتها للعطاء في مكان العمل المبنية على "آينشتاين" التي تعمل بالذكاء الاصطناعي.
الاعتبارات الاستراتيجية للاقتصاد الاجتماعي
مع أن المساعي الموضحة فيما سبق تبذَل لتقييد مسار التطور التكنولوجي وتوجيهه من خلال القانون والتنظيم والمدونات الأخلاقية، وحشده لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، لا يزال تأثيرها محدوداً. بالتطلع إلى العقد المقبل، فإن القضية الكبرى هي ما إذا كان الاقتصاد الاجتماعي سيتقبل دوره الحالي الثانوي نسبياً في الثورة الصناعية الرابعة أو سيصيغ بفعالية التطور التكنولوجي بأساليب جديدة تنفع المجتمع. في السيناريو السلبي، ستقوم المؤسَّسات الاجتماعية والمؤسَّسات الأخرى المشارِكة في الاقتصاد الاجتماعي بما يلي:
- الاعتماد على منتجات الذكاء الاصطناعي التي طورتها المؤسسات التجارية.
- الافتقار إلى رأس المال والخبرة اللازمة للتنافس مع المنصات الكبرى (ما يذكرنا بقصة الاقتصاد التشاركي).
- الافتقار إلى سبل الحصول على البيانات، التي تعد المدخلات بالغة الأهمية للتعلم الآلي بجميع أنواعه.
- الافتقار إلى وسائل التأثير على توجه البحث والتطوير أو البيئة السياسية الأوسع.
- التأخر بخطوة دائماً عن قطاع الأعمال بسبب اعتمادها البطيء على التكنولوجيا.
- مشاهدة تقويض الأهداف الاجتماعية بالتدمير الشامل للوظائف بسبب الأتمتة.
أما في السيناريو الإيجابي، فإن تلك المؤسسات:
- لديها القدرة ورأس المال للتنافس وتحقيق وفورات الحجم والمجال الذي تحتاج إليهما لكسب المنافسة.
- تعيد صياغة البحث والتطوير للتركيز أكثر على الأولويات الاجتماعية مثل التشرد، ودمج اللاجئين، والصحة العامة، بدلاً من أن يقتصر التركيز على الأولويات العسكرية والتجارية فقط.
- تساعد في تحديد بيئات تنظيمية وسياسية ملائمة، تتضمن قواعد الخصوصية والشفافية والبيانات المفتوحة.
- تساعد في تحديد سياقات أنظمة معينة، خاصةً عن التغير المناخي ومستقبل العمل.
- تحقق تقدماً في الإنتاجية من خلال رفع مستويات مهارات العمال والتطبيق الفعال للتكنولوجيا.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.