ظهرت ثقافة التعلم التعاوني إلى حدٍ ما عندما قال إسحاق نيوتن "إذا استطعت أن أمتلك رؤية أبعد من غيري، فذلك بسبب اعتمادي على عدد كبير من العمالقة"؛ فالأفراد الأكثر انفتاحاً على الحياة هم من وفّرت لهم مجموعاتهم الدعم والتمكين على أفضل وجه، ومن دون تعاون الأفراد لا يمكن للمجتمع أن يستمر".
وفيما يخص قطاع التعليم، يُعد تعاون الطلاب وتفاعلهم بعضهم مع بعض أمراً مهماً لتحقيق أهداف العملية التعليمية، والأمر لا يتعلق فقط بتدريب المعلمين على ترتيب التفاعلات المناسبة بين الطلاب والمواد الدراسية، أو تفاعل المعلمين مع الطلاب، وإنما يرتبط أيضاً بكيفية تفاعل الطلاب فيما بينهم.
التعلم التعاوني وتأثيره في مواقف الطلاب
تعكس كيفية بناء المعلمين لأنماط التفاعل بين الطلاب مدى جودة التعلم، وشعور الطلاب تجاه المدرسة والمعلم، وتجاه بعضهم لبعض أيضاً، إضافة إلى مدى تقديرهم لذاتهم. وفي هذا الإطار أعدت الباحثة الإماراتية غادة المرشدي دراسة بعنوان: "بناء ثقافة التعاون بين طالبات جامعة الإمارات" لاستكشاف تأثير التعلم التعاوني في مواقف الطالبات وتعليمهن.
اعتمدت الباحثة المنهج النوعي لتحليل البيانات من خلال المراقبة الفصلية والمقابلات شبه المنظمة مع طالبات من "جامعة الإمارات"، إذ تلقت سبع عشرة طالبة ثلاث دورات تربوية حول "التقييم في الطفولة المبكرة"، و"الثقافة والطفولة المبكرة"، و"البيئة الفصلية في التعليم الابتدائي"، وأُجريت المقابلات مع ست طالبات من الدورات الثلاث، واستمرت عملية جمع البيانات ما يقرب من الشهرين.
توصلت الدراسة إلى أن تطبيق الاستراتيجيات التعاونية المنهجية في التعلم ترك لمساته الملحوظة في التفاعل الاجتماعي، والاستجابة الثقافية، وتحسين التعلم. وتجلت أهم مزايا استراتيجيات التعلم التعاوني في تكوين صداقات جيدة، واستعداد زميلات الدراسة لمساعدة أعضاء مجموعتهن على إنهاء عملهن، وتقديم اقتراحات وأفكار مفيدة، وتبادل الأفكار، وتوفير الوقت، والتفاعل البنّاء بين الطالبات.
مفهوم التعلم التعاوني
كان التعلم التعاوني في منتصف الستينيات نهجاً غير معروف نسبياً، وسيطر في هذه الفترة التعلم التنافسي والفردي على جميع مستويات التعليم، واستندت المقاومة الثقافية للتعلم التعاوني إلى الاعتقاد أن نظرية عالم الأحياء الإنجليزي تشارلز داروين، أو ما يسمى بـ "الداروينية الاجتماعية" تُعزز المفهوم الفردي للاستمرار على قيد الحياة، لكن ممارسات الفكر التربوي والتعليمي تغيرت وابتعدت عن "المنافسة" و"الفردية" شيئاً فشيئاً، وأصبح التعلم التعاوني الآن إجراءً تعليمياً مقبولاً ومُفضلاً في أغلب المراحل الدراسية.
تتمحور استراتيجية التعلم التعاوني حول تفاعل الطالب بالدرجة الأولى، في حين يعمل المعلم على تسهيل العملية وضمان سيرها بطريقة صحيحة، ويعتمد هذا النهج على مجموعات صغيرة يكون فيها الطلاب مسؤولين عن تعلمهم وتعلم أعضاء المجموعة، إذ يسعى الطلاب ضمن المواقف التعاونية إلى تحقيق نتائج مفيدة لأنفسهم ولأعضاء المجموعة الآخرين، ويعمل المعلم على رسم هيكل الهدف التعليمي المُراد تحقيقه في كل فصل دراسي.
قد تتناقض استراتيجية التعلم التعاوني مع التنافس؛ حيث يركز الطلاب على تحقيق هدف أكاديمي مثل الدرجة "إي" (A) التي يمكن أن يحصل عليها طالب واحد فقط أو عدد قليل من الطلاب، ومع الفردية في التعلم أيضاً؛ التي يسعى من خلالها الطلاب بأنفسهم لتحقيق أهداف التعلم غير المرتبطة بأهداف الطلاب الآخرين.
يؤدي التعلم التعاوني إلى نجاح مشاريع الطلاب المختلفة، والعمل وفق خطة واضحة تتشكل من خلالها أيديولوجيات الطلاب والمعلمين وقادة المدارس وشخصياتهم، ويزود المعلمين بالاستراتيجيات التي تساعدهم على خلق بيئة تعليمية ودّية وجذابة. وبحسب دراسة بعنوان: "مزايا وتحديات التعلم التعاوني في ثقافتين مختلفتين"، أصبحت البيئة التعليمية أكثر جاذبية منذ تطبيق التعلم التعاوني في الفصل، وزادت من قدرة الطلاب على التفاعل والتفاوض بعضهم مع بعض لتحقيق هدف مشترك، لأن التعلم التعاوني يخلق بيئة أكثر أماناً للطلاب بعيداً عن التوتر ومشكلات الصحة النفسية التي تسببها المنافسة.
من جهة أخرى، يعتقد المشاركون في الدراسة نفسها، أن التعلم التعاوني يعمل على تحسين جودة التعلم وخلق رؤية عمل مشتركة، فضلاً عن توفير فرص لحل المشكلات الأكثر تعقيداً تتيح للطلاب التفكير بطريقة إبداعية.
العناصر الأساسية للتعاون
لا يمكن وصف كل المجموعات بأنها متعاونة؛ فوضع الأشخاص في غرفة واحدة وإخبارهم بأنهم مجموعة، لا يعني تعاونهم بطريقة فعّالة، إذ يجب هيكلة خمسة عناصر أساسية للوصول إلى الإمكانات الكاملة للمجموعة:
- الترابط الإيجابي: العنصر الأهم في التعلم التعاوني، إذ يجب أن يعطي المعلمون مهمة واضحة وهدفاً مشتركاً يدرك من خلاله الطلاب أنهم متناغمون معاً، بطريقة يؤثر فيها نجاح فرد أو فشله على الجميع، وبالتالي يساعد التعاون في بناء جهد جماعي لإنجاز الأهداف المشتركة.
- المساءلة الفردية والجماعية: يجب أن يكون كل عضو في المجموعة مسؤولاً عن مهامه دون التدخل في عمل الآخرين؛ ما يساعد على قياس مدى تحقيق المجموعة لأهدافها، والجهود الفردية لكل من أعضائها، وتتمثل المساءلة الفردية في تقييم أداء كل طالب على حدة، ومقارنته بالنتائج الفردية والجماعية لتحديد من يحتاج إلى مزيد من المساعدة والدعم والتشجيع في إكمال المهمة.
- التفاعل المعزِز: تعد مجموعات التعلم التعاوني عبارة عن نظام دعم أكاديمي يقوم على مبادئ محددة مثل التأكد من إكمال جميع الأعضاء مهامهم ومشاريعهم البحثية وفهمها، ونظام دعم فردي مثل تعرف أعضاء المجموعة بعضهم على بعض والمساعدة في حل المشكلات غير الأكاديمية، إذ اكتسبت الطالبات المشاركات في دراسة الباحثة الإماراتية "المرشدي" صديقات جيدات من خلال التعلم التعاوني، وبالتالي يحدث التفاعل التشجيعي عندما يتشارك أعضاء المجموعة الموارد ويساعدون ويشجعون ويمدحون جهود بعضهم لبعض.
- الاستخدام المناسب للمهارات الاجتماعية: يعد تدريب الطلاب على مهارات الاتصال الاجتماعي أمراً ضرورياً للعمل التعاوني، إذ يشعر الطلاب بأمان أكبر عند العمل على ملفات المشاريع البحثية، التي تعزز معرفة الطلاب وقاعدة مهاراتهم، مع زملائهم غير المستعدين للقيام بمهامهم بأنفسهم، ويظهر الطلاب المشاركون في العمل الجماعي المواقف التعاونية بين زملائهم، ويقدمون ملاحظات بناءة، ويحصلون على الدرجات العليا في مسارهم، وبحسب دراسة الباحثة الإماراتية المذكورة، فإن بعض الطالبات أشرن إلى أن زميلاتهن في الفصل أبدين استعدادهن لمساعدة أعضاء المجموعة في إنهاء عملهن إذا لم يتمكن من فهم ما يجب عليهن فعله.
- المعالجة كمجموعة: يقوم هذا العنصر على مناقشة أعضاء المجموعة مدى نجاحهم في تحقيق أهدافهم والحفاظ على علاقات عمل فعّالة، إذ تحتاج المجموعات إلى وصف إجراءات الأعضاء المفيدة وغير المفيدة واتخاذ قرارات بشأن السلوكات التي يجب مواصلتها أو تغييرها؛ لأن التحليل الدقيق لكيفية عمل الأعضاء معاً يؤدي إلى التحسين المستمر لعملية التعلم.
تحديات التعلم التعاوني
على الرغم من فوائد العمل الجماعي ضمن مجموعات الطلاب، فثمة تحديات مرتبطة بعملية التعلم التعاوني توصلت إليها الدراسة الإماراتية، منها:
غالباً ما يرتبط تعلم اللغة الإنجليزية كلغة ثانية أو أجنبية بالقلق وعدم اليقين لدى الطلاب؛ ما يؤدي إلى عرقلة التعلم بسبب مقاومة الطلاب للتعاون والتركيز على الذات، لذا يجب أن تكون تجربة التعلم مؤثرة وغنية تجمع بين النفع والمتعة.
- اتكالية الطلاب وعدم مسؤوليتهم
يمكن أن تؤثر اتكالية بعض الطلاب وإهمالهم لمسؤولياتهم سلباً على إنجاز مهامهم، إذ عبّرت بعض الطالبات المشاركات في الدراسة، عن أن عدم مسؤولية زميلاتهن في الفصل كان المشكلة الرئيسية المتمثلة في عدم إنجاز المهام في الوقت المحدد.
من أهداف التعلم التعاوني زيادة وعي الطلاب بالتفاعل مع أعضاء فريقهم في بيئة صحية وإيجابية لضمان نجاح المهمة وتحقيق الهدف، وعلى الرغم من أن المدرسين يحاولون تدريب طلابهم على التعاون في المجموعة، فإن قلة التواصل بين الطلاب سبب إشكالية بالنسبة للمشاركات في الدراسة.
- مشاركة الأفكار أو التحكم في النقاش
يفضل بعض الطلاب التحكم في النقاش ضمن المجموعة؛ ما يثير الصراع بين أعضائها وتأخير العمل إلى حين التوصل إلى اتفاق على آلية إنجاز المهام، ويستخدم بعض الطلاب حس الفكاهة للتعبير عن ضرورة احترام آراء الآخرين وحقهم في مشاركة أفكارهم.
يتمثل الغرض المثالي من التعلم التعاوني في تبادل الأفكار وتوفير الوقت في أثناء تنفيذ المهمة بأكملها من خلال مختلف أعضاء المجموعة، ولكن في بعض الحالات، يمكن أن يؤدي تنفيذ استراتيجيات التعلم التعاوني إلى زيادة ارتباك الطلاب، وتأجيل القرارات. ومن جهة أخرى يمكن أن تشكل النقاشات الجانبية عقبات أمام تقدم أعضاء المجموعة، وعدم الانتباه لبعض تعليمات المعلم خلال شرح المهام.
تُعد المساواة في توزيع المهام وتقسيمها بطريقة تناسب إمكانات كل طالب من أساسيات نجاح التعلم التعاوني، إذ واجهت بعض الطالبات تحديات في توزيع أعمالهن بينهن، وشددت أخريات على الصراع الذي ظهر في أثناء تعاونهن بسبب عدم تقسيم العمل بالتساوي.
- الافتقار إلى المهارات الشخصية والعمل الجماعي
بينت دراسة أُجريت على 19 مدرساً و23 طالباً بكلية إعداد المعلمين في إحدى جامعات فيتنام، أن عدم امتلاك الطلاب مهارة العمل التعاوني، لن يمكّنهم من المساهمة الكاملة في مهام بعينها، ويمكن ألا تكون مجموعات الصداقة فعّالة دائماً، لأن الأصدقاء يميلون إلى التواصل الاجتماعي أكثر من التركيز على المهام الجماعية، علاوةً على ذلك، يمكن أن يتهاون الطالب بمسؤوليته الفردية دون أن ينتقده أعضاء المجموعة الآخرون.
إذاً، التعاون كلمة مكونة من ثلاثة أحرف؛ نون، وحاء ونون، "نحن"، ويعد أداة مؤثرة في المجال التعليمي تضمن مشاركة الأفكار بين الطلاب والتفاعل معها بطريقة منظمة ومتساوية تضمن الاستفادة للجميع.
نُشر هذا المقال استناداً إلى بحثٍ مُقدّم من مركز "أبحاث الشباب العربي".