ليس من السهل دائماً أن يصبح عمر منظمتك 143 عاماً، إذ تُعدّ المنظمات الرائدة اليوم؛ بما فيها المنتمية للقطاع الاجتماعي، هي تلك المزعزِعة للواقع، والناشئة؛ التي تتميز بالطموح، والاندفاع، والمرونة. في المقابل، غالباً ما يُنظر إلى المنظمات التقليدية على أنها لا تواكب التطوّر، أو ربما «متعَبة».
يُظهر مقياس «إيدلمان تراست بارومتر» (Edelman Trust Barometer) لعام 2016؛ وهو مسح يقيس مدى مصداقية المنظمات، أنه على الرغم من ثقة الجمهور الأميركي في المنظمات غير الحكومية أكثر من غيرها، هناك «شرخ جديد متمثل في صورة المنظمة غير الحكومية، خاصة فيما يتعلق بالابتكار». سواء كنا نتحدث عن منظمة هدفها مكافحة الفقر، أو تسليط الضوء على موسيقيين عظماء، غالباً ما يُنظر إليها على أنها ذات قيمة خاصة، ولكنها ليست ديناميكية بما يكفي.
كما هو الحال عموماً، كان الابتكار موضوعاً ساخناً بالنسبة إلينا في منظمة «ناينتي سيكند ستريت واي» (92nd Street Y) أو «ناينتي سيكند واي» (92Y)؛ وهي مركز ثقافي يخلق مجتمعات فاعلة، ويثري الناس في جميع مراحل حياتهم. في السنوات الأخيرة، أنشأنا أيضاً مركزاً للابتكار لمساعدتنا على إعادة تَصوُّر ما نفعله على المستوى الثقافي والاجتماعي، وكيف نعمل على تحقيق أهداف مهمتنا، وكيف نتكيّف بأفضل صورة.
لقد أحرزنا تقدُّماً جيداً على هذا الصعيد، وتشمل الأمثلة على كيفية إعادة تَصوُّر عملنا ليلائم العصر الجديد إطلاق مشاريع مثل «غيفينغ تيوزدي» (GivingTuesday)؛ وهو اليوم العالمي للعطاء، و«سوشال غود ساميت» (Social Good Summit)؛ الذي أتاح إطلاق أسبوع من قِبَل الأمم المتحدة برؤية مماثلة وعلى نطاق أوسع، و«سيفين دايز أوف جينياس» (7Days of Genius)؛ وهو مهرجان جماعي نسميه «المهرجان المنظم من قبل الجمهور»، الذي أدى إلى ظهور فعاليات في 60 دولة، بالإضافة إلى مبادرات مثل «نيو يير بريير» (NewYearPrayer)؛ التي وحّدت المجتمعات اليهودية فيما يتعلق بالأعياد.
أسفرت هذه المبادرات عن حصولنا على تقدير جديد، فقد صنَّفَت مجلة «فاست كومباني» (Fast Company) منظمتنا كواحدة من أكثر 10 منظمات غير ربحية ابتكاراً في البلاد. لمدة ثلاث سنوات متتالية، وصلْنا إلى القائمة النهائية لـ« جائزة دراكر للابتكار غير الربحي» (Drucker Award for Nonprofit Innovation)، وقبل مدة قصيرة، أعلنّا عن فرصة للتبرع بقيمة 15 مليون دولار لإضفاء الطابع الرسمي على التزامنا بإعادة تَصوُّر مهمتنا للقرن الحادي والعشرين في «مركز بيلفر للابتكار والتأثير الاجتماعي» (Belfer Center for Innovation and Social Impact).
لم يكن الطريق سهلاً دائماً، وبعض الأمور التي اعتقدنا أنها تسير على ما يرام لم تنجح، بينما سارت الأخرى بصورة أفضل مما كنا نتخيل، وفي الوقت الذي كنا ننظر فيه إلى التّقدُّم الذي أحرزناه، ونتطلع إلى الخطوة التالية، تعلمنا الدروس المهمة التالية:
الابتكار ينبغي أن يكون جذرياً وليس تدريجياً
تدير منظمة «ناينتي ساكند واي» أكثر من 5,000 برنامج سنوياً، في مجالات مثل رياضة البيلاتس والفلسفة والشعر. لقد وضعنا أهدافاً طموحة في السنوات الأخيرة لرفع الإيرادات وتحقيق الأثر، لذلك عندما بدأنا في التفكير في الابتكار، لم نتخيله كمهمة يمكننا تأديتها بحجم العمل المتّبع لدينا مسبقاً. لذلك، شكّلنا فريقاً مخصصاً لتلك المهمة، من دون فرض مطالب يومية كبيرة، وأعطيناه مساحة للتّعلُّم والتجربة.
استطعنا إنجاز ذلك بسبب القيادة الرائعة والتشجيع الذي تلقيناه من عضو مجلس إدارة المنظمة لورانس بيلفر؛ وقد أسمينا المركز تيمّناً بعائلته. تلقينا منه التشجيع والموارد المالية اللازمة للابتكار، حتى في الأوقات التي لم نمتلك فيها رؤية واضحة بالنتيجة التي سنصل إليها. قد يكون هذا النوع من تمويل البحث والتطوير هو الأصعب من حيث الحصول عليه، لكنه في غاية الأهمية، وإذا أرادت المنظمات أن تعيد تَصوُّر أعمالها، فإنها بحاجة إلى المساحة والدعم لتحقيق ذلك.
الرهانات الصغيرة تؤتي ثمارها
يتمثل أحد التحديات الكبيرة للمنظمات القائمة في أنها غالباً ما تتقن العمل في برامجها المفضلة على مدار سنوات عديدة، وتعتاد على تقديمها بمعايير عالية، إلى الحد الذي قد يكون فيه تبنّي تجربة جديدة أمراً محفوفاً بالمخاطر، والمشاريع التي لا تنجح قد تبدو مكلفة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالسمعة، لكننا عملنا على تطوير ثقافة تتبنّى الكثير من «الرهانات الصغيرة»؛ كما يسميها الرائد الاجتماعي بيتر سيمز، مقارنة بالسابق. بدأَتْ أنجح مشاريعنا (وأقلها نجاحاً أيضاً) كاستثمارات منخفضة المخاطر نسبياً، وعندما حصدنا النتائج، دفعنا بعملنا قُدُماً، وعند حدوث العكس، تجاوزنا الأمر بإيجابية. في كلتا الحالتين، كنا نتعلم أشياء جديدة.
البناء يبدأ من الداخل
لم نعمل على بناء فريق الابتكار لدينا من خلال الاعتماد على أشخاص من خارج المؤسسة، بل من خلال إعادة تعيين الموظفين الذين يعملون معنا؛ إذ قاد الأشخاص المكلَّفون بجمع التبرعات الجهود التعاونية الكبرى، وبدأ مديرو البرامج في المركز المخصص للمراهقين لدينا بقيادة برامج الزمالة للرواد الاجتماعيين. ساعدَتنا هذه الاستراتيجية على بناء مركز بدا وكأنه جزء لا يتجزأ من المنظمة، وليس كوحدة مستقلة. سهّل ذلك علينا أيضاً مشاركة وتبادل الدروس والتقنيات التي نطورها في المركز مع بقية الموظفين.
التفكير من منظور الحركات الاجتماعية وليس البرامج
تَمثَّل عملنا التقليدي في استقبال الأشخاص الذين يأتون إلينا رغبة منهم في المشاركة في برامجنا، لكننا أولينا اهتماماً لتعلُّم مهارات جديدة، وإنشاء برامج تربط الأشخاص الذين قد لا نلتقي بهم على الإطلاق بمهمتنا الأساسية.
على سبيل المثال، بدأ مشروع «غيفينغ تيوزدي» كمحاولة لإنشاء مجتمع مَحلّي حول أهمية العمل الخيري؛ والذي أصبح اليوم دولياً ويُمثّل أحد قيمنا الأساسية. لقد صممناه كحركة اجتماعية يمكن للناس في كل مكان تشكيلها وإدارتها. في إطار هذا البرنامج، قامت مجموعات من طلاب المدارس بجمع الأموال للملاجئ المَحلّيّة في ألاباما، وأنشَأَت مدن؛ مثل بالتيمور، حملات على مستوى المدينة، وتُخصِّص سنغافورة اليوم أسبوعاً كاملاً من العطاء في كل عام. تُجرى هذه الأنشطة على بعد آلاف الكيلومترات من منظمتنا؛ الكائنة في شارع لغزنغتون، لكنها تتماشى مع الأهداف المباشرة لمهمتنا.
لدينا كذلك مهرجان «سيفين دييز أوف جينياس»؛ وهو القائم على تجربة «التنظيم من قِبَل الجمهور»، حيث استضفنا العشرات من الفعاليات والعروض على مسارحنا وفي فصولنا الدراسية، وأنشأنا إطار عمل يمكن للمنظمات الأخرى في جميع أنحاء العالم استخدامه. بموجب ذلك، أقام طلاب المدارس الثانوية فعاليات لتوليد أفكار جديدة لمواجهة انعدام المساواة بين الجنسين في دول مثل غواتيمالا وباكستان، وطرح الرواد الاجتماعيون أفكاراً مبتكَرة لتطوير المستقبل في نيروبي وهندوراس، وخرج المصممون بأفكار للتنمية المستدامة في أثينا والقدس.
نرى أنّ هذا النهج يُعدّ بمثابة طريقة رائعة لرفع مستوى تأثيرنا، ومع كل مبادرة ناشئة، نبني على القاعدة الحالية لدينا وعلى شبكتنا المتنامية، بالإضافة إلى طرح مواضيع جديدة وتجريبية.
بناء شراكات قوية ومتكافئة
بينما نوسّع نطاق عملنا، نحرص على أن نولي اهتماماً كبيراً لشركائنا الناجحين، بصفتهم عاملاً محورياً لنجاحنا. لا يمكن لأي منظمة أن تنجح بمفردها، وعندما نلتقي مع جهات أخرى؛ سواء كانت وسائل إعلام، أو منظمات غير ربحية، أو منظمات ناشئة، أو مؤسسات أكاديمية، أو منظمات غير حكومية دولية، فإنّ هدفنا هو تطوير علاقات عميقة وطويلة الأمد تتجاوز الخلافات الهامشية. إنّ أفضل الشراكات هي التي تولّد أعمالاً جديدة؛ فبعد شراكتنا مع «مؤسسة هوفر» (Hoover Institution)؛ التابعة لجامعة ستانفورد، أطلقنا مشروعَيّ «أميركان كنفرزيشن» (American Conversation) و«بن فرانكلين سيركلز» (Ben Franklin Circles)، استفاد كلانا من إبداع وموارد الجهة الأخرى، وتَمكَّن كل شريك من الوصول إلى مجموعة جديدة من المواهب والجمهور من خلال الآخر، وقد أسفرت المواهب المجتمعة للأشخاص المعنيين عن توليد أفكار أكثر إبداعاً وتعمّقاً.
تُعدّ فكرة أنّ التكنولوجيا والابتكار ذوي صلة فقط بمجال عمل المنظمات الجديدة مجرّد خرافة. من المرجح أنّ أي مؤسسة يمتد تاريخها لعقود؛ وليس سنوات، لديها الكثير من الخبرة في تكييف عملها في عالم متغيّر، وما كانت لتصمد طويلاً لولا ذلك، على سبيل المثال، كانت «ناينتي سيكند واي» عام 1925 من أوائل المتابعين لظهور الراديو.
من جهة أخرى، تواجه أفضل المؤسسات الآن أوقاتاً صعبة أثناء سعيها لأنْ تكون ذات صلة بالواقع الجديد، ولكي تصل إلى الجمهور المستهدَف. إنّنا موجودون لإثراء حياة الناس أو تحسينها بطرق عدة، تماماً مثل المنظمات الثقافية الأخرى والمنظمات غير الربحية؛ التي تهدف إلى خدمة الصالح العام. بالنظر إلى القطاع بأكمله، ينبغي مقاومة رواية أنّ المنظمات «القديمة» تختفي حتماً عند مواجهة «منظمة كبيرة وجديدة» أفضل. في الوقت نفسه، ينبغي مقاومة فكرة أنّ التاريخ العريق يضمن مستقبلاً ذا صلة بالواقع الجديد والمتغيّر، بل ينبغي على المنظمات أن تتفوق من خلال تبنّي وتكييف نقاط القوة في عالم الريادة الاجتماعية، مع إعطاء أهمية خاصة للتجريب وإطلاق شراكات فاعلة أثناء تحقيقها لأهداف مهماتها بطرق أكثر ابتكاراً.
اقرأ أيضاً: هل تعد الحركات الاجتماعية أكثر فاعلية من المنظمات؟
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.