أصبح التفاوت الاقتصادي والاجتماعي أكثر عمقاً، والتغيرات المناخية لا تفاقم هذا التفاوت فقط، بل تحوله إلى تهديد وجودي؛ فالفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة باتت ضحية الأزمات البيئية، ما يهدد بعودة جماعية إلى الفقر المدقع إذا لم تتخذ إجراءات تنموية مستدامة. وفي مواجهة هذه الأخطار المتشابكة، يبرز نموذج "الاقتصاد الاجتماعي والتضامني"، بوصفه مدخلاً شاملاً يعيد ترتيب الأولويات؛ فهو لا يعتمد على تحقيق الأرباح فحسب، بل يضع الإنسان -بحاجاته وتنوعه- في قلب الاقتصاد من خلال التضامن وتحقيق العدالة الاجتماعية.
الاقتصاد والتنمية: علاقة تكامل
إن الاقتصاد الذي ينمو دون تنمية اجتماعية حقيقية يولد هشاشة داخلية، ويسرع من اتساع الفجوات بين الطبقات، فيتحول من قوة بناء إلى عنصر تهديد للاستقرار السياسي والاجتماعي. وفي المقابل، إذا ظلت العدالة الاجتماعية خطاباً مثالياً غير مؤسس على قاعدة نمو اقتصادي حقيقي، فإنها تفقد معناها وتبقى شعاراً أخلاقياً بلا أفق تطبيقي.
ومن هنا، تخلق التنمية الاقتصادية الاجتماعية إطاراً كلياً يجمع بين مقاصد العدالة ومقتضيات النمو، وروح المجتمع وواقع المنظومة الاقتصادية، وطموح الدولة واحتياجات الفرد، وبالتالي، فإن المؤشرات الاقتصادية وحدها لم تعد كافية للحكم على نجاح الدول؛ لأن بعض الاقتصادات قد تتصدر قوائم النمو، لكنها تفشل في تحقيق الانسجام الاجتماعي، أو في حماية الفئات المحدودة الدخل، أو تقديم مساهمات تنموية خارجية تعزز مكانتها الدولية.
ويقدر تقرير للأمم المتحدة أن الاقتصاد الاجتماعي يمثل نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويسهم في زيادة معدلات التوظيف، وفي أوقات التحديات المتعددة والمترابطة، تعزز مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي المجتمعات وتساعدها على إدارة التحولات الرئيسية، مقارنة بالاقتصادات التقليدية الأخرى.
يوضح ذلك أهمية التكامل بين الجهات الفاعلة في الاقتصاد الاجتماعي وضرورة تقاطع أدوار الفاعلين في مختلف المجالات، بدءاً من الجمعيات التعاونية والمبادرات الاجتماعية، مروراً بالمنظمات غير الحكومية والمؤسسات التطوعية، وصولاً إلى المؤسسات التقليدية ذات التوجه الربحي. وتكمن أهمية هذا التصور في تسليط الضوء على الترابط الوظيفي بين مختلف الفاعلين، ما يعكس إمكانية بناء شراكات تنموية فعالة تسهم في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
الاقتصاد الاجتماعي: توجه عالمي نحو مجتمع عادل ومستدام
يركز الاقتصاد الاجتماعي على النمو الذي يولد الفرص مع ترسيخ عدالة اجتماعية تضمن توزيعاً متوازناً لهذه الفرص، ومساهمات ذات أثر مستدام. على سبيل المثال، تعمل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي في أوروبا، والبالغ عددها 2.8 مليون مؤسسة، على توفير فرص عمل للفئات الأكثر هشاشة، ودعم الإدماج الاجتماعي، وتقديم حلول مستدامة للتحديات البيئية والاقتصادية. وفي أميركا الجنوبية، طور السكان الأصليون قارباً يعمل بالطاقة الشمسية في منطقة الأمازون الإكوادورية، وساهموا في تحسين التعليم المحلي والسياحة المجتمعية باستخدام الألواح الشمسية في مجتمعاتهم.
أما في إفريقيا، فقد ساعد مشروع "بيرن" في نيجيريا للطاقة المستدامة على تحسين صحة الأسر من خلال تقليل الانبعاثات الضارة في المنازل، وخفض التكاليف المعيشية المرتبطة بالطاقة التقليدية، وفتح في الوقت نفسه آفاقاً واسعة لتشغيل الشباب والنساء، ما عزز استقلالهم الاقتصادي ومكانتهم المجتمعية.
وفي المملكة العربية السعودية، تركز مشاريع رؤية 2030 ومبادراتها على الأثر الاستراتيجي الذي تحدثه في المجتمع والاقتصاد، وخلق القيمة من خلال بناء قدرات بشرية مؤهلة، وتعزيز الاقتصاد المستدام والتقنيات الحديثة.
5 إجراءات للنهوض بالاقتصاد الاجتماعي
يقدم تقرير "إطلاق العنان للاقتصاد الاجتماعي" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في مايو/أيار 2022، خمسة إجراءات أساسية للنهوض بهذا القطاع التنموي المختلف، وهي:
1. إنشاء أطر تنظيمية واضحة وداعمة
الاعتراف السياسي بجهات الاقتصاد الاجتماعي، والحوار المنتظم معها، ووضع أطر تنظيمية داعمة لها. يتضمن ذلك إنشاء تعريفات قانونية واضحة، وإصدار تشريعات مخصصة، وتطبيق أطر تنظيمية تعترف بالخصائص الفريدة لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي.
2. توفير حوافز مالية وتشجيع الاستثمار
يمكن للحكومات تعزيز نمو الاقتصاد الاجتماعي من خلال تعزيز الاستثمار العام، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار، ويشمل ذلك:
- تقديم حوافز مالية وإعفاءات ضريبية.
- إزالة العوائق التنظيمية أمام المستثمرين الاجتماعيين.
- تقليل مخاطر التمويل الخاص من خلال الضمانات.
- تطوير آليات تمويل هجينة تجمع بين الاستثمار العام والاستثمار الخاص.
- إنشاء برامج تمويل متخصصة.
3. توسيع التعليم والبحث
إن تعزيز التعليم والبحث في مجالات الابتكار الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية، والاقتصاد الاجتماعي في المدارس والجامعات يدعم رؤية القطاع ويجذب المواهب. ويشمل ذلك دمج مفاهيم الاقتصاد الاجتماعي في المناهج الدراسية، وتمويل مبادرات البحث، وإنشاء برامج توعية.
4. تطوير سياسات شراء عامة وخاصة أكثر شمولاً
يمكن للقطاع العام شراء السلع والخدمات من المؤسسات التي تقدم قيمة اجتماعية وبيئية، لدعم إعادة دمج العاطلين عن العمل على المدى الطويل في سوق العمل، وكذلك دمج الفئات المستبعدة أو الضعيفة في الوظائف والشبكات الاجتماعية.
5. جمع بيانات دقيقة عن الأثر الاجتماعي
لزيادة رؤية القطاع، ينبغي للحكومات قياس إحصائيات الاقتصاد الاجتماعي وعرضها بطريقة منهجية تتجاوز المؤشرات الاقتصادية التقليدية. يتضمن ذلك قياس التأثيرات الاجتماعية والبيئية باستخدام مؤشرات تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي، مثل "مؤشر التقدم الاجتماعي"، الذي يقيس مدى تلبية الاحتياجات الاجتماعية للمواطنين من خلال 3 أبعاد: الاحتياجات الأساسية، وأسس الرفاه، والفرص.
بالمحصلة، إن إعادة صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع، والدولة والمنظومة الاقتصادية، لا تعني إعادة ترتيب أدوار تقليدية بقدر ما تعني هندسة جديدة لمنظومة القيم والمؤسسات التي يرتكز عليها الاقتصاد المعاصر، وهنا لا يصبح الفرد مستهلكاً أو عاملاً، بل مشاركاً في صناعة القرار التنموي.
وإضافة إلى ما سبق، فإن المجتمع بدوره لم يعد متلقياً لنتائج السياسات الاقتصادية، بل تحول إلى فاعل جماعي، يشارك في رسم التوجهات، ويعكس ديناميكيته الثقافية والاجتماعية في توجيه خيارات الجهات الحكومية والمنظومة الاقتصادية معاً.
هذا التحول يرسخ فكرة أن التنمية لا تكمن فقط في محوري "الهندسة المالية" أو "إدارة الموارد"، بل هي "إدارة للمعنى"، حيث يعاد تعريف النجاح الاقتصادي بوصفه نجاحاً في حماية الإنسان من التهميش، وتمكينه من الإسهام في صياغة مستقبله التنموي.