"هكذا نحتفل في بورتوريكو"؛ هذه الكلمات التي جعلت من أغنية "ديسباسيتو" (Despacito) الشهيرة واحدة من أكثر داعمي السياحة إلى الجزيرة الكاريبية، وتخطّى العمل الغنائي كل الحدود الجغرافية، ليثبت أن الفن بإمكانه ترك بصمة كبيرة، لكن تبدد صدى صوت الموسيقى فجأة حينما تحوّل المشهد المبهج في الأغنية إلى دمار مؤلم إثر إعصار "ماريا" الذي ضرب بورتوريكو في عام 2017. ومن هنا كان لا بد للعالم أن يتكاتف من أجل إنقاذ الإنسان والبيئة.
منذ أن نشر آدم سميث كتابه بعنوان "نظرية المشاعر الأخلاقية" (The Theory of Moral Sentiments) عام 1759، أمكننا معرفة أهمية الإطار الأخلاقي، فهل كان من حقنا التمتع بنعم كوكب الأرض كما يحلو لنا، أم أن الطبيعة لها حقوقها الخاصة؟
لم يكن الوقت يسيراً على الجزيرة الكاريبية التي انقلب حالها بين عشية وضحاها، وتحولت موسيقاها إلى دموع باكية على أطلال ما تبقى مما كان يوماً رمزاً سياحياً تمكن من تخطي الحدود. هنا، عكفت شركة "سيسكو" (Cisco) للبرمجيات على التحلي بالإطار الأخلاقي لمواجهة القلق المتزايد في بورتوريكو بعد الإعصار، فهي تسعى إلى تسريع حل المشكلات العالمية باستخدام التكنولوجيا الخاصة بها وخبراتها لإفادة الناس والمجتمع والكوكب.
حددت "سيسكو" هدفها للتأثير إيجاباً في مليار شخص بحلول عام 2025. لذلك فهي تستخدم مواردها للمساهمة في الإغاثة من الكوارث حول العالم، وتعزيز كفاءة نظم الرعاية الصحية، والتعليم في المجتمعات المحرومة. وبعدما ضرب إعصار "ماريا"، دخلت "سيسكو" في شراكة مع مؤسسة "نيت هوب" (NetHope) غير الربحية المتخصصة في تحسين اتصال تكنولوجيا المعلومات بين المؤسسات الإنسانية في البلدان النامية والمناطق المتضررة من الكوارث؛ وذلك لجلب فرق من المتطوعين حتى يتمكنوا من إعادة إنشاء شبكة اتصالات موثوقة. كان هذا أمراً أساسياً حتى يتمكن المستجيبون الأوائل من تنسيق جهود الإغاثة الخاصة بهم، وبالتالي يمكن للعائلات المتضررة البقاء على اتصال مع أحبائهم.
لكن لماذا كانت قصة "سيسكو" ملهمة للعديد من الشركات حول العالم؟
لقد أكدت الشركة أن جهود المسؤولية الاجتماعية لا تحتاج دائماً إلى العمل على أهداف طويلة الأجل تستغرق أكثر من 5 سنوات حتى تُحقق. في بعض الأحيان، قد يكون التركيز على حل مشكلة حالية أكثر فعالية. وهذا ما يجعلنا نسلط الضوء على المفهوم الشامل للمسؤولية الاجتماعية.
الأداء الاجتماعي للشركات
تتعدد مفاهيم المسؤولية الاجتماعية في عالم إدارة الأعمال، فمؤشر أداء الشركات لم يعد مقتصراً على الأداء الاقتصادي أو المالي فحسب، بل وصل إلى الأداء الاجتماعي خاصة في ظل التحديات المعاصرة التي يواجهها العالم من تغيرات مناخية، وما يتطلب من حماية المستهلك والبيئة؛ على سبيل المثال، حصلت "ستاربكس" (Starbucks) على لقب "الشركة الأكثر أخلاقية في العالم" من معهد "إيثسفير" (Ethisphere) لقياس المعايير الأخلاقية للشركات عام 2017. فبالإضافة إلى جعل القهوة أول منتج زراعي مستدام، تذهب ستاربكس إلى أبعد الحدود لدعم المجتمع والبيئة، فهي تقدّم الدعم المباشر للمزارعين ومجتمعاتهم. في كوستاريكا ورواندا، إذ أنشأت مراكز دعم لتزويد المزارعين المحليين بمختلف الأسمدة والآلات والدعم التقني لمساعدتهم على خفض تكلفة الإنتاج، والحد من عدوى الفطريات، وتحسين جودة المنتج.
كما تُعرّف المسؤولية الاجتماعية على أنها استجابة الشركات لتوقعات المجتمع، وتتعدد أبعادها لتشمل البعد القانوني والأخلاقي والخيري والاقتصادي.
الأرباح أمام المسؤولية الاجتماعية
قد تبدو قصة دعم "سيسكو" في بويرتوريكو أو القهوة المستدامة من "ستاربكس" بعيدة بعض الشيء عن مجال الأرباح؛ فما فعلته شركة البرمجيات كان لصالح الإنسانية بصورة بحتة، لكن هل يمكنك التخيل أن هناك مجالاً بالفعل للعمل على تحقيق الأرباح والحفاظ على الدور المسؤول اجتماعياً للشركات في آنٍ واحد؟
لا يعتبر الأمر صعباً على الإطلاق، وإن كنت تتساءل إلى أي مدى يجب على الشركات التحلي بالمسؤولية الاجتماعية؟ يجب أن تعلم أهمية الالتزام بالغاية والتأثير الاجتماعي الإيجابي في ممارسات الإدارة الجيدة وكيفية عرض القيمة المضافة أمام المساهمين، ولعل جائحة "كوفيد-19" كانت خير دليل على أهمية المسؤولية الاجتماعية، حيث تحدث الكثير من الشركات الكبيرة عن أهمية امتلاك هدف اجتماعي مؤثر. وسبق أن أوضحنا في مقال بعنوان "فيروس كورونا يضع المسؤولية الاجتماعية للشركات أمام اختبار" أن الموظفين لا يصدقون أن شركتهم تمتلك هدفاً وقيماً واضحة إلا عندما تتخذ الإدارة قراراً يضحي بالربحية على المدى القصير من أجل التمسك بتلك القيم.
الرأسمالية الواعية والميزة التنافسية
من السهل على أصحاب الشركات الكبرى، وضع رؤية محددة تتمثل في تحقيق الدخل فقط، بدلاً من التركيز على تطوير المنتجات والخدمات التي تحل المشكلات البيئية أو المجتمعية. وعلى الرغم من حقيقة أن الشركات تهدف إلى تعظيم الأرباح، فإنه ما زال من الضروري أن تحافظ على علاقة جيدة مع البيئة الاجتماعية التي تعمل فيها. وتميل الشركات التي تستثمر في مسؤولياتها الاجتماعية إلى أن يكون لديها فرصة أكبر في النجاح. وبدأت بعض الشركات بالفعل في تبني مفهوم "الرأسمالية الواعية" من أجل الحفاظ على المسؤولية الاجتماعية والأرباح معاً. وهو المصطلح الذي صاغه رجل الأعمال والكاتب الأميركي "جون ماكي" (John Mackey) بالتعاون مع أستاذ التسويق "راج سيسوديا" (Raj Sisodia) في كتابهما الذي حمل عنوان: "الرأسمالية الواعية: إطلاق الروح البطولية للأعمال" (Conscious Capitalism: Liberating the Heroic Spirit of Business).
تنطوي فلسفة الرأسمالية الواعية على الاستمرار في تحقيق الأرباح بطرق تراعي مصالح جميع أصحاب المصلحة الرئيسيين عند اتخاذ القرارات، بما في ذلك البيئة والموظفين والمساهمين والعملاء.
يعتمد التزام الشركات تجاه أصحاب المصلحة على إدراك حقوقهم بالكامل وسياسة توزيع الأرباح، وهو ما أشار إليه الباحث الجزائري ناصر طهار من جامعة "حسيبة بن بوعلي" بالشلف في دراسته بعنوان "المراعي.. نموذج متميز في تطبيق المسؤولية الاجتماعية لمنظمات الأعمال في العالم العربي"، حيث تخصص الشركة السعودية 10% من الأرباح الصافية لتكوين احتياطي نظامي، بالإضافة إلى توزيع نسبة من الأرباح على أصحاب الأسهم الممتازة، وتحرص على الكفاءة في استدامة الوقود، والاستخدام المستدام للأراضي، ورعاية الحيوان، والحد من إهدار الموارد الطبيعة، إضافة إلى فهمها لمتطلبات المسؤولية الاجتماعية الفعّالة لمعرفة الأبعاد الاجتماعية للسياق التنافسي للشركة، وهي الروابط الخارجية التي تؤثر على قدرتها على تحسين الإنتاجية وتعزيز القيمة الاقتصادية.
كيف تتماشى المسؤولية الاقتصادية مع الدور المجتمعي للشركات؟
عندما تدمج الشركات أبعاد المسؤولية الاجتماعية في عملياتها، يمكن أن تتوقع عوائد مالية مرتفعة على استثماراتها، وعلى الرغم من ذلك، فإن الكثير من الرؤساء التفيذيين بالشركات لا يقدمون على هذه الخطوة إلا بوجود دراسة جدوى تضمن لهم النجاح.
أحد أسباب زيادة أرباح الشركات بعد دمج المسؤولية الاجتماعية للشركات في نموذج أعمالها هو أن العملاء ينتبهون إلى الطريقة التي تتفاعل بها الشركات مع القضايا الاجتماعية والبيئية، وغالباً ما يقاطعون الشركات ذات القيم السلبية. فما هو تأثير دمج المسؤولية الاجتماعية في زيادة أرباح الشركات؟
قيمة اقتصادية جوهرية
تحسن المسؤولية الاجتماعية من هوامش الأرباح، حيث تظهر الشركات المسؤولة اجتماعياً ممارساتها الأخلاقية في كيفية إدارتها للأعمال. كما تدرك الشركات أهمية الحفاظ على سمعة طيبة عبر تقديم منتجات وخدمات عالية الجودة بأسعار تنافسية، فضلاً عن خدمة العملاء الممتازة، ودعم ما بعد البيع، والمشاركة في القضايا المدنية.
في إطار تبني الشركات للمسؤولية الاجتماعية، فإنها تسعى باستمرار إلى إضافة قيمة اقتصادية جوهرية. ومن هذا المنطلق، تدرك شركات مثل "المراعي" أن تأسيس قواعد سليمة ضروري لنجاح الأعمال، فتجدها تسعى دائماً إلى رفع معدلات الكفاءة والربحية، وتهدف إلى تعزيز النمو من خلال زيادة الطاقة الإنتاجية وابتكار منتجات جديدة لتلبية الاحتياجات المتغيرة للمستهلك، وزيادة السيولة النقدية من خلال إدارة رأس المال والاستثمار بحكمة، وذلك في الوقت الذي تدرك فيه مسؤوليتها تجاه المستهلكين والمستثمرين والموظفين.
رفع نسبة الصادرات
يستخدم المستثمرون المحتملون، المسؤولية الاجتماعية للشركة كجزء من معايير تقرير الاستثمار في الشركة. وبالتالي تعد المسؤولية الاجتماعية للشركات أمراً مهماً لتعزيز قيمة الأسهم؛ ما يؤثر في جذب المستثمرين.
على سبيل المثال، تركز استثمارات شركة "المراعي" التي يفوق مجموعها 2.8 مليون ريال سعودي وفقاً للدراسة المذكورة، على تعزيز الإمكانات المحلية للمملكة العربية السعودية في مجال التصنيع وسلاسل التوريد والإمداد بالإضافة إلى خفض التكاليف؛ ما يمثل دليلاً واضحاً على رؤيتها وانعكاساً لثقتها في المستقبل، إذ تسعى الشركة إلى تحقيق الكفاءة الاقتصادية في مختلف قطاعاتها بما يحقق عائداً أكبر على استثماراتها.
ومن المتوقع أن تساعد الاستثمارات في دعم المجتمعات المحلية السعودية، بالتزامن مع طرح الشركة لمنتجات جديدة تحت علامتها التجارية في فئة العصائر، وتغذية الأطفال، والدواجن والمخبوزات، بالإضافة إلى اكتشاف الفرص الجديدة للنمو؛ ما يضمن رفع نسبة صادرات السعودية.
ختاماً، لكي تكون مسؤولاً اجتماعياً، تحتاج أحياناً إلى تحويل انتباهك إلى عملك الخاص ومحاولة تقليل أي آثار سلبية أو ضارة محتملة له، كما فعلت "ستاربكس" بالضبط، حيث اتخذت خطوات نحو جعل إنتاج القهوة أكثر ملاءمة للبيئة، أو يمكنك معالجة التحديات الإنسانية إثر الظواهر الطبيعية كما فعلت "سيسكو" بعد إعصار "ماريا"، كما يمكنك أن تحافظ على صورتك الإيجابية في السوق والعمل على تنويع مصادرك وجذب استثمارات جديدة مثلما تفعل "المراعي". لكن الأهم أن يكون الدافع الحقيقي للمسؤولية الاجتماعية هو مساعدة الغير، وليس وسيلة فقط للتحايل من أجل تحقيق الربح. فالعالم أصبح أكثر وعياً الآن.
نُشر المقال استناداً على أبحاث من منصة ساهم