التعليم العالي حلم راود الشاب السوري فواز الشغوف بعلم الأحياء والموسيقى، لكن الواقع اليومي الفوضوي في سوريا كما يصفه، والمتمثل بنقص الغذاء، وانقطاع الكهرباء، وتشتت أفراد الأسرة في كل أنحاء العالم بحثاً عن عمل أو ملجأ، حرمه من تفاصيل كثيرة، ليتمكن بعدها من الحصول على منحة دراسية لمدة عام في إحدى الجامعات الألمانية، لكنه عانى من التحيز والعبء المالي، فبعد حصوله على الشهادة لم يتبقى لديه سوى 500 يورو.
أصرّ فواز على مواصلة حلمه، وعمل بدوام جزئي في أحد مراكز الأبحاث في مدينة بون لتغطية نفقات معيشته، والتحق بتدريب غير مدفوع الأجر في مجال المعلوماتية الحيوية في مدينة كولونيا، واستطاع الانضمام إلى برنامج الماجستير في هذا المجال، لكن ما زال عبء العمل والضائقة المالية تثقل كاهله، إلى أن حصل على قرض من منحة جسور للدعم المادي بقيمة 5 آلاف دولار بدون فوائد، مكّنه من إنهاء دراسته الجامعية.
جائزة صغيرة أو منحة دراسية تشكل دافعاً قوياً للشخص لمتابعة أحلامه، هذا ما تفعله مؤسسات مثل جسور لتدعم طاقات الشباب اللاجئين ومواهبهم، وتثبت قدرتهم على إحداث التغيير في أنفسهم والمجتمع.
لا تزال منطقة الشرق الأوسط تعاني في مواجهة أسوأ الأزمات الإنسانية وأزمات النزوح في العالم، فبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ضم العراق في عام 2020 أكثر من 283 ألف لاجئ وطالب لجوء معظمهم من سوريا، وما يزيد عن 241 ألف لاجئ وطالب لجوء عراقي مسجلين لدى المفوضية، مقابل نحو 31 ألف عراقي من غير المسجلين يعيشون في مخيمات في محافظة الحسكة الواقعة في شمال شرق سوريا.
وتمثل سوريا أكبر أزمة إنسانية وأزمة لاجئين في العصر الحالي، مع نزوح ما يزيد عن 6.7 مليون سوري داخل البلاد، واستضافة تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر لما يقارب 5.5 مليون لاجئ، واعتباراً من بداية عام 2021، أشارت تقديرات مفوضية شؤون اللاجئين إلى أن نحو 13 مليون شخصٍ في سوريا بحاجة إلى مساعدات إنسانية؛ بزيادة تقارب مليوني شخص مقارنةً بمطلع عام 2020.
من هنا بدأت الأنظار تتجه نحو إنشاء مؤسسات اجتماعية يمكن أن تساعد الشباب اللاجئين في تجاوز عقبات هذه الأزمة الإنسانية وتوفر الأدوات التي تمكنهم من مواكبة طموحهم العلمي والعملي، وتغيير نظرة المجتمع الحاضن لهم من خلال إثبات قدرتهم على التغيير طالما تُتاح لهم الفرص، وفيما يلي أبرز ثلاث مؤسسات اجتماعية لدعم اللاجئين:
1- جسور
في عام 2013 انطلقت مؤسسة جسور، لكن فكرتها تولّدت لدى مجموعة صغيرة من المغتربين السوريين قبل بداية الأزمة السورية عام 2011، وتهدف المؤسسة إلى إطلاق طاقات المغتربين السوريين حول العالم من خلال برامج أكاديمية للطلاب، وبرامج مهنية للشباب، وبرامج لدمج مجتمع المغتربين السوريين في جميع أنحاء العالم.
واستطاعت جسور خلال ستة أعوام من انطلاقها جمع تبرعات بقيمة 5.6 مليون دولار لدعم الشباب السوري، وساعد التزام المؤسسة ومصداقيتها على تشجيع المانحين وزيادة الدعم، إذ يشكّل المانحون 51% من تمويل المؤسسة، ولا يقتصر الدعم على التمويل فحسب، وإنما تساهم بعض الشركات متعددة الجنسيات في المنطقة وخارجها بوقتها ومواردها الفكرية لتنفيذ برامج المؤسسة، وتضم الشبكة نحو 136 ألف منتسب في نحو 50 بلداً، ووفرت مقاعد دراسية لأكثر من 500 طالب في جامعات كندا وأوروبا والشرق الأوسط وأسيا وأميركا، ووفقاً للمؤسسة، مكنت 669 طالباً من دخول الجامعات واختيار الاختصاصات التي تنسجم مع طموحاتهم وقدراتهم، وقدمت لهم النصح حول القرارات الأكاديمية التي ستحدد مسارهم المستقبلي
وتعزز جسور مجتمع اللاجئين من خلال برامجها التي تركز على المحاور التالية:
- تقديم المنح: يواجه اللاجئون مشكلة في الحصول على التعليم أو استكماله، إذ استطاع 3% فقط من اللاجئين حول العالم متابعة دراستهم في مرحلة التعليم العالي، وتمكن 5% فقط من الأطفال اللاجئين السوريين من دخول المدارس الثانوية، لذا أطلقت جسور برنامج المنحة الدراسية لتمكين السوريين من الحصول على الشهادات الجامعية والثانوية، وعقدت 34 شراكة جامعية في 21 دولة، ليصل عدد الخريجين إلى 650 منذ إطلاق البرنامج حتى عام 2021.
ودعمت جسور تعليم المرأة من خلال برنامج 100 امرأة سورية الذي يقدم منحاً دراسية للسوريات في أوروبا وأميركا الشمالية، ومكّنت اللاجئين السوريين في الأردن من مواصلة تعليمهم الجامعي عبر إطلاق صندوق جسور-أمل للمنح الدراسية.
- التشجيع على ريادة الأعمال: من خلال برنامج ريادة الأعمال، تقدم جسور لروّاد الأعمال السوريين التدريب والموارد المعرفية اللازمة لإطلاق مشاريعهم الناشئة، وتتمثل جوانب البرنامج في تنظيم جلسات جماعية عبر الإنترنت لإرشاد روّاد الأعمال وتقديم المشورة لأصحاب المشاريع الناشئة، وإنشاء معسكر تدريبي لمدة أسبوعين حول إعداد نماذج الأعمال والتخطيط المالي ومهارات العرض، إضافة إلى إطلاق مسابقة لتقييم الشركات الناشئة واختيار مشاريع فائزة يُخصص لها مكافأة مالية.
وأدركت جسور أنّ ضم روّاد الأعمال المستقبليين إلى شبكة دولية من الشركاء والمستثمرين يساعدهم في تخطي العقبات وتوسيع أعمالهم ومنتجاتهم أو طرح أفكار جديدة، خصوصاً مع تزايد اتجاه الشباب اللاجئين نحو الأعمال المستقلة، إذ زاد عدد المهاجرين أو الأشخاص ذوي الأصول المهاجرة الذين يعملون لحسابهم الخاص بمقدار الثلث في عام 2018 مقارنةً بعام 2015 ليصل إلى نحو 800 ألف شخص، ثلثهم نساء، وفق دراسة أجرتها مؤسسة بيرتلسمان (Bertelsmann) عام 2020.
- تعليم الأطفال: في عام 2013 أُطلق برنامج جسور لتعليم اللاجئين بهدف خلق فرص تعليمية للأطفال السوريين في لبنان، إما من خلال تسجيلهم في مدارس لبنانية رسمية عامة أو خاصة، أو عبر تعليمهم في المراكز التعليمية الثلاثة التابعة للمؤسسة.
2- دوبارة
ظهرت دوبارة مطلع عام 2013 كشبكة اجتماعية تربط بين السوريين المقيمين داخل البلاد وخارجها، وتحثّهم على مساعدة بعضهم البعض في إيجاد حلول للمشاكل التي سببتها الأزمة، وجاءت التسميّة من كلمة "دوبارتك عندي" والتي تقال للشخص الباحث عن مساعدة، وهي كلمة متداولة في اللهجة العامية السورية وتعني لديّ حل لمشكلتك، وعليه، يلقّب كل عضو من أعضاء الفريق الأساسي للشبكة بالدوبرجي، ويحرص مؤسس الشبكة أحمد الأدلبي على استخدام اللهجة العامية المبسّطة في التواصل مع السوريين واستعراض خدمات دوبارة على المنصات الرقمية.
أدركت دوبارة ضرورة تكافؤ فرص نمو الشركات وتقوية الاقتصاد وخلق الوظائف، لذا ركزت على الربط بين الأشخاص، وتشجيع رجال الأعمال السوريين الذين يديرون أعمالهم خارج البلاد على تقديم الدعم للمغتربين الذين يبحثون عن فرص عمل وأصحاب المشاريع الناشئة الذين ينقصهم التمويل.
ويواجه المغتربون السوريون صعوبة في بداية انتقالهم إلى بلد جديد، فهُم بأمس الحاجة إلى المعلومات التي توجههم للبدء في الدراسة أو العمل بالبلد الجديد؛ لذا تعاون الشابان عبد السلام أبو الشامات، وموفق الحجار مع شبكة "دوبارة" وأطلقا عام 2013 دوبارة ماليزيا، وهي مجموعة على موقع فيسبوك، ينقلون من خلالها معلومات عن تجربتهم الأولى في ماليزيا، لمساعدة السوريين في ماليزيا على فهم متطلبات الدراسة وطبيعة الأعمال في البلاد، وفي إطار ذلك عمل فريق دوبارة على تقديم دليل الغربتلي الذي يعرض خلاصة خبرات المغتربين السوريين في بلدان محددة لتساعد كل سوري يفكر في الانتقال والسفر لبلد جديد على فهم ظروف المعيشة في هذا البلد.
تجتهد دوبارة لتغيير فكرة المجتمعات الغربية عن اللاجئين، وتسلط الضوء على ضرورة منحهم الفرصة خلال السنة الأولى من انتقالهم إلى البلد الجديد لإظهار قدراتهم ومهاراتهم، وتمكنت الشبكة خلال ثلاث سنوات من انطلاقها من مساعدة أكثر من 3 ملايين لاجئ في 15 دولة، بدعم من 180 ألف متطوع، واستقطبت تجربة الشبكة الاهتمام العالمي، إذ تحدث مؤسسها أحمد الإدلبي في مؤتمر تيد ريرسون يو (TEDxRyersonU) عام 2017، عن انطلاقة الشبكة ودورها في دعم المجتمعات السورية في الداخل والخارج.
3- مؤسسة سعيد
تتمثل رؤية مؤسسة سعيد في خلق عالم يمكّن الأشخاص على تنوع خلفياتهم من إدراك إمكاناتهم الكاملة، وحرصت على تقديم المنح الدراسية التعليمية وفرص التدريب منذ عام 1984 مستهدفةً مجتمعات اللاجئين في كلٍ من سوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين، ووفرت 190 ألف فرصة تعليمية للأطفال والشباب السوريين اللاجئين ومجتمعاتهم، وقدمت 654 منحة للدراسات العليا في أفضل جامعات المملكة المتحدة للطلاب من سوريا والأردن ولبنان وفلسطين.
وركزت المؤسسة في عام 2014 على تحسين سبل توفير التعليم العالي للاجئين عبر دعم برنامج مبادرة ألبرت أينشتاين الأكاديمية الألمانية الخاصة باللاجئين، بالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، والتي تتيح للطلاب اللاجئين إمكانية الحصول على شهادة جامعية في بلد اللجوء، وعملت المؤسسة على توسيع البرنامج في لبنان وزيادة عدد المنح المقدمة للاجئين في الأردن. وخلال عام، قدمت منحاً دراسية لـ 99 لاجئاً سورياً وساعدتهم على إثبات ذواتهم وإحداث أثر إيجابي في مجتمعاته.
وفي عام 2019 تعهدت مؤسسة سعيد خلال مشاركتها في النسخة الأولى من المنتدى العالمي للاجئين بتقديم المزيد من الدعم لـبرنامج مبادرة ألبرت أينشتاين، وتوفير الفرص لـ 41 طالباً إضافياً، واستطاعت منذ عام 2014 تقديم منح دراسية لما يزيد عن 400 لاجئ سوري في لبنان والأردن، لمساعدتهم في بناء مستقبل أفضل.
بفضل الدعم الذي قدمته مؤسسة سعيد للشباب من بلاد الشام، وتشمل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، لإكمال الدراسات العليا في المملكة المتحدة، أصبح بعض خريجي المؤسسة قادة وصنّاع قرار في مجالهم، ومنهم نورا القطب من فلسطين، إذ حصلت على منحة لنيل درجة الماجستير في العلوم البيولوجية من جامعة كامبريدج (University of Cambridge) عام 2007، وتابعت دراستها لتحصل على درجة الدكتوراه من نفس الجامعة عام 2011، وبعد الانتهاء من دراستها، تقلّدت منصب زميل باحث في معهد وايزمان للعلوم (Weizmann Institute of Science)، ثم التحقت بـالجامعة العربية الأميركية في فلسطين عام 2018 بصفة أستاذ مساعد، وتشغل حالياً منصب مساعد العميد للبحث العلمي، ورئيس قسم العلوم الصحية في كلية الدراسات العليا.
ختاماً، كيف يمكن أن نجعل العالم مكاناً أفضل إذا أتيحت لنا الفرصة لذلك؟، وكيف نحقق التقدم ونضمن الوصول إلى مجتمعات أقوى؟ من هذه التساؤلات انطلقت تلك المؤسسات الاجتماعية لتؤدي دوراً محورياً في تعزيز فرص التعليم لمجتمعات اللاجئين، وخلق فرص التواصل مع أصحاب الخبرة والقرار لدعم الأفكار الجديدة ومساعدة الشباب على إطلاق مشاريع ناجحة.