منذ تسعينيات القرن الماضي، أصبح من الطبيعي بصورة تدريجية أخذ أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة؛ المعروفة اختصاراً (ESG)، في الاعتبار عند النظر في قرارات الاستثمار، إلا أن جذور ما نسميه اليوم «الاستثمار المستدام والمسؤول من الناحية الاجتماعية» تعود إلى القرن التاسع عشر؛ عندما كانت المعتقدات الدينية معياراً للاستثمار لدى الميثوديين والمسلمين والكويكرز، وفي الآونة الأخيرة، كانت القضايا الاجتماعية؛ مثل الآراء المناهضة للحرب في مرحلة حرب فيتنام في السبعينيات، والآراء المناهضة للفصل العنصري في الثمانينيات، جزءاً من النقاش الدائر في أوساط الأعمال التجارية، كما ظهرت مطالب جديدة متمثلة بالاعتماد على قيادات رشيدة بعد فضائح في الإدارة في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة؛ مثل فضيحة شركة «إنرون» (Enron). باختصار، تنبثق كل حزمة جديدة من المطالب الموجهة للأعمال التجارية المسؤولة اجتماعياً، من القضايا التي تميز المرحلة، وتغير المناخ هو القضية التي تعرّف زمننا هذا؛ لذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في كيفية الإقرار بالمشكلة واقتراح الحلول المناسبة، لا سيما وأن الإجراءات المتخذة من قبل الشركات والمجتمع تُعدّ بطيئة حتى الآن.
على الرغم من أن المخاوف المتعلقة بالبيئة حركت الشعور العام لأول مرة في الستينيات، لكن تغير المناخ أيقظ الوعي العام بصورة ملحوظة خلال العقد الماضي؛ ربما لأن العواقب الافتراضية أصبحت الآن حقيقة واقعة. على سبيل المثال، استرشد اتفاق باريس للمناخ عام 2015؛ الذي وقعته ما يقارب من 200 دولة للتصدي للمخاطر، بتوافق علمي على أن آثار هذا التغير هو عامل خطر وجوديّ مقلق بالنسبة للعالم اليوم، وكان القبول والدعوة لاتخاذ إجراءات بشأن الخطر المتزايد لتغير المناخ في المجتمع العلمي مركّزاً وملحاً، إلا أن الاستجابة لهذه القضية في الأسواق المالية افتقرت إلى التركيز والشعور بالضرورة الملحة ذاتها؛ حيث غالباً ما يتم تضمين قضية تغير المناخ في النقاشات الأوسع نطاقاً المتعلقة بأهداف البيئة والمجتمع والحوكمة كفلسفة أخلاقية ومطالب ائتمانية. على سبيل المثال، أظهرت دراسة استقصائية للمستثمرين المؤسسيين؛ أجرتها شركة «ستايت ستريت غلوبال أدفايزرز» (State Street Global Advisors)، أنه على الرغم من الاهتمام المتزايد والمتسارع بتلك الأهداف، يُعدّ نطاق تبنّي الاعتبارات المتعلقة بها بين المستثمرين المؤسسيين منخفضاً وغامضاً؛ حيث تفتقر العديد منها إلى التعريف ومعايير القياس، وقد أفاد ثلاثة أرباع المشاركين في الدراسة أن هناك غموضاً حول مصطلحات أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة داخل مؤسساتهم.
علاوةً على ذلك، بينما تختلف القضايا البيئية والاجتماعية والمتعلقة بالحوكمة بصورة كبيرة في شدة عواقبها على المجتمع والأعمال التجارية، لا يوجد إطار عمل موحّد لتحديد الأولويات بين هذه القضايا عند تحديد المسؤولية الأخلاقية والائتمانية؛ فقد تم الجمع بين هذه المخاوف معاً في الأساس لأن الصالح الاجتماعي يربط جميع تلك القضايا، وكان التصور التقليدي يتمثل في النظر إليها على أنها «خارجية» عندما يتعلق الأمر بسعي الشركات نحو تحقيق الأرباح. من ناحية أخرى، لقد حان الوقت لتفكيك تلك الافتراضات وتوضيح كيف أن المخاوف البيئية؛ في أساسها وعلى المستوى العملي، تحدد المسؤولية الائتمانية. بالنظر إلى آثار تغير المناخ الجلية، ينبغي على المجتمع والأعمال التجارية التعامل مع مخاطر المناخ وإعطائها الأولوية، وفي حين أن مطالب مدراء الأصول تجمع عادةً بين مخاطر المناخ والقضايا الاجتماعية وتلك المتعلقة بالحوكمة؛ التي يعتبرونها مهمة لكنها متعلقة بوجود الشركة بمستوى أقل مقارنةً مع تأثير أعضاء مجلس الإدارة وتعويضات التنفيذيين على سبيل المثال، فإن طبيعة مخاطر المناخ تجعل من هذا الدمج مشكلة، لأنها من الناحية العلمية والاقتصادية تُعتبر نوعاً مختلفاً من القضايا.
تغير المناخ قضية مختلفة
تختلف مخاطر المناخ عن معظم المخاوف الاجتماعية والمتعلقة بالحوكمة لسبب واحد؛ وهو أنها تؤثر على الأصول المادية، وغالباً ما تؤدي إلى تكاليف مباشرة، وفقاً لمجلة «بارونز» (Barron’s)؛ فإن 60% من الشركات المدرجة في مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» «تمتلك أصولاً معرضة لمخاطر مرتفعة لنوع واحد على الأقل من المخاطر المادية لتغير المناخ». على سبيل المثال، كلّفت العديد من الكوارث الطبيعية المرتبطة بآثار تغير المناخ شركة «أيه تي آند تي» 847 مليون دولار منذ عام 2016، بسبب الأضرار التي لحقت بأصول وخدمات الاتصالات؛ مما دفع الشركة إلى الكشف عن نموذج عمل للتصدي له مدته 30 عاماً، كما تؤدي حرائق الغابات المستمرة في كاليفورنيا؛ والتي تفاقمت بسبب تغير المناخ، إلى زيادة التكاليف الاقتصادية؛ بحيث قُدرت التكلفة المباشرة للحرائق التي حصلت عام 2020 بأكثر من 20 مليار دولار؛ وهذا لإصلاح الأضرار على سبيل المثال لا الحصر، ومن دون ذكر التكلفة غير القابلة للاسترداد لحياة الإنسان والتكاليف غير المباشرة (مثل تكاليف الرعاية الصحية، وانخفاض قيمة الممتلكات). على الرغم من استخدام مصطلح «الاستدامة» غالباً بالتبادل مع أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة ، لكن المخاوف البيئية هي نقطة محورية عندما يتم تعريف الاستدامة على أنها «تلبية احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم الخاصة»؛ إذ تقع الاستدامة في جوهر مخاطر المناخ، ولكن الجمع بين مطالب أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة عند الإشارة إلى أهداف التنمية المستدامة في الأعمال التجارية يمكن أن يُضعف عن غير قصد من الوعي والرؤية والعمل المتعلق بمخاطر المناخ على وجه الخصوص.
بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ تغير المناخ عامل خطر كليّ، على عكس المخاوف الأخرى المتعلقة بأهداف البيئة والمجتمع والحوكمة- تأثير أعضاء مجلس الإدارة وشؤون الموظفين-؛ والتي تظهر آثارها من خلال قنوات متعددة ومترابطة مثل المخاطر الاقتصادية وتلك المرتبطة بالصحة العامة؛ إذ وصفت مجموعة كبيرة مؤلفة من 74 هيئة طبية وأخرى معنية بالصحة العامة- من ضمنها «الجمعية الطبية الأميركية»- تغير المناخ بأنه «التحدي الأكبر أمام الصحة العامة في القرن الحادي والعشرين»، وقد وتعلمنا من جائحة كورونا؛ التي يُقدر أنها ستكلّف الاقتصاد العالمي 8.5 تريليون دولار أميركي في غضون عامين، أنه لا ينبغي الاستهانة بأزمات الصحة العامة، كما تتوقع إحدى الدراسات خسائر اقتصادية تقارب 70 تريليون دولار بحلول عام 2100 ستنتج عن الاحتباس الحراري وغياب الجهود للتخفيف من حدته؛ هذا على الرغم من أنه ليس خطراً مفاجئاً ومأساوياً مثل جائحة كورونا. باختصار، من غير الممكن تقسيم مخاطر المناخ حسب الأسواق، ولا يمكن اعتبارها من ضمن المخاطر المتنوعة الأخرى، لأن جميع الشركات معرضة له، سواء بشكل مباشر أو عند تأثر العملاء والموردين وأصحاب المصلحة الآخرين، لذلك، فإن التعرض لمخاطر المناخ له آثار مختلفة جوهرياً على صعيد تقييم الأصول وتنويع المحفظة عن عوامل المخاطر الصغرى نسبياً، وبقدر ما تختلف القضايا البيئية والاجتماعية والمتعلقة بالحوكمة في كونها مخاطر كلية أو جزئية، ينبغي التعامل معها بطريقة أخرى عند تحديد المسؤولية الائتمانية.
هناك أيضاً دليل عملي يدعونا لفصل المخاوف البيئية عن مطالب أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة؛ ففي حين أن بعض القضايا الاجتماعية والمتعلقة بالحوكمة الأكثر أهمية متورطة في تضارب المصالح بين المدراء من جهة وأصحاب المصلحة الآخرين من جهة أخرى، تُعدّ مخاطر المناخ أقل عبئاً من هذه الناحية؛ حيث أفاد باحثون من «معهد السياسة الاقتصادية» (Economic Policy Institute) أن رواتب المدراء التنفيذيين ارتفعت بأكثر من 1,000% من عام 1978 إلى 2018؛ أي حوالي 100 ضعف ارتفاع رواتب الموظفين العاديين والبالغ 11.9%، وأضافوا أن تضارب المصالح الخطير جزء لا يتجزأ من معالجة فجوة الأجور داخل الشركات؛ هذا من دون التطرّق إلى انعدام المساواة في الدخل بنطاقه الأوسع، ولكن بالنسبة إلى معظم الشركات؛ فإن معالجة مخاطر المناخ تبدو أقل تورطاً بتضارب المصالح من هذا النوع، ويمكن أن تنمو المسؤولية البيئية وإدارة المخاطر بصورة أسرع عند التخلص من عبء هذا التضارب المرتبط بالمخاوف الأخرى للبيئة والمجتمع والحوكمة.
التطلع نحو المستقبل
بدأ السوق بالفعل في التعامل مع المخاوف البيئية على أنها قائمة بذاتها؛ حيث أطلق أدوات مالية جديدة تركز على المسؤولية البيئية، مثل السندات الخضراء والزرقاء، ومن شأن معالجة المخاوف البيئية بصورة أكثر استقلالية أن يساعد مدراء الأصول على التمييز بين شركات مثل «أمازون» أو «نتفلكس» من جهة، وشركات النفط والغاز مثل «إكسون موبيل» (Exxon Mobil) من جهة أخرى، لكن في الوقت الحاضر؛ نظراً لانخفاض مخاطر شركتي «أمازون» أو «نتفلكس» الاجتماعية والمتعلقة بالحوكمة، فإن مطالب أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة المجتمعة تضعهما في الفئة المستبعدة ذاتها مثل «إكسون موبيل» بالنسبة إلى معظم صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) التي تتناول أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة.
ينبغي أن تستمر هذه الحركة، وبطبيعة الحال، فإن المخاوف البيئية ترتبط بمخاوف اجتماعية واقتصادية خطيرة أخرى؛ مثل الفقر، إذ غالباً ما تكون المناطق المأهولة من قِبل الفئات الأشد فقراً أكثر عرضة للكوارث القاسية التي تفاقمت بسبب تغير المناخ؛ مثل الفيضانات، إلا أنه نظراً لحجم وسرعة الاستجابة اللازمة للتخفيف من مخاطر المناخ، ينبغي على أصحاب المصلحة المسؤولين بيئياً التوسع بسرعة، ويجب أن تشمل الحلول القائمة على السوق والمتعلقة بمخاطر المناخ أوسع نطاق ممكن من أصحاب المصلحة؛ بدءاً من الذين لديهم دوافع أخلاقية وينظرون إلى الأعمال التجارية من منظور المنافع الاجتماعية، إلى أصحاب المصلحة الذين لديهم دوافع مالية ويدركون أنه لم يعد من الممكن تجاهل مخاطر المناخ.
سوف تطال مخاطر تغير المناخ الأعمال التجارية والمجتمع في هذا المرحلة الزمنية بكل تأكيد، ومع ذلك، فشِل العمل الفردي والجماعي الموجه للتخفيف من حدته في تحقيق الأهداف الهامة التي حددتها التوجيهات العلمية والتطلعات السياسية الطموحة، وينبغي أن تتحمل مختلف الشركات مسؤولية البيئة، بالنظر إلى الآثار المترتبة عن التخلي عن هذه المسؤولية، وتتمثل إحدى الطرق العملية لإحداث فرق في الفصل بين مخاطر البيئة والمخاطر المتعلقة بالمجتمع والحوكمة؛ ذلك من أجل تركيز النقاش والعمل على تغير المناخ، كما ينبغي أن تتوحد جهود العلم والأعمال التجارية والمجتمع للتصدي لمخاطر المناخ المؤكدة، وأن يتحمل الجميع المسؤولية، فلا مجال للتأخير والتراخي.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.