كيف يمكن للمؤسسات غير الربحية جمع التبرعات في حالات الطوارئ المفاجئة؟

5 دقائق
المنظمات غير الربحية
unsplash.com/Jametlene Reskp

لماذا تجتذب حالات الطوارئ المفاجئة منحاً وتبرعات أكثر مما تجذبه الحالات المزمنة، وكيف بإمكان المنظمات غير الربحية تغيير ذلك؟

إن ميلَ التعاطفِ العامّ تجاهَ أحدثِ الأزماتِ التي تصدَّرَت عناوينَ الصُّحف؛ مثل تسونامي في آسيا، والأعاصير على طول خليج المكسيك، والزلزال في كشمير، تركَ العديدَ من المُنظّمات غير الربحية في مأزق. حتى معَ ارتفاعِ التبرُّعاتِ الخاصَّةِ المُخصّصةَ للطوارئِ في الولاياتِ المتّحدةِ إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ - 1.8 مليار دولار للتسونامي، و 3.1 مليار دولار لإعصار كاترينا، و 130 مليون دولار لزلزال كشمير - شعرت العديدُ من المُنظَّماتِ الأُخرى؛ سواءً الكبيرةُ أو الصغيرةُ منها، بالضيقِ نتيجةً للبُخلِ المُفاجئ. بدأت قطاعاتُ الخدماتِ تُعاني، وكذلكَ بدأَ عُملاؤها.

المؤسسات غير الربحية

إن إحدى المنظمات غير الربحية التي عانت من انخفاضٍ حادٍّ في التبرعات بعد الكوارث الكبيرةِ في العامين الماضيين هي "كريل كير" (Chrill Care)؛ وهي وكالةٌ مجتمعيةٌ تُساعدُ البالغين ذوي الدخل المنخفض والضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصّةِ في مُقاطعة إسيكس، نيوجيرسي، في الولايات المتحدة الأميركية في مهامِّ التدبير المنزلي وإعداد الوجبات والتَسوُّق. من المُرجَّحِ الآن أن يوضعَ العُملاءُ الذين يَسعَونَ للحصولِ على المُساعدةِ على قائمةِ الانتظار، وأولئكَ الذينَ كانوا يستفيدون من 10 ساعاتٍ من الزيارات لا يَتَلقّونَ الآنَ أكثرَ من ستِّ ساعات. يقولُ جيل آرينز؛ مديرُ عملياتِ المنظمة: "نحنُ كيانٌ صغيرٌ ولكنهُ راسخٌ؛ لكن لا يُمكنُنا إدارةُ حملةٍ تسويقيةٍ كبيرةٍ أو الوصولُ إلى ملايينِ المشاهدين الذين تَصِلُهم أخبارُ كاترينا ليلةً بعد ليلةٍ على شاشة التلفاز".

كما غطَّتِ الكوارثُ الأخيرةُ على مشاكلِ العالمِ الأكثر انتشاراً والأطولَ أمَداً. في كلِّ شهرٍ، يموتُ ما يُقدَّرُ بنحوِ 250 ألف شخصٍ بسبب الإيدز، ويموتُ 150 ألفاً بسبب المجاعة، ويموتُ 80 ألفاً آخرون بسبب الملاريا؛ كما أن المياهَ غير الآمنة ونقصَ التعقيم يؤَدّيان إلى وفاة 180 آخرين، معظمُهُم منَ الأطفال، بسببِ الإسهالِ المُعدِي. يبلغُ إجمالي هذه الوفيات حوالي 660 ألف حالة وفاة. بمُقارنةِ هذهِ الأرقام بالأرقامِ التي تَسبَّبت فيها الكوارثُ الأكثر جذباً للرأي العامّ في العامَين الماضِيَين: لقد أَودى تسونامي آسيا بحياةِ 280 ألف شخص، وزلزال كشمير 73 ألفاً، وإعصار كاترينا 1093 شخصاً.

ومع ذلك، فإن القطاعَ الخيريَّ الأميركي - سواءَ كانَ فرداً أو مؤسسةً أو شركةً - مُوَجَّهٌ بشكلٍ كبيرٍ نحوَ إنقاذِ ضحايا الطوارئ، مُبتعداً عن معالجةِ الحالاتِ المزمنة. وفقاً لتحليلِ البياناتِ الذي أجْرَتهُ "ستانفورد ريفيو للابتكار الاجتماعي" أنه بسبب هذا التوجُّه، هناكَ علاقةٌ قليلةٌ بينَ مِقدارِ ما يُقدِّمُهُ المُتبرّعون وعددِ الأشخاصِ الذينَ يَحتاجون إلى المساعدة. من بينِ العديدِ من التناقُضاتِ اللافتة: أنفقَ المُتبرِّعون الخاصّون حتى الآن حوالي 1839 دولاراً لكلِّ شخصٍ تضرَّرَ من إعصارِ كاترينا؛ لكنَّهم تَبَرَّعوا بـ 10 دولاراتٍ فقط لكلِّ شخصٍ مُصابٍ بالإيدز. حتّى الأعمالُ الخيريةُ الخاصَّةُ "المُنهَكَةُ" المُرتَبِطَةُ بزلزالِ 8 أكتوبر/تشرين الأول في باكستان، التي تبلُغُ 37 دولاراً للشخصِ المتضرر، تُقَزِّمُ مبلغَ 3 دولاراتٍ لكلِّ شخصٍ مصابٍ بالملاريا.

يقول ستيفن بوست؛ وهو أخصائي أخلاقيات بيولوجية في كلية الطب بجامعة "كيس ويسترن ريزيرف" "من وجهةِ نظرٍ عقلانيةٍ تماماً؛ يجب علينا تطبيقُ كلِّ المواردِ المتاحةِ للمُساعدةِ في الكوارثِ الطبيعيةِ أو مشاكلِ المدينةِ الداخليةِ أو الفقر في الريف أو النظام التعليمي السيّء أو انعدام الضمان الصحي وغيرها من التدابير". بدلاً من ذلك؛ "يمتلكُ الكثيرُ من الجمهورِ نوعاً من عقلية الأزمة، لا يُعطونَ إلّا عندما يَرَونَ أنَّ السكّانَ المُتضرّرين يُعانونَ من حالاتِ طوارئ خطيرةٍ تُهدِّدُ الحياة"، كما تتَأسَّفُ إيلين سيدنستيكر؛ المستشارة الخاصَّةُ لـ "ريموند أوفنهايزر"؛ رئيسُ منظمةِ "أوكسفام أميركا".

على الرغمِ من أنَّ هذا النمطَ من العطاءِ قد يبدو غيرَ منطقيٍّ فإنَّ مجموعةً مُتزايدةً من الأبحاثِ حولَ كيفيَّةِ تفكيرِ الناسِ وشعورِهم وتصرُّفِهم تُشيرُ إلى أن تبرُّعاتِ المُتبرِّعين التي تبدو في غيرِ مَحَلِّها تبدو منطقيةً من الناحيةِ النفسية. إن طوفانَ الكَرَمِ بعدَ المصائبِ التي تحتلُّ العناوينَ الرئيسية، وكذلك الاستجابةُ المُخيِّبَةُ للمُعاناةِ الأكثرَ هدوءاً، لها جُذورُها في مسيرةِ التطوُّرِ البشريِّ ونوعِ العقليّةِ التي أنتَجَتها. يُمكنُ لِفَهمِ سببِ جذبِ الأزماتِ المُفاجِئَةِ لأوتارِ القلوبِ وتخفيفِ قيودِ تقتيراتِ إنفاقِ النقودِ بسهولةٍ أكبرَ من المَشاكلِ المُزمِنةِ، أن يُساعِدَ المُنظَّماتِ غيرِ الربحيةِ في الحفاظِ على التزامِ المُتبرِّعين عندما تظهرُ مشاكل أكثرُ وضوحاً على الساحة.

إنفاق المال في محلِّه

لقد أدركت المنظمات غير الحكومية -مثل "أوكسفام"- منذُ فترةٍ طويلةٍ، التحديات التي تطرحُها عقليَّةُ الأزمةِ للمُتبرعين"إن جَمعَ الأموالِ للاستجابةِ للأزمات أسهلُ بكثير من جَمعِ الأموالِ للوقايةِ من الكوارثِ أو من أجلِ التنميةِ طويلةِ الأجَل"؛ كما تُشيرُ سيدنستيكر.

ومع ذلك، فإن الطريقةَ الأفضلَ لمُواجهةِ حالاتِ الطوارئِ عادةً ما تكونُ قبلَ حُدوثِها؛ من خلالِ الاستثمارِ في حلولِ الوقايةِ والتخفيفِ من المشاكلِ المزمنة، فالارتجافُ التَكتونيُّ الذي أطلقَ العنانَ لكارثةِ تسونامي، على سبيلِ المثال، كان أكثرَ فَتكاً لأنَّ سُكَّانَ السواحِلِ الذينَ تأثَّروا كانُوا يُعانونَ بالفعلِ من البُنيَةِ التحتيةِ غيرِ المُلائِمةِ، والفقرِ المنتشرِ، وسوءِ التغذية. وبالمثل، فإنَّ الفقرَ والعَزلَ العُنصريَّ في مدينةٍ مَبنيةٍ تحتَ مُستوى سطحِ البحرِ جَعَلَ نيو أورلينز أزمةً إنسانيةً تَنتَظِرُ الحدوث، ناهيكَ بأنَّ مخاطرَ الفيضانات لم تكُن معروفةً: في مقالٍ نُشِرَ في أكتوبر/تشرين الأول عام 2001، حَذَّرَت مجلةُ "ساينتيفيك أميركان" من أنَّ "إعصاراً كبيراً يُمكنُ أن يغمرَ نيو أورلينز تحتَ 20 قدماً من المياه، ويَقتُلَ الآلاف"، وأنَّ "إعادةَ الهندسةِ الجذريَّةِ لجنوبِ شرقِ لويزيانا فقط وحدَها التي يُمكنها أن تُنقِذَ المدينة".

يُظهِرُ تحليلٌ أجرَاهُ البنكُ الدوليُّ ومركز المسحِ الجيولوجي الأميركي أنه خلال التسعينيات كان من المُمكنِ أن تُؤدِّي التدابيرُ الوقائيَّةُ بتكلفةٍ تبلغُ نحوَ 40 مليار دولار إلى تقليلِ الخسائرِ الاقتصاديةِ الناجمةِ عن الكوارثِ الطبيعيةِ في العالمِ بمقدارِ 280 مليار دولار. في الصين وحدَها، يُقدِّرُ البنكُ الدوليُّ أنَّ 3 مليارات دولارٍ من تدابيرِ السيطرةِ على الفيضانات أنقّذتِ الصينيينَ من خسائرَ بقيمةِ 12 مليار دولار. تُشيرُ مثلُ هذهِ التحليلاتُ إلى أنَّ كلَّ دولارٍ يُنفَقُ على تقليلِ المَخاطرِ يُوفِّرُ ما يَصلُ إلى 7 دولاراتٍ من نَفَقاتِ الإغاثةِ والإصلاح.

كَتَبَ الأمينُ العامُّ للأمَمِ المُتَّحِدَةِ كوفي عنان في عام 1999 "إنَّ استراتيجياتِ الوقايةِ الأكثرَ فعاليَّةً لن تُوفِّرَ عشراتِ الملياراتِ من الدولارات فحسب؛ بل ستُنقِذُ عشراتِ الملياراتِ من الأرواح، ويُمكنُ تخصيصُ الأموالِ التي تُنفَقُ حالياً على التدخُّلِ والإغاثةِ لتعزيزِ الإنصافِ والاستدامَةِ بدلاً من ذلك؛ ممَّا سَيُقلِّلُ بشكلٍ أكبرَ من مخاطِرِ الحربِ والكوارث".

المشاعرُ أوَّلاً

إن السبب وراءَ أنَّ الناسَ يستجيبونَ للأزماتِ المُفاجئةِ أكثرَ منَ الحالاتِ المُزمِنَةِ أو المُستَمِرَّةِ حتى عندما تُفرِزُ هذهِ الظروفُ مزيداً منَ الاضطراباتِ والمآسي، أصبحَ أقلَّ غُموضاً؛ وذلك بفضلِ مجموعةٍ متزايدةٍ من أبحاثِ العلومِ الاجتماعيةِ. ظاهرياً، يبدو التفسيرُ بسيطاً: تُثيرُ حالاتُ الطوارئِ مشاعرَ أقوى من المشاكلِ التي طالَ أمَدُها، ومع ذلك، فإنَّ فهمَ سببِ استفزازِ عواطفِ الناسِ للحصولِ على تبرُّعاتٍ أكبر من اتجاهاتهم التحليلية لا يُقدِّمُ فقط درساً رائعاً في طريقةِ عملِ العقل؛ ولكنهُ يُشيرُ أيضاً إلى طريقٍ أكيدٍ لتحقيقِ الكفاءةِ والفعاليةِ الخيرية.

فيما يَصِفُهُ علماءُ النفسِ المَعرفيُّون بأنَّهُ "رقصةُ التأثيرِ والعقل"، فإن سلوكيات الناسِ محكومةٌ بوضعين مختلفين من التفكير. أحد الأوضاع؛ الذي يُسمِّيهِ عُلماءُ النفسِ الإدراكيُّون "النظام 1"، هوَ وضعٌ حدسيٌّ وغيرُ لفظيٍّ وعادةً ما يكونُ غيرَ واعٍ. يتمُّ تشغيلُ استجاباتِ "النظامِ 1" السريعةِ والتلقائيةِ من خلالِ الارتباطاتِ والتجاربِ والصورِ والمشاعرِ. أما الوضع الآخر فهو "النظامَ 2" وهو نظام تحليليٌّ وتداوليٌّ سيتم تناوله بالتفصيل في الجزء الثاني من هنا.

تمَّ تطويرُ "النظام 1" للمرَّةِ الأولى في تاريخِنا التطوريِّ عندما كانَ البشرُ يعيشونَ في مُجتمعاتٍ صغيرةٍ حيث يعرفُ الجميعُ بعضَهُم البعض، وعندما يندَفِعونَ لتَجنُّبِ المَخاطرِ المُباشَرَةِ - نمرٌ مُطارِدٌ، بطنٌ مُتذمِّرٌ، أو مُحارِبٌ عدوّ - كانَ النظامَ اليومي. "لم يكُن علينا التفكيرُ في المشكلاتِ واسعةِ النطاق، أو الأشخاصِ الذين يعيشونَ في مكانٍ آخر، أو أعدادٍ كبيرةٍ من الناس، كان علينا التفكيرُ فقط في نجاةِ عددٍ قليلٍ من الناسِ هَنا وفي الوقتِ الحاليِّ" كما يقولُ بول سلوفيتش؛ عالمُ النفسِ المعرفي في جامعة "أوريغون"، وحتى يومِنا هذا؛ يستجيبُ "النظامُ 1" بسهولةٍ أكبر لحالاتِ الحياةِ أو الموت، والمواقعِ المحلِّيَّةِ القريبةِ، والأعدادِ الصغيرةِ، وصيغةِ المُضارع.

هذا هو السببُ في أن مُعظَمَنا يُسارِعُ في الاستجابةِ، على سبيلِ المثال؛ لِمِحنَةِ عشراتٍ من عُمَّالِ مَناجِمِ الفحمِ المُحاصَرين الذين يُبَثُّونَ في غُرَفِ المَعيشةِ لدينا. بِقَدرِ ما يَتَعلَّقُ الأمرُ بالنظامِ 1، فإنَّ هذهِ الأزمةِ في قلبِنا تَتَطلَّبُ أن نَقفِزَ عنِ الأريكة، ونَقومَ بتسجيلِ الدخولِ إلى الإنترنت، وتقديمِ تَبَرُّعٍ ضخمٍ للصليبِ الأحمر، وفي الوقت نفسه، فإنَّ إحصائياتِ البنكِ الدُوليِّ حولَ الإسهالِ المُعدِي أصبَحَت مَجمَعاً للغُبارِ على مَكاتِبنا، ولا تُثيرُ حتى ومضةً على رادارِ "النظامِ 1".

لمتابعة الجزء الثاني من السلسلة؛ اقرأ: ما هي أنماط التفكير الضرورية للسلوك العقلاني؟

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي