ما الذي يمكن فعله من أجل تحسين بيانات الحوكمة الاجتماعية؟

13 دقيقة
الحوكمة البيئية والاجتماعية

هل الكوكب أكثر أهمية حقاً من الناس؟ وفقاً لشبكة سي إن بي سي (CNBC) الإخبارية، فإن معظم مدراء الأموال الذين يستخدمون عوامل الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) في التحليلات الاستثمارية الخاصة بهم، يركزون على الحوكمة البيئية أو التغير المناخي باعتبارها المعيار الرئيسي عند اتخاذ قراراتهم. ولكن ماذا بشأن الحوكمة الاجتماعية أو البعد الاجتماعي لتأثير الشركات؟ كما قال لي أحد مدراء الصناديق الاستثمارية في محادثة جرت مؤخراً: "الكوكب ليس بالضرورة أكثر أهمية من البشر، الأمر فقط أن قياس التأثير عليه أسهل. فالمستثمرون يحبون قياس الأشياء التي يمكنهم وضعها في نماذجهم، وكمية الكربون سهلة التحديد للغاية".

إن تحديد كمية التأثير الاجتماعي هو تحد ضخم بدون شك. وقد كشفت دراسة استقصائية عالمية بشأن الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات لعام 2021 أجراها بنك بي إن بي باريبا (BNP Paribas) أن 51% من المستثمرين الذين شملهم الاستقصاء (شمل 356 مؤسسة) وجدوا أن الحوكمة الاجتماعية هي الأكثر صعوبة في التحليل والدمج ضمن استراتيجيات الاستثمار. وخلص التقرير إلى أنه: "يصعب الحصول على البيانات وهناك نقص حاد في توحيد المعايير عندما يتعلق الأمر بالمقاييس الاجتماعية… كان المستثمرون مستعدين لقبول البيانات التي لا تفيد كثيراً في تقييم الأداء الاجتماعي للشركات التي يستثمرون فيها بشكل فعلي". فبالنسبة لمعظم المستثمرين، الحوكمة الاجتماعية لا تتجاوز التأشير على بند في قائمة مهام.

لذا، ما الذي يمكن فعله من أجل تحسين بيانات الحوكمة الاجتماعية؟

معنى الحوكمة الاجتماعية

أولاً ، نحتاج إلى فهم كيفية تحديد القطاع للحوكمة الاجتماعية حالياً؛ حيث وصف المعلقون والمستثمرون الحوكمة الاجتماعية بعدة طرائق مختلفة: فهي القضايا الاجتماعية، ومعايير العمل، وحقوق الإنسان، والحوار الاجتماعي، والمساواة في الأجور، والتنوع في مكان العمل، وتوفر الرعاية الصحية، والعدالة العرقية، ومشاكل جودة المنتج وخدمة الزبائن، وأمان البيانات، والعلاقات الصناعية، ومشكلات سلسلة التوريد. تصف وكالة إس آند بي (S&P)، وهي إحدى الوكالات الرائدة في تقييم أنشطة الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، الحوكمة الاجتماعية من حيث العوامل الاجتماعية التي تشكل خطراً على الأداء المالي للشركة.

تحدد إس آند بي في منشور مدونة بعنوان "ما معنى حرف S في ESG؟ (?What is the 'S' in ESG)" ثلاثة أنواع لمشاكل الحوكمة الاجتماعية:

  1. كيف يمكن لمتطلبات القوى العاملة وتكوينها في شركة ما أن تسبب مشاكل للمؤسسة في المستقبل؟ يمكن أن تؤثر الإضرابات العمالية أو احتجاجات المستهلكين مباشرةً على ربحية الشركة، حيث أنها قد تتسبب بندرة الموظفين المهرة أو تثير جدلية تضر بسمعة الشركة.
  2. ما المخاطر المرافقة للآثار المترتبة على السلامة لمنتج ما أو لسياسات سلسلة التوريد الخاصة بشركة ما؟ إن الشركات التي تضمن أن منتجاتها وخدماتها لا تشكل مخاطر على السلامة، أو تقلل من التعرض للصراعات الجيوسياسية في سلاسل التوريد الخاصة بها، أو تحقق الأمرين معاً، تميل إلى مواجهة تقلبات أقل في أعمالها.
  3. ما هي التغييرات الديموغرافية أو الاستهلاكية المستقبلية التي يمكن أن تقلص سوق منتجات شركة ما أو خدماتها؟ إن الديناميكيات الاجتماعية المعقدة، بدءاً من طفرات الرأي العام عبر الإنترنت إلى الإضرابات المادية ومقاطعة الشركات من قبل مجموعات مختلفة، تؤثر على التحولات طويلة الأمد في تفضيلات المستهلك. يمكن لصناع القرار اعتبار هذه المؤشرات كمؤشرات مهمة لإمكانيات الشركة.

تبدو هذه المشاكل خليطاً مربكاً؛ فالخط المباشر المزعوم كما تضعه إس آند بي هو "العلاقات بين الشركة والأشخاص أو المؤسسات خارجها"، وهذا تعبير مبهم للغاية وقد يعبر عن أشياء كثيرة. ويمكن للمرء أن يجادل بأن هذا النقص في الدقة وعدم تعريف الحوكمة الاجتماعية بوضوح هو سبب رئيسي لإهمالها في عملية القياس.

لكن هناك قضية وجودية أعمق تحدث هنا؛ فوكالات التصنيف مثل موديز (Moody’s) وإس آند بي تنظر إلى الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) بشكل محصور تقريباً من منظور الأهمية النسبية أو التقدير المادي (أي المعلومات التي تؤثر على الأداء المالي للشركة). وهذا منطقي لأن العمل الأساسي لهذه الوكالات هو تصنيف ديون الشركات والبلديات، والشغل الشاغل لأي مستثمر فيما يتعلق بالديون هو بالطبع سدادها. إن تحليل المخاطر يركز على احتمالية التسديد. وتكمن المشكلة في أن معظم الفائدة في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) ليست من المقرضين الذين يقومون بتقييم مخاطر الائتمان، بل من المستثمرين الذين يقومون بتقييم مخاطر الأسهم. وإن مستثمري الأسهم يسعون إلى تضخيم عوائدهم، وليس فقط تخفيف المخاطر التي تواجههم. في الواقع، من غير المرجح أن يساعد تخفيف مخاطر التعرض للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات المستثمرين على المراهنة بشكل مؤكد على الشركات التي ستتفوق في الأداء على السوق. وكما أشارت شركة ستيت ستريت غلوبال أدفايزرز (State Street Global Advisors)، "تميل معلومات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) إلى أن تكون الأكثر فاعلية في تحديد الشركات الضعيفة الأداء في هذا السياق، والتي من المرجح أن يتراجع أداؤها أكثر بالمقارنة مع الشركات التي من المتوقع أن يتحسن أداؤها في المستقبل".

لا تقتصر طبيعة التأثير الاجتماعي على المخاطر فقط، بل تتعلق أيضاً بالسلوك الاجتماعي. وبمعنى آخر، يُمكن لإجراءات شركة ما وسياساتها واستثماراتها أن تؤثر إيجاباً على حياة الناس، بل وينبغي لها ذلك. بالطبع هناك تأثيرات اجتماعية مثل انتهاكات حقوق الإنسان، وعلاقات العمل، ومخاطر سلسلة التوريد التي يمكن أن تؤثر سلباً على رخصة الشركة واستقرارها المالي، وهذه التأثيرات مهمة. ولكن هناك أيضاً العديد من التأثيرات الاجتماعية التي يمكن أن تؤثر إيجاباً على الأداء المالي للشركة من خلال الميزة التنافسية، ونمو الشركة، وأهمية السوق، والهدف من العلامة التجارية، وتأمين رخصة العمل. والتأثيرات الاجتماعية الإيجابية لا يتم احتسابها في بيانات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في يومنا هذا. ومع ذلك، كما أشار لاري فينك عام 2019 في رسالته إلى الرؤساء التنفيذيين، فإن الأرباح والتأثير الاجتماعي "مرتبطان ارتباطاً وثيقاً".

جادل مايكل بورتر، وجورج سيرافيم، ومارك كرامر، في مقال نشر عام 2019 بعنوان "أين تفشل الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات" (Where ESG Fails)، بأن "المستثمرين الذين [يريدون التغلب على السوق]، وكذلك أولئك الذين يهتمون حقاً بالقضايا الاجتماعية، من الواضح أن الركب قد فاتهم من خلال تجاهل الدوافع الأساسية للقيمة الاقتصادية الناشئة عن قوة التأثير الاجتماعي الذي يحسن عوائد أصحاب المصلحة".

حلول تعزيز الحوكمة الاجتماعية

يجب على مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات أن يطور الطريقة التي يقيس بها الحوكمة الاجتماعية، في سبيل أن يبقى مواكباً لما يجري. وللقيام بذلك، علينا التغلب على العديد من التحديات المفاهيمية الرئيسية، مثل التوحيد القياسي، والقياس الكمي، وإعداد التقارير.

التوحيد القياسي. إن أحد أكبر التحديات التي تواجه قياس التأثيرات الاجتماعية هو غياب معيار كمي موثوق للقياس. ونتيجة لذلك، تقوم كل شركة (ومؤسسة غير حكومية) بتعريف كل تأثير اجتماعي وقياسه والإبلاغ عنه بطريقة مختلفة. وهذا يُنتج عنه لدى المستثمرين بيانات غير ذات قيمة وغير موثوقة وغير قابلة للمقارنة، والتي لا يُمكنهم استخدامها في النماذج المالية. وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات لوضع أطر عمل للإبلاغ عن التأثيرات الاجتماعية، إلا أن معظمها لم تؤدِّ الغرض المطلوب.

تعد أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي وضعتها الأمم المتحدة من بين أبرز أطر العمل المزعومة هذه. ومع ذلك، فإن دراسة أجرتها شركة كيه بي إم جي (KPMG) عام 2018 بعنوان "كيفية الإبلاغ عن أهداف التنمية المستدامة: ما الذي يبدو جيداً ولماذا يعد الأمر مهماً" (How to report on the SDGs: What good looks like and why it matters)، وجدت أن 10% فقط من الشركات المُشاركة في الاستقصاء قد وضعت أهدافاً محددة وقابلة للقياس (وفق معيار سمارت SMART) لأداء الشركة تتعلق بالأهداف العالمية، كما أن نسبة أقل من 8% (شركة واحدة من بين كل عشر شركات) قد وضعت دراسة جدوى لاتخاذ إجراءات بشأن أهداف التنمية المستدامة. لماذا هذا هو الحال؟ وضعت أهداف التنمية المستدامة بشكل أساسي لتتبع الإحصائيات الوطنية على مستوى السكان مثل "معدل الوفيات المنسوبة إلى التسمم غير المتعمد" أو "خفض المعدل  العالمي لوفيات الأمهات أثناء الولادة إلى أقل من 70 وفاة من بين كل 100000 ولادة". فأهداف التنمية المستدامة غير مصممة ليسند إليها أي برنامج أو تدخل اجتماعي منفصل بشكل مباشر. بالإضافة إلى ذلك، تم تصميم أهداف التنمية المستدامة بهدف تعزيز جدول أعمال الأمم المتحدة للتنمية العالمية عبر تركيز الانتباه على الموضوعات ذات الأولوية العالية مثل الصيد الجائر، وخفض معدلات الفقر، والسياحة المستدامة، والمياه النظيفة والصرف الصحي، وتقليل تداولات الأسلحة غير المشروعة، وما إلى ذلك. وبالرغم من أن هذه قد تكون أهدافاً سياسية مهمة وضعتها الأمم المتحدة، إلا أنها ليست ذات أهمية متوافقة عالمياً مع كل الشركات والمجتمعات.

يحتاج قطاع الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات إلى معيار موضوعي للإبلاغ عن النتائج الاجتماعية. فالمعايير المستندة إلى النتائج مُصممة لقياس مقدار التغيير الاجتماعي الذي تم تحقيقه نتيجة لبرنامج أو استراتيجية أو تدخل ما. ويُمكن أن يتم استخدام معيار الحوكمة الاجتماعية المستند إلى النتائج طواعية من قبل الشركات والمؤسسات غير الحكومية لتتمكن هي نفسها من اختيار أي النتائج التي ترغب في الإبلاغ عنها. كما يمكن للمستثمرين أيضاً استخدام بيانات النتائج لإجراء تحليل أكثر دقة للتأثير الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، قد يقوم المستثمرون بتحليل ما إذا كانت التأثيرات التي يتسببون بها تؤثر على مجتمع مقر الشركة الرئيسي أو على نطاق أوسع. أو إذا كانت هذه التأثيرات تصب في صالح التوظيف، أو نمو الشركة، أو الميزة التنافسية، أو التنوع، أو الابتكار، أو تطوير السوق، أو صحة الموظفين. أو ما هي قيمة المال أو الجهد أو عائد الاستثمار الذي ولّدته الشركة على الأموال التي استثمرها أصحاب المصلحة. أو كيف يبدو هذا العائد بالمقارنة مع الشركات الأخرى أو بمتوسط القطاع. أو أي المجتمعات أو الفئات السكانية التي كانت أكثر تأثراً بهذه التأثيرات. فإن قوة بيانات التأثير الاجتماعي الموحدة قياسياً والقابلة للمقارنة، ستؤدي إلى ظهور مستوى جديد تماماً من تحليلات الحوكمة الاجتماعية والذي سيكون أكثر دقة وحسماً وملاءمة.

القياس الكمي. بعد التوحيد القياسي للتأثيرات الاجتماعية وتصنيفها، يجب أن يتم قياسها كمياً بشكل مناسب. ففي قطاع الحوكمة البيئية، تحدد الهيئات المستقلة مثل فيرا (Verra) معايير قياس "وحدات" التأثير البيئي مثل انبعاثات الغازات الدفيئة. وتُشير فيرا إلى هذه الوحدات المعيارية باسم "وحدات الكربون المضبوطة" (Verified Carbon Units. VCUs). حيث تم وضع قواعد ومنهجيات صارمة لضمان اتساق البيانات وموثوقية ضمن المشاريع المختلفة والمتنوعة. فعلى سبيل المثال، يتم قياس محطة التوليد المشتركة القائمة على حزمات قشور الأرز بقدرة 1.6 ميجا واط في الهند مقابل نفس النتيجة من وحدات الكربون المضبوطة (VCUs) لمشروع تعويض الكربون في غابة أفوغناك في ألاسكا.

ويُمكن إجراء القياس الكمي للنتائج الاجتماعية بطريقة مشابهة؛ حيث يجب أن تضع المعايير عتبات لما يشكل "وحدة" تأثير لنتائج مثل الجوع والتعليم والتوظيف. وعلى غرار طريقة عمل أرصدة الكربون، يُمكن "لمطور التأثير" (مثل أية شركة أو مؤسسة غير حكومية أو مؤسسة اجتماعية) الإبلاغ عن البيانات والتحقق من نتائجها وفقاً لهذا المعيار. فعلى سبيل المثال، قد تزعم شركة ما أنها ساعدت 1000 عائلة في أن تصبح "آمنة غذائياً" عبر تقديم أدلة على أن كل عائلة حققت المستوى العتبي المعياري لهذه النتيجة (مثل الوصول المستمر للأطعمة الصحية المغذية، على مسافة قريبة نسبياً من مكان سكن الأسرة، بمعدل مجاني أو يمكن تحمل نفقاته).

باستخدام مثل هذا المعيار، يمكن بسهولة لمحللي الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات تقدير التأثير الكلي للشركة وحساب تكلفته على المجتمع. ويُمكن للمستثمرين وأصحاب المصلحة الآخرين في الواقع تقييم مستوى مساهمة شركة ما في قضية اجتماعية حرجة. ويُمكن أن تتم مقارنة الشركات من قبل القطاع أو على مستوى قطاعات متعددة. يُمكن استخدام القياس الكمي أيضاً لوضع سعر ومقياس معياري للتأثير الاجتماعي. تخيل أن نتمكن من وضع قيمة على وحدة التأثير الاجتماعي، والتعامل مع أرصدة التأثير الاجتماعي مثلما نفعل مع أرصدة الكربون. وكما أشار سكوت كيربي، الرئيس التنفيذي لشركة يونايتد إيرلاينز (United Airlines) مؤخراً في مقابلة أجراها مع شبكة سي إن بي سي (CNBC): "إذا وضعت سعراً على الكربون، فالأسواق العامة ستتعلم الأمر". وقد حان الوقت لنضع سعراً للحوكمة الاجتماعية وندع الأسواق العامة تتعلم هذا الأمر أيضاً.

الإبلاغ. في المنظور التقليدي للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG)، تدور التقارير حول الكشف عن المخاطر "المادية". ولكن كما أشار العديد من الباحثين، هناك جوانب سلبية وإيجابية للأهمية المادية. حيث أن بعض الأنشطة تخلق مخاطراً مادية والتي قد تؤثر سلباً على الإفصاح عن أداء الشركة واستحقاقاتها. وفي الوقت نفسه، تخلق بعض أنشطة الشركات فوائد مادية يمكن أن تؤثر إيجاباً على أداء الشركة. وفي الواقع، فإن الرأي القائل بأن الأهمية المادية تعني فقط المخاطر المادية لا يتوافق مع الطريقة التي تعرف بها الأسواق المالية السائدة هذا المفهوم. حيث أن لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، بالاعتماد على تاريخ طويل من السوابق القانونية الحالية، تُعرّف المعلومات على أنها "مادية" بموجب قواعدها للإفصاح الانتقائي والتداول الداخلي (Selective Disclosure and Insider Trading Rules) إذا كان هناك "احتمال كبير أن يعتبرها صاحب مصلحة عقلاني على أنها مهمة" في عملية اتخاذ قرار الاستثمار. وليس هناك ما يشير إلى أن المخاطر أو العوامل السلبية فقط هي المؤهلة للإفصاح عنها. في الواقع، تستند العديد من دعاوى التداول الداخلي التي رفعتها هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية إلى معلومات إيجابية مادياً والتي ساهمت في تحقيق مكاسب مالية كبيرة.

في سبيل الإبلاغ عن الحوكمة الاجتماعية، يجب على قطاع الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات توسيع نظرته للمادية. أنشأ مجلس المعايير المحاسبية للاستدامة (SASB) في البداية "خريطة الأهمية المادية" في عام 2014 لمساعدة المستثمرين على تحديد مشاكل الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات التي يمكن أن تؤثر سلباً على الأداء المالي للشركة. اليوم، يحتاج سوق الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) أيضاً إلى "خريطة التأثير المادي" لمساعدة المستثمرين على تحديد تأثيرات هذه الحوكمة التي تؤثر إيجاباً على الأداء المالي للشركة. يمكن لخريطة التأثير المادي أن تساعد المستثمرين على تحديد التأثيرات الاجتماعية الأكثر استراتيجية وفائدة للشركات في القطاع. فعلى سبيل المثال، إن تحسين مسار تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات قد يؤثر مادياً على الابتكار والنمو في شركات التكنولوجيا. وبالنسبة لبائعي البقالة بالتجزئة، يمكن أن يؤثر الأمن الغذائي والزراعة المستدامة مادياً على إجمالي المبيعات. وبالنسبة لشركات الخدمات المالية، يمكن للشمول المالي توسيع قاعدة عملائها واختراقها للسوق. أما بالنسبة لشركات الرعاية الصحية، فالعوامل الاجتماعية المحددة للصحة قد تؤثر مادياً على هيكل التكاليف لديها وعلى رفاه المرضى. وهكذا دواليك. إن هذه التأثيرات الاجتماعية تؤثر "مادياً" على أداء الشركة بقدر ما هي قضايا اجتماعية محفوفة بالمخاطر. حيث يمكن للتأثيرات الاجتماعية الإيجابية أن تكون أيضاً بمثابة تخفيف للمخاطر بالنسبة للقضايا الاجتماعية المحفوفة بالمخاطر. خذ بعين الاعتبار مثلاً تأثيرات التنوع والمساواة والشمول. يمكن للاستثمار الإيجابي للشركة في نتائج التنوع والمساواة والشمول (وليس فقط رفع عدد الموظفين)، أن يكون ذا تأثير كبير على التخفيف من فقدان المواهب وتقليل المخاطر التي تتعرض لها سمعة الشركة. ومن المحتمل أن تكون هذه التأثيرات مادية أكثر من الحد من تغير المناخ بالنسبة لشركات الخدمات المالية، التي تواجه بالفعل مخاطر كبيرة تتعلق بسمعتها في مجتمعات أصحاب البشرة السمراء.

هناك بعض التأثيرات الاجتماعية التي تنشأ كتأثيرات مادية على صعيد عالمي لكافة الشركات. وهذه التأثيرات يمكن أن تتغير وستتغير بمرور الوقت، اعتماداً على الديناميكيات الاجتماعية والسياسية. ومن بين هذه "العوامل الكلية للتأثير الاجتماعي":

  1. الصحة العامة ومحدداتها الاجتماعية. مما تعلمناه من جائحة كوفيد-19 أن أزمات الصحة العامة الكبرى يمكن أن تؤثر على كل عمل تجاري وكل قطاع وكل منطقة جغرافية. ويمكن أن يكون لكيفية استجابة الشركات لاحتياجات الصحة العامة ومعالجتها تأثير كبير على نجاة هذه الشركات ونجاحها. ومن القضايا المرتبطة هي المساواة الصحية، أو العوامل الاجتماعية المحددة للصحة. وإن تأثير عوامل مثل الإسكان والصحة المالية ورأس المال الاجتماعي، بالإضافة إلى أمور عديدة أخرى، على المرض المزمن وإنتاجية الموظفين وصحة المستهلك، يرتبط ارتباطاً مباشراً بجميع الشركات.
  2. المساواة العرقية. الأمر هنا أكثر من مجرد مسألة مخاطرة وسمعة؛ ففي سبيل المنافسة والنمو، على الشركات التركيز على الشمول في قوتها العاملة، والاستجابة للعنصرية في المجتمع ككل وجعل منتجاتها وخدماتها في متناول جميع المجتمعات بشكل عادل. وهذا يؤثر على المبيعات والشراكات التجارية والقوانين الحكومية وأداء الموظفين والمكانة التنافسية.
  3. مستويات الدخل المتفاوتة والشمول المالي. من بين جميع الأسر الأميركية، يُعتبر ما يقرب من 44% أو نحو 50 مليون شخص من ذوي الدخل المنخفض، وفقاً لمؤسسة بروكينغز (Brookings Institute). وهذا قطاع كبير جداً من السوق. وعلى صعيد عالمي، فهذا الرقم أكبر بكثير؛ حيث أن 71% من سكان العالم ما زالوا منخفضي الدخل أو فقراء، حيث يعيشون على مبلغ 10 دولارات أو أقل في اليوم، وفقاً لمركز بيو للأبحاث (Pew Research Center). وفي سبيل النمو والازدهار، يجب أن تكون الشركات قادرة على إيجاد طرق لتضمين هؤلاء السكان المهمشين في الاقتصاد وتوسيع نطاق منتجاتهم وخدماتهم.
  4. تطوير القوة العاملة. يعد تطوير مجموعة متنوعة من المواهب أمراً بالغ الأهمية لكل قطاع وكل شركة. فهو ليس مجرد تأثير اجتماعي إيجابي، بل إنه عائق رئيسي أمام نمو الشركات. لا تستطيع شركة كامينز (Cummins)، إحدى أكبر الشركات المصنعة لمحركات الديزل، خدمة عملائها في إفريقيا من دون فنيين مدربين. ولا يمكن لشركة بوينغ (Boeing) بناء المزيد من الطائرات دون خريجي برنامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات القادمين من المدارس العامة. ووفقاً لـ جينيريشن تي (Generation T) (وهي مبادرة من شركات لوز)، ستظل أكثر من ثلاثة ملايين وظيفة في مجال المهارات التجارية شاغرة حتى عام 2028، ما سيؤثر بشكل كبير على نمو أعمالهم. فإن تنمية القوى العاملة في البلاد، لا سيما من خلال تضمين السكان المحرومين من الخدمات، لها تأثير مباشر على نمو كل الأعمال تقريباً.

يُمكن للتأثيرات الاجتماعية أن تكون أكثر أو أقل "مادية" بالنسبة لأصحاب المصلحة المختلفين، مثل الموظفين والزبائن والمزودين وأفراد المجتمع. وستظهر المزيد من التحليلات للأهمية المادية للتأثير الاجتماعي عندما تصبح هذه البيانات متاحة بسهولة لمجتمع محللي الاستثمار.

مستقبل الحوكمة الاجتماعية

لقد أصبحت الأسواق متشبثة بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وسيزداد الطلب على بيانات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) أكثر وأفضل في السنوات المقبلة. وقد وضع نجاح بيانات الحوكمة البيئية حجر الأساس لسوق كربون مزدهر، وخاصة سوق الكربون الاختياري. كما أنه أثبت أن السلع غير الملموسة يمكن وضع معايير لها وتسعيرها والاتجار بها. وهذا قد يؤدي وسوف يؤدي إلى تأثير أكبر على البيئة من مجرد المناصرة أو الجهود الخيرية. في الواقع، الأموال المتداولة عبر الأسواق يومياً أكثر مما تنفقه جميع حكومات العالم سنوياً. ويجب على الأسواق كي تعمل بكفاءة أن تعتمد على بيانات بسيطة مستمرة وموثوقة. ولكن على هذه البيانات أن تدل على شيء ما. فالإحصائيات الخالية من المعنى ليس لها أثر يذكر. وقد حان الوقت كي تقدر الأسواق الحوكمة الاجتماعية بقدر ما تقدر الحوكمة البيئية وحوكمة الشركات، والعائق الوحيد أمام تحقيق ذلك هو الحصول على بيانات أفضل.

هناك ثلاث خطوات عملية يمكن للمستثمرين ووكالات التصنيف والشركات القيام بها لزيادة أهمية الحوكمة الاجتماعية في الأسواق:

الخطوة الأولى والأهم، يجب أن تبدأ الشركات بالإبلاغ عن بيانات تأثير الحوكمة الاجتماعية بشكل مستمر. يجب على المعايير أن توضع من الأدنى صعوداً. ليست هناك حاجة لانتظار وكالات التصنيف لتلحق بالركب أو لواضعي المعايير كي يتكيفوا. فبغض النظر عن هذه الجهات الفاعلة، لدى الشركات واجب أمانتها المهنية المستقل لقياس معلومات الحوكمة الاجتماعية المادية والإفصاح عنها لأصحاب المصلحة. لذا يجب أن تبدأ الشركات طواعية في القياس والإبلاغ عن تأثيرات الحوكمة الاجتماعية الخاصة بها والتحقق منها بشكل مستقل. ويمكن تضمين هذه البيانات في تقارير الشركة عن الاستدامة ونماذج 10-K الخاصة بها. يمكن أيضاً الإبلاغ عنها بشكل استباقي لوكالات التصنيف مثل إم إس سي آي (MSCI) ودي جيه إس آي (DJSI) وساستيناليتيكس (Sustainalytics) وموديز (Moody’s) وغيرها. وسيكون لقطاع الشركات تأثير أكبر بكثير على المعايير الموضوعة إذا ما بدؤوا في إنتاج البيانات الأساسية الآن بدلاً من انتظار موافقة العالم عليها.

ثانياً، يجب على مستثمري الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) البدء في السؤال عن بيانات تأثير الحوكمة الاجتماعية وجعلها إحدى المتطلبات. يطلب المستثمرون المؤثرون هذه البيانات بالفعل، مثل فورثلين بارتنرز (Forthlane Partners) في تورونتو، وبايلي غيفورد (Baillie Gifford) في إدنبرة، وبلانيت فيرست بارتنرز (Planet First Partners) في لندن. لكن العملية لا تزال يدوية، والبيانات المطلوبة غير متسقة، وتحليل الحوكمة الاجتماعية لا يرتبط ارتباطاً مباشراً بأداء الشركة كما يُمكن أن يكون. وعبر الاجتماع معاً حول معيار موحد للحوكمة الاجتماعية، ستتدفق البيانات بسهولة أكبر وبأعباء أقل على شركات المحفظة الاستثمارية. وبمرور الوقت، وبوجود القيادة الصحيحة، سينضم مستثمرون آخرون ويطلبون نفس بيانات الحوكمة الاجتماعية القياسية. وصناديق المنح التي تبدأ في استخدام هذه البيانات مبكراً ستكتسب أفضلية كبيرة على المنافسين. ومن المرجح أيضاً أن تجتذب رؤوس أموال جديدة بشكل أسرع من الصناديق العادية للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) التي تكافح للإجابة على السؤال الأساسي للعديد من المستثمرين هذه الأيام: "ما هو التأثير الذي تُحدثه أموالي؟"

أخيراً، يجب على وكالات تصنيف الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) وهيئات وضع المعايير ومقدمي البيانات التوافق مع مزود متخصص في بيانات الحوكمة الاجتماعية لرفع مستوى قيمة بياناتهم. إن بيانات تأثير الحوكمة الاجتماعية معقدة، ولا يمكن الحصول عليها ببساطة عبر إجراء استقصاء بأسئلة اختيارات متعددة. حيث أن بيانات الحوكمة الاجتماعية الموثوقة عالية القيمة تتطلب تصنيفات واستبيانات وتوثيقاً مستقلاً. سيؤدي هذا أيضاً إلى إنشاء مستوى جديد تماماً من تحليل الحوكمة الاجتماعية في معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG)، الذي دعا له دعاة القيمة المشتركة والباحثون الأكاديميون منذ فترة طويلة. وباستخدام بيانات تأثير الحوكمة الاجتماعية، يمكن لوكالات التصنيف وغيرها أن تبدأ الآن في تقييم الميزة التنافسية لشركة ما، وإمكانات نموها، ومرونة الموظفين، والوصول إلى أسواق جديدة، وإنتاجية سلسلة القيمة المحسنة، وبيئة التشغيل المحسنة.

اعتباراً من اليوم، فإن حوالي 21% من أكبر 2000 شركة عامة في العالم، أي نحو خُمس العدد الكلي، قد التزمت بتحقيق أهداف صافي انبعاثات كربونية صفري. وإن تقليل الانبعاثات الكربونية وخفض أخطار التغير المناخي بالنسبة للمستثمرين، إنجاز ضخم للغاية. ولكن لتحقيق الاستدامة الفعلية، علينا أيضاً تحسين نوعية حياة الأشخاص الذين يعيشون على هذا الكوكب. فنحن لا نستطيع إدارة ما لا يُمكننا قياسه. لقد حان الوقت لرفع مستوى قياس التأثير الاجتماعي، وإنشاء بيانات حوكمة اجتماعية أفضل وإعطاء السوق شيئاً لتسعيره في نماذجهم. حان الوقت لننتقل من حساب صافي الانبعاثات الكربونية الصفرية إلى حساب صافي التأثير.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي