لا يزال أكثر من 800 مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعيشون في فقر مدقع، وفقاً للبنك الدولي. وفي حين أن هناك تقدماً ملحوظاً في التخفيف من حدة الفقر المدقع على مدى العقود العديدة الماضية- ولاسيما في بلدان مثل الصين والهند- فإنهاؤه بالكامل ما يزال بعيد المنال.
وقد ازداد تأييد مجتمع التنمية العالمي لاستراتيجية واحدة لمكافحة الفقر في العالم: منح المال للمحتاجين. وقد لاقت هذه "التحويلات النقدية" دعماً من المنظمات الدولية (البنك الدولي)، وحكومات الدول (الولايات المتحدة)، وكذلك المؤسسات غير الربحية (غيف دايركتلي). حتى أن البعض اعتبر التحويلات النقدية حلاً سحرياً للخفيف حدة الفقر. فقد قالت نانسي بيردسال، المؤسسة المشاركة لمركز التنمية العالمية ذات مرة إن التحويلات النقدية "هي أمثل حل في مجال التنمية".
في كتابي الجديد "إغاثة الفقراء: لماذا لا يعد منح المال حلاً لمشكلة الفقر في العالم"، أرى أن التحويلات النقدية هي وسيلة معيبة لمعالجة الفقر المدقع.
فالبرامج النقدية لا تتصدى للمشاكل الهيكلية العميقة التي تبقي الناس فقراء، مثل العنصرية أو التحيز ضد المرأة، وعدم الحصول على التعليم الجيد أو الرعاية الصحية، وحتى الإقصاء السياسي. وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن للمال أن يشتري كل ما يحتاجه الفرد للهروب من الفقر، مثل المناخ المستقر أو المياه النظيفة أو الوصول إلى الأسواق. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تهمل البرامج النقدية بعض الأفراد أو تسبب لهم ضرراً مباشراً، لا سيما النساء والأطفال.
ونظراً لمحدودية التحويلات النقدية، فليس من المستغرب أن من يعيشون في فقر غالباً مايفضلون أشكالاً أخرى من الدعم. وأرى في نهاية المطاف أن تخفيف حدة الفقر على نحو مؤثر ومحترم يتطلب استجابة أوسع لأصوات الناس الذين يعيشون فيه، بدلاً من افتراض أن الأسواق تعرف الأفضل. وبعبارة أخرى، فإن القضاء على الفقر المدقع يتطلب النظر إلى ما هو أبعد من الحلول الجاهزة والتوجه نحو حل بديل شامل مصمم من القاعدة إلى القمة. هيث هندرسون.
ازداد انتشار برامج التحويلات النقدية -المعروفة أيضاً ببرامج الدخل المضمون أو الأساسي- على مدى العقود القليلة الماضية باعتبارها أدوات لمكافحة الفقر. وقد ترافق هذا النمو الهائل في عدد هذه البرامج حول العالم مع توسعات مماثلة في البحوث الأكاديمية والخطاب العام والتغطية الإعلامية التي تؤكد فوائد مساعدة المحتاجين بمنح نقدية مباشرة. وقد عملت منظمات دولية رائدة مثل البنك الدولي والأمم المتحدة على تمويل برامج التحويلات النقدية بصورة متزايدة، كما أنشئت مؤسسات خيرية مثل غيف دايركتلي لغرض وحيد هو التماس التبرعات وتوصيل الأموال إلى الأسر الفقيرة. وقد شهدت هذه المؤسسة وحدها، على مدار العقد الممتد من 2014 إلى 2024، زيادة في تحويلاتها النقدية من 3 ملايين دولار إلى 543 مليون دولار.
أعرب العديد من المؤثرين عن دعمهم للتحويلات النقدية. وقد أكد السياسي البريطاني روري ستيوارت (الذي عمل لمدة عام رئيساً لمؤسسة غيف دايركتلي) أن البرامج النقدية تضمن تحقيق أثر إيجابي استثنائي وأن برنامجاً أميركياً ممولًا بما فيه الكفاية يقدر أن "ينتشل الملايين من الفقر المدقع". وزعمت نانسي بيردسال، الشريكة المؤسسة لمركز التنمية العالمية ومقره واشنطن، بطريقة مستفزة أن هذا النهج هو "الحل الأمثل في مجال التنمية". وفي عام 2020، اشتهر رائد الأعمال أندرو يانغ بتركيزه في سعيه للترشح للرئاسة الأميركية عن الحزب الديمقراطي على وعده بـ "عائد الحرية"؛ وهو عبارة عن شيك شهري بقيمة 1,000 دولار أميركي يرسل إلى كل مواطن أميركي يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً أو أكثر. وبالمثل، دعا العديد من رواد الأعمال الآخرين، بما فيهم بيل غيتس وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ، إلى توفير دخل أساسي شامل. باختصار، هناك إجماع متزايد على أن التوزيع المباشر للمال هو الحل الأمثل لمشكلة الفقر.
ومع ذلك، تكشف نظرة فاحصة معمقة أن برامج التحويلات النقدية لها بعض القيود المقلقة، وتتمثل نقطة البداية المفيدة لفهم هذه القيود في تجربة ولاية جهارخاند الهندية؛ ففي شهر فبراير/شباط من عام 2018، احتشد أكثر من ألف شخص هناك للاحتجاج على برنامج تحويل الدعم النقدي المباشر من أجل دعم الغذاء، وهو برنامج تجريبي ألغى قدرتهم على شراء كمية من الأرز كل شهر بسعر مخفض بدرجة كبيرة، وبدلاً من ذلك منحهم مبلغاً نقدياً مكافئاً يودع في حساباتهم المصرفية. تجمع المحتجون عند تقاطع طرق بالقرب من بلدة ناغري وساروا مسافة ثمانية كيلومترات إلى مقر إقامة الحاكم في العاصمة رانشي. ولدى وصولهم، قدموا مذكرة إلى الحاكم كان نصها كالتالي: "نحن نطالب بالسحب الفوري لبرنامج تحويل الدعم النقدي المباشر التجريبي في ناغري، وعودة بيع كيلو الأرز بسعر روبية واحدة في متجر الحصص التموينية. وينبغي تعويض جميع الأسر التي لم تتمكن من شراء الأرز بسبب هذا البرنامجوفقاً لأحكام قانون الأمن الغذائي الوطني".
كان السياق الذي استند إليهء هذا البرنامج هو أن قانون الأمن الغذائي الوطني لعام 2013 قد نص على أن تزود الحكومة المركزية وحكومات الولايات الأسر ذات الدخل المنخفض في جميع أنحاء الهند بكميات كافية من الحبوب الغذائية عالية الجودة بأسعار معقولة. ولتحقيق ذلك، توسع القانون في نظام المعونة الغذائية القائم في ناغري، حيث كان بإمكان المستفيدين المؤهلين شراء كمية معينة من الأرز من متاجر محلية محددة مقابل روبية واحدة فقط للكيلوغرام الواحد. وفي أكتوبر/تشرين الأولمن عام 2017 بدأت حكومة جهارخاند تجربتها في تحويل الأموال بدلاً من ذلك إلى الحسابات المصرفية للأشخاص. لكن لم يغير التحويل النقدي قيمة الدعم لأي شخص يستخدم النقود ببساطة لشراء الحبوب نفسها. فالدعم المدفوع بسعر السوق، ولكن بالنقود المحولة، لا يزال كيلوغرام الأرز يكلفهم روبية واحدة. وفي نظر الكثيرين، فإن هذا التحول إلى المدفوعات النقدية المباشرة لا بد أن يحسن حال الناس، لأن خيار الإنفاق على سلع أخرى غير الأرز يمنحهم تحكماً أكبر في ميزانيات أسرهم. ومع ذلك، كان من الواضح أن العديد من سكان ناغري كانوا مستائين من هذا التغيير. كان جزء من المشكلة هو نظام الدفع، الذي خلق ارتباكاً حول مكان وموعد إرسال الأموال. وجد بعض الأشخاص أنفسهم يقومون برحلات متعددة إلى البنك كل شهر للتحقق من وصول الأموال. في إحدى الحالات، دفعت امرأة تدعى جامنا سانغا 32 روبية في كل مرة مقابل أربع رحلات إلى بلدة ناغري، حيث دفعت مرتين 20 روبية إلى وسيط "مراسل مصرفي" للتحقق من الرصيد في حسابها. وخلال هذه العملية، فاتها خمسة أيام عمل في فندق كان يدفع لها 150 روبية في اليوم، واضطرت ابنتها إلى التغيب عن المدرسة لجلب المياه في غيابها.
لا تقتصر المشكلات المتعلقة بالبرامج النقدية مثل برنامج تحويل الدعم المباشر على أنظمة الدفع. ففي أبريل/نيسان من عام 2018، أجرت حكومة ولاية جهارخاند تدقيقاً استطلعت فيه آراء أكثر من ثمانية آلاف مستفيد حول تجاربهم مع برنامج الإعانات النقدية المحلية. وأكد التدقيق أن تحصيل الاستحقاقات كان مرهقاً، وأظهر أن العديد من المستفيدين عجزوا عن سحب أموالهم. وعلى وجه التحديد، من بين الأقساط الستة التي كان يحق للمستفيدين الحصول عليها منذ بدء البرنامج، لم يطالب المستفيد في المتوسط سوى بـ 3.6 أقساط فقط. وما زاد الوضع سوءاً هو أنه، وفقاً للخبير الاقتصادي جان دريزيه، كان "كبار السن وأصحاب الإعاقات والمرضى والأكثر ضعفاً" هم الأقل احتمالاً للمطالبة بحصصهم من المساعدات المالية. وبالتالي كان الأشخاص الأكثر احتياجاً للمساعدة هم الأكثر عرضة للإهمال.
تحرم البرامج النقدية مثل برنامج تحويل الدعم النقدي المباشر الفئات الضعيفة بطرق أخرى أيضاً، فكما يصعب على هؤلاء الأشخاص تحصيل مزاياهم، يصعب عليهم الاستفادة منها أيضاً. في دراسة استقصائية مفصلة لآراء الناس حول التحويلات النقدية في تسع ولايات هندية بما فيها ولاية جهارخاند، أجرى فريق بقيادة الخبيرة الاقتصادية ريتيكا خيرا مقابلات مع ما يقرب من 1,200 أسرة ريفية فقيرة. فضل أكثر من ثلثيهم التحويلات العينية على النقدية، وكان أحد الشواغل البارزة هو محدودية حركة كبار السن وأصحاب الهمم والعديد من النساء، ما جعل من الصعب استخدام النقود لشراء سلع من الأسواق التي كانت أبعد من متاجر الحصص التموينية. على حد تعبير إحدى المشاركات، وهي أرملة من إحدى القبائل تبلغ من العمر ستين عاماً تدعى أيتوارباي: "من الصعب جداً الحصول على الأرز من السوق. أنا كبيرة جداً على الذهاب والبحث عن الأرز".
وقد أثارت دراسات أخرى عن التحويلات النقدية في الهند مخاوف مختلفة. وعلى الأخص، قد يعني قرار الحكومة بصرف التحويلات النقدية للأفراد أن الاستثمارات في بعض الخدمات العامة، مثل المدارس والعيادات والبنية التحتية، قد تتوقف. وفي هذه الحالة، يمكن أن تؤدي التحويلات النقدية إلى تقويض الاستثمارات التي يعتقد الفقراء أنفسهم أنها أكثر أهمية للتخفيف من حدة الفقر. وفي استطلاع للرأي أجري في عام 2018 في بيهار بالهند، سئل الناس عن أولوياتهم في الإنفاق الاجتماعي، فأظهروا تفضيلاً قوياً للاستثمار في الخدمات العامة على التحويلات النقدية. فمن أصل حوالي 830 مشاركاً في الاستطلاع، فضل 86% منهم الاستثمار في الصحة العامة على تلقي التحويلات النقدية، فيما فضل 65% الاستثمار في تحسين الطرقات على التحويلات النقدية.
ومن أوجه القصور الأخرى في البرامج النقدية أنها لا تعالج العوائق المنهجية أو الهيكلية التي تحول دون تخفيف حدة الفقر، بل إنها تعززها في بعض الأحيان. فقد أدى أحد البرامج في الهند، بسبب الشروط التي أرفقها بالتحويلات النقدية، إلى زيادة عدد حالات الحمل الأولى التي تخضع للإجهاض الانتقائي بسبب جنس الجنين بنسبة تتراوح بين 1.0 و2.3%. كان الهدف من برنامج ديفي روباك الذي طرح في عام 2002، عكس ذلك: مكافحة التمييز المستمر بين الجنسين في تنظيم الأسرة من خلال خلق حافز مالي لإنجاب البنات. ولكن نظراً لرغبة مصممي البرنامج في كبح جماح النمو السكاني، فقد اشترطوا أن توزع الأموال النقدية على الأسر التي لديها طفل واحد فقط، أو طفلين إذا كانتا بنتين. ومع ذلك، حافظت العديد من الأسر على تفضيلها القوي لإنجاب طفل واحد على الأقل، لذلك اتخذت الأسر تدابير لضمان أن يكون طفلها الأول (والوحيد) ذكراً للحصول على الإعانات. لم يفشل برنامج ديفي روباك في معالجة التمييز بين الجنسين فحسب، بل زاد المشكلة سوءاً.
مشاكل التحويلات النقدية لا تخص الهند فقط ولا توجد حلول سهلة. يمكن استخدام التطبيقات المصرفية على الأجهزة المحمولة باليد لجعل الحصول على الاستحقاقات أسهل، ولكن هذا يتطلب انتشار تكنولوجيا الهواتف المحمولة على نطاق واسع، الأمر الذي لم يكن مكتملاً في الهند عندما طبق نظام تحويل الدعم النقدي المباشر. فقد وجد تقرير صدر في عام 2015 أن نحو 36% من سكان الهند البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة يمتلكون هواتف محمولة، وهي تتوفر لدى 28% فقط من النساء، مقابل 43% من الرجال. وعلى أي حال، فإن تحويل الأموال بطرق غير البنوك لن يكون سوى حل جزئي، حيث سيظل العديد من الناس يعانون من محدودية الوصول إلى السوق، وعدم كفاية السلع العامة، والحواجز الهيكلية التي تحول دون التغلب على فقرهم. وكما سنرى، هناك مشاكل أخرى تتعلق بالتحويلات النقدية التي لا يمكن حلها ببساطة.
عارض ما يقرب من 97% من سكان ناغري تحويل الدعم النقدي المباشر واستجابت الحكومة في نهاية المطاف للضغوط بالعودة إلى النظام القديم في أغسطس/آب 2018. وللأسف، لم يكن هذا الحل مرضياً بأي حال من الأحوال، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن النظام القديم كان له تاريخ من الفساد الشديد. ومن الإحصائيات التي يستشهد بها مراجعة توزيعات 2004-2005؛ إذ اختلس وسطاء فاسدون %85 من الحبوب الغذائية. وعلى الرغم من تحسن النظام في السنوات الأخيرة، فما زالت هناك مشاكل مهمة؛ تفيد أسر كثيرة بأن بعض أفرادها غير مدرجين في بطاقاتها التموينية، كما أن تجار الحصص التموينية يعطون الناس باستمرار أقل من حصصهم المقررة، ونظام التوثيق البيومتري معطل أغلب الأحيان. لا تمثل حالة ناغري دليلاً قوياً على تفوق نظام الدعم العيني.
المفهوم بسيط ومغرٍ: إعطاء الناس أموالاً نقدية لانتشالهم من الفقر. ومع ذلك، قد تكون البساطة مضللة، وعندما يتعلق الأمر بمكافحة الفقر المدقع، فإن التحويلات النقدية تتضمن قيوداً مهمة تظهر في جميع أنواع برامج التحويلات النقدية المختلفة بغض النظر عن طبيعة البلدان وسياقاتها. والهدف من هذا الكتاب ليس توثيق هذه القيود فقط ولكن في نهاية المطاف اقتراح بديل أكثر استجابة لاحتياجات الأفراد الذين يعيشون في فقر. فبدلاً من اتباع نهج واحد يناسب الجميع لتخفيف حدة الفقر، تتطلب مكافحة الظلم الاقتصادي مبادرات تطويرية جذرية وديمقراطية. يبدأ طرح هذا البديل بهذا الفصل الذي يقيم الأنواع المختلفة من البرامج النقدية، ويستعرض تاريخاً موجزاً للتحويلات النقدية، ويتناول تطور هذا النقاش في الفصول المتبقية.