تمتاز السياحة الخضراء بالتزامها بتقليل الآثار البيئية السلبية، والحفاظ على التراث الثقافي، وتعزيز المنافع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المحلية. ولا يقتصر هذا النهج على مجتمعات محددة، بل يمثل ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة على نطاق عالمي.
وبالنسبة للوجهات التي تواجه ضغوطاً بيئية ونمواً سريعاً في أعداد الزوار، مثل دولة الإمارات، توائم السياسات الخضراء قطاع السياحة مع أهداف المناخ وحماية التنوع البيولوجي، ما يحول الإدارة البيئية إلى ميزة تنافسية ومحرك للمرونة على المدى الطويل.
وفي الوقت الذي تستهدف فيه الإمارات رفع إسهام القطاع السياحي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 450 مليار درهم، وجذب استثمارات جديدة بقيمة 100 مليار درهم، تبرز أهمية تبني النهج الأخضر الذي يلامس أبعاداً بيئية واقتصادية واجتماعية؛ فمن ناحية، تسهم السياحة الخضراء في تقليل البصمة الكربونية من خلال الاستخدام الفعال للموارد، ومن ناحية أخرى، تخلق فرص عمل جديدة وقيمة اقتصادية مضافة، ومن ناحية ثالثة، تعزز العدالة الاجتماعية من خلال الحفاظ على التراث واحترام التقاليد المحلية.
استكشاف المشهد: تحديات السياحة الخضراء
على الرغم من الفوائد الجلية للسياحة الخضراء، فإنها لا تخلو من العقبات. وقد رصد الباحثون مايا خاطر، وياسين شامي، ودينا عماد، ونجوى أبوهيبة من جامعة أبوظبي، في دراستهم "تقييم أثر السياحة الخضراء على التنمية المستدامة: دراسة حالة دولة الإمارات العربية المتحدة" التحديات التي تواجه تحقيق التكامل التام بين تنمية السياحة وأهداف الاستدامة. وتمثلت في:
- فجوات الوعي والفهم
يعد نقص الفهم والوعي الواسع النطاق بالمفاهيم الأساسية للسياحة "الخضراء" و"البيئية" و"المستدامة" أحد التحديات الرئيسية. هذه المفاهيم، على الرغم من شيوعها المتزايد، قد تكون معقدة ويمكن أن تؤدي إلى التباس أو سوء تفسير بين عامة الناس، وحتى داخل القطاع نفسه.
وقد يعوق هذا الغموض تبني ممارسات مستدامة حقيقية، ويجعل من الصعب التمييز بين الجهود الحقيقية و"التضليل الأخضر" السطحي.
- الاستثمار المالي والمخاطر المتصورة
غالباً ما يشكل الجانب المالي عائقاً كبيراً؛ إذ إن تطبيق الممارسات المستدامة، والاستثمار في البنية التحتية الخضراء، والحصول على الشهادات، كلها أمور قد تستلزم تكاليف أولية باهظة.
وقد ترى الشركات أن هذه الاستثمارات محفوفة بالمخاطر المالية، ولا سيما في سوق تنافسية، ما يجعل الخيارات التقليدية الأقل استدامة أكثر فعالية من حيث التكلفة على المدى القصير. ويمكن أن يثني هذا القيد المالي صغار المشغلين ويحد من اعتماد تدابير الاستدامة البيئية الأساسية على نطاق واسع.
- نقص البنية التحتية والخبرة
يفتقر العديد من الوجهات إلى البنية التحتية اللازمة لدعم السياحة الخضراء بفعالية. ويشمل ذلك نقص خيارات النقل المستدامة، مثل محطات شحن السيارات الكهربائية أو المسارات المخصصة لركوب الدراجات.
علاوة على ذلك، هناك حاجة متزايدة إلى عمالة ماهرة وخبرة متخصصة في أنشطة السياحة الخضراء، بدءاً من إدارة النزل والفنادق ووصولاً إلى ممارسات الإرشاد السياحي المستدامة؛ فمن دون بنية تحتية كافية وقوى عاملة مدربة، تبقى إمكانات السياحة الخضراء غير مستغلة.
مبادرات خضراء تعزز النموذج المستدام
عملت الإمارات على مواجهة هذه التحديات من خلال سلسلة من المبادرات الشاملة لتعزيز السياحة الخضراء، ودمجها في رؤيتها واستراتيجياتها الوطنية، منها مبادرة "السياحة المستدامة في دبي"، التي تفرض 19 متطلباً على الفنادق لاتباع النهج المستدام للسياحة المستدامة، ونجحت مبادرة "دبي كان" في التخلص من أكثر من 18 مليون زجاجة مياه بلاستيكية خلال عامين عبر محطات التعبئة العامة، في خطوة تبين أثر التدخلات الدائرية في سلوك المقيمين والزوار. وعلى المستوى الوطني، تعزز سياسات حظر البلاستيك الأحادي الاستخدام المطبقة على مراحل الاقتصاد الدائري عمليات السياحة وسلوك الزائرين.
وعالمياً، تتبنى بعض الدول أفضل الممارسات في مجال السياحة الخضراء. على سبيل المثال، تشتهر نيوزيلندا بدمجها السلس لثقافة شعب الماوري الأصلي في عروضها السياحية البيئية، ما يعزز الشمولية الاجتماعية إلى جانب حماية البيئة، وتفرض كوستاريكا أنظمة اعتماد صارمة للسياحة المستدامة مع تركيز قوي على الحفاظ على التنوع البيولوجي والمشاركة المجتمعية، أما بوتان، فتعتمد سياسة سياحية "عالية القيمة، منخفضة التأثير"، تضع حداً أقصى لعدد الزوار لحماية أنظمتها البيئية وسلامتها الثقافية.
ومن جهة أخرى، تظهر الوجهات المتقدمة في مجال السياحة والسفر مثل إسبانيا واليابان تسارعاً في البنية التحتية والمدن الذكية والسياسات المحكمة بما يعزز القدرة التنافسية والأهداف البيئية معاً.
وبالتالي، يمكن للإمارات الاستفادة من هذه النماذج لتحسين استراتيجياتها، بما يضمن أن يكون نموها في مجال السياحة المستدامة مؤثراً ومسؤولاً، وتجنب مخاطر التنمية غير المنضبطة. وتتضمن الدروس الرئيسية: دمج الشهادات على مستوى الوجهات، وفرض المحاسبة المتعلقة بالكربون والموارد، وتوسيع أنظمة إعادة التعبئة وإعادة الاستخدام، ودمج إدارة التراث والتنوع البيولوجي في العروض السياحية.
خطوات للمضي قدماً
يتطلب تعظيم أثر السياحة الخضراء اتخاذ خطوات محكمة ومتكاملة، أبرزها:
- تعزيز مبادرات التعليم والتدريب، وبناء الخبرات، وزياد التوعية، من خلال توسيع نطاق البرامج المتخصصة، على غرار دورات "نهج دبي" في مجال السياحة المستدامة، لتطوير الخبرات لدى العاملين في قطاع الضيافة ومنظمي الرحلات السياحية. وهذا يضمن ترسيخ مبادئ الاستدامة في جميع أنحاء القطاع. كما ينبغي أن تستهدف الحملات التعليمية السياح والسكان المحليين لتعزيز فهم الممارسات الخضراء وتقديرها.
- تشجيع تبني الممارسات الخضراء على نطاق واسع من خلال وضع شهادات استدامة صارمة لجميع شركات السياحة، وتطبيقها وربطها بحوافز مالية أو تنظيمية ملموسة، ومكافأة المشغلين المهتمين بالبيئة، ومكافحة التضليل البيئي من خلال توفير تحقق موثوق من جهود الاستدامة.
- تعزيز مشاركة المجتمع المحلي في تخطيط السياحة الخضراء وتطويرها وتقاسم منافعها. وهذا يضمن الشمولية الاجتماعية، ويحافظ على التراث الثقافي، ويمكن السكان من أن يكونوا شركاء فاعلين في التنمية السياحية.
- توسيع نطاق البرامج الثقافية والتراثية لإثراء التجارب السياحية وإبراز الطابع الفريد للمناظر الطبيعية في الإمارات.
- زيادة الوعي العام بالسياحة الخضراء عبر مختلف القنوات الإعلامية وإشراك المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي في الترويج لمبادرات السياحة الخضراء.
- الاستفادة من التكنولوجيا والرؤى المستندة إلى البيانات لتحسين الكفاءة والشفافية؛ إذ يساعد الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء على مراقبة كفاءة الموارد في الوقت الفعلي، وإدارة الزوار، وتوفير تجارب سفر مستدامة مخصصة. كما تمكن الأدوات الرقمية من تتبع انبعاثات الكربون وتوفير خرائط استدامة شفافة، ما يحسن الكفاءة التشغيلية ويسهل عملية اتخاذ القرارات لدى المسافرين.
وفي نهاية المطاف، يتطلب النجاح في رحلة التحول إلى السياحة الخضراء مواصلة الاستثمار في التعليم، وبرامج الاعتماد الفعالة، والبنية التحتية المستدامة، والمشاركة المجتمعية، بما يحقق مكاسب شاملة ومستدامة للمقاصد والمجتمعات والبيئة.