وضع الأسس المناسبة لتعزيز جهود الحكومة في مكافحة الفقر

7 دقيقة
جهود مكافحة الفقر
shutterstock.com/Ranta Images

في شهر سبتمبر/أيلول عام 2024، نشرت مجلة ذي إيكونومست مقالاً يطرح السؤال المهم التالي: هل تستطيع البرامج التنموية المستندة إلى أدلة مثبتة، مثل التي دعت إليها الخبيرة الاقتصادية الحائزة جائزة نوبل، إستير دوفلو، أن تتوسع بطريقة فعالة لمواجهة التحديات المتزايدة للفقر المدقع؟

بلغت التحديات والمخاطر مستوى غير مسبوق، فقد خفضت الإدارة الفيدرالية الأميركية 83% من برامج المساعدات الخارجية خلال أول 6 أسابيع من ولايتها في وقت سابق من هذا العام، في حين أعادت الحكومات الأوروبية تخصيص جزء كبير من المساعدات للإنفاق العسكري. نتيجة لذلك، تواجه المؤسسات غير الحكومية واقعاً جديداً وصعباً يتمثل في عدم جدوى النماذج التقليدية المعتمدة على الجهات المانحة لتمويل البرامج والمبادرات الوطنية، التي تهدف إلى مواجهة الفقر، وتنفيذها.

وعلى الرغم من ذلك، فإن تضاؤل حجم المساعدات الخارجية الغربية الواسعة النطاق لا يعني نهاية الجهود الفعالة وذات الأثر الكبير في الحد من الفقر. تستطيع المؤسسات غير الحكومية التكيف مع هذا الواقع من خلال إعطاء الأولوية لإنشاء الشراكات مع حكومات الدول ذات الدخل المنخفض. يمكن للمؤسسات غير الحكومية توسيع نطاق استراتيجيات الحد من الفقر التي أثبتت فعاليتها وضمان استمراريتها على الرغم من تقليص المساعدات، وذلك من خلال تعزيز قدرات الحكومات وتوليها مسؤولية تنفيذ البرامج وترسيخ الثقة على المستوى المحلي واعتماد نماذج تمويل قائمة على النتائج، بالإضافة إلى الابتكار المستمر.

تعزيز قدرات الحكومات وتوليها مسؤولية تنفيذ البرامج

تمثل الاستدامة أحد أهم عناصر الشراكات التي تهدف إلى توسيع نطاق المبادرات التنموية الكبرى ضمن الأنظمة الحكومية. فبدلاً من إنشاء أنظمة موازية، يجب على المؤسسات غير الحكومية مساعدة الحكومات على تعزيز قدراتها لتنفيذ البرامج وتوسيع نطاقها بمفردها، مع تعديل النماذج بما يتناسب مع الواقع المالي والمؤسسي والاجتماعي للحكومات.

يمكن توضيح كيفية تحقيق ذلك من خلال عملنا في مؤسسة فيليدج إنتربرايز غير الربحية التي تهدف إلى كسر حلقة الفقر الممتدة عبر الأجيال من خلال ريادة الأعمال. تعمل المؤسسة مع حكومة رواندا منذ عام 2023 لتزويد متطوعي العمل الاجتماعي من المجتمع المحلي بالمهارات اللازمة لتنفيذ نموذج فعال للقضاء التدريجي على الفقر يشمل 8,100 أسرة. يتضمن ذلك تدريب العاملين على مساعدة المشاركين في البرنامج على تشكيل مجموعات ادخار مجتمعية وتطوير مهاراتهم في ريادة الأعمال وتقديم الدعم المستمر من خلال توفير برامج إرشادية لتطوير الأعمال التجارية. والأهم من ذلك، ستسمح هذه الجهود للحكومة بالوصول إلى الفئات المستهدفة بطريقة مستدامة وفعالة من حيث التكلفة، وذلك من خلال الاستفادة من الموارد البشرية المتوفرة لتقديم مجموعة واسعة من الخدمات لعدد أكبر من الأشخاص.

تعمل مؤسسة فيليدج إنتربرايز أيضاً مع حكومة جمهورية كينيا من خلال مشروع الإدماج الاجتماعي والاقتصادي في كينيا وهو مبادرة تحظى بتمويل من البنك الدولي. اعتمد الجانب الاقتصادي في هذا المشروع نهجاً تدريجياً للخروج من دائرة الفقر لتمكين الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع من اكتساب المهارات الضرورية في ريادة الأعمال ومساعدتهم على إنشاء مشاريع متناهية الصغر. في عام 2021، بدأت مؤسسة فيليدج إنتربرايز بالتعاون مع شركائها، مؤسسة غلوبال ديفيلوبمنت إنكيوبيتور ومؤسسة بوما بتنفيذ البرنامج مباشرةً، في حين كان المسؤولون الحكوميون يكتسبون الخبرة من خلال التعاون الوثيق. وقد تضمن هذا التعاون حضور هؤلاء المسؤولين الجلسات التدريبية التي أجراها أعضاء فريق مؤسسة فيليدج إنتربرايز في مجال ريادة الأعمال. منذ عام 2024، تولت الحكومة قيادة تنفيذ البرنامج، في حين اقتصر دور المؤسسات الأخرى على تقديم المساعدة والدعم الفني.

وقد أتاح هذا التنظيم المتسلسل للحكومة التعلم من خلال الممارسة قبل أن تتولى المسؤولية الكاملة، كما سمح لها بابتكار نموذجها الخاص للقضاء التدريجي على الفقر، بحيث يتضمن فترة تنفيذ أطول ومنح رأس مال أولي أكبر، بالإضافة إلى تقديم معونة استهلاكية مدة 12 شهراً. كما حفز مشروع الإدماج الاجتماعي والاقتصادي في كينيا تطوير نظام معلومات إداري يتكامل مع السجل الاجتماعي الوطني لتعزيز عملية استهداف البرنامج للمستفيدين وتتبع عملية التنفيذ. في الوقت الحالي، أصبحت الحكومة تمتلك فريقاً من الخبراء المتخصصين الذين يتمتعون بخبرة تزيد على 4 سنوات في تنفيذ برنامج القضاء التدريجي على الفقر.

يتطلب التحول الناجح أيضاً تأمين الدعم وتحقيق التوافق عبر المستويات الحكومية المختلفة. على سبيل المثال، في بداية الشراكة في رواندا، عملت مؤسسة فيليدج إنتربرايز على إلحاق أحد موظفيها للعمل في وكالة تطوير الهيئات الإدارية المحلية التابعة للحكومة للمساهمة في تطوير برنامج تدريبي للعاملين في مجال الرعاية الاجتماعية وتعزيز الفهم المشترك لنهج القضاء التدريجي على الفقر. أسهم هذا الموظف في نقل خبرة مؤسسة فيليدج إنتربرايز إلى الوكالة من خلال المشاركة في اجتماعات التخطيط وتقديم المشورة بشأن استراتيجيات التنفيذ وتدريب الموظفين الحكوميين باستمرار. أسهم هذا الإجراء في التغلب على التحديات السياسية والمشكلات والمخاوف المالية المرتبطة بتنفيذ البرنامج.

تطلب تنفيذ البرنامج في رواندا في البداية تنسيق الجهود لتحقيق التوافق بين 3 جهات مختلفة من حيث طبيعتها ومهامها ولكنها في الوقت نفسه مترابطة من حيث أهدافها؛ إذ تعمل معاً لتحقيق هدف مشترك، وهذه الجهات هي وكالة محلية مكلفة بتنفيذ برنامج القضاء التدريجي على الفقر ووزارة تتمتع بسلطة وضع السياسات والميزانية ووكالة معنية بتحديد معايير نظام تتبع النتائج. لدعم هذه الجهود وتسهيل التنفيذ، عينت مؤسسة فيليدج إنتربرايز موظفاً بدوام كامل لدعم التنسيق الحكومي ومولت تطوير مواد تدريبية مخصصة للسياق المحلي ووفرت موارد تقنية عينية أو غير نقدية، ما أدى إلى تسريع تبني صانعي السياسات للبرنامج وفتح المجال أمام دمجه في منظومة الخدمات الاجتماعية في رواندا.

ترسيخ الثقة على المستوى المحلي

يتطلب تأمين الدعم والتمويل اللازم للتوسع على المستويين المحلي والإقليمي اتباع نهج دقيق ومحدد وبذل جهود دؤوبة لتعزيز الثقة بين السياسيين المحليين وصناع القرار. يمكن أن يسهم إثبات أثر البرنامج وفعاليته من خلال مشاريع تجريبية ممولة ذاتياً وتعديل النماذج لتتناسب مع أولويات المجتمع المحلي واحتياجاته في تحقيق الأهداف المرجوة.

لإثبات فعالية نموذج القضاء التدريجي على الفقر في رواندا في عام 2021، استخدمت مؤسسة فيليدج إنتربرايز مواردها الذاتية لتنفيذ البرنامج في مقاطعة روليندو، ثم دعت قادة المقاطعة لمتابعة أجزاء من الدورة التدريبية لريادة الأعمال التي استمرت 9 أسابيع والاجتماع مع المشاركين. كما أجرى القادة الذين يعيشون في المجتمعات نفسها عمليات متابعة غير رسمية لتقييم الأثر على المدى الطويل. أدت هذه التفاعلات إلى تعزيز الثقة وإقناع المسؤولين المحليين بأن استثماراتهم ستحقق نتائج إيجابية، ما أدى إلى التزام 4 حكومات محلية بتوفير التمويل اللازم لتوسيع نطاق تطبيق النموذج في مناطقها.

في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز الثقة المحلية وضمان الحفاظ عليها، بدأت مؤسسة فيليدج إنتربرايز، بدعم من مؤسسة بيل ومليندا غيتس فاونديشن، بالعمل مع حكومات مقاطعات ماكويني وتايتا تافيتا وويست بوكوت في كينيا في عام 2024 لتطوير سياسات تسمح لها بتخصيص مزيد من الموارد لبرامج القضاء التدريجي على الفقر. كما تتلقى المقاطعات أنظمة معلومات إدارية مخصصة لقياس أثر البرنامج وتحسينه. رأت حكومات المقاطعات أن استعداد مؤسسة فيليدج إنتربرايز للمساعدة على تصميم سياسات تتناسب مع الظروف المحلية وتقديم أنظمة لقياس الأثر يعكس التزامها وحرصها على ضمان تلبية البرنامج لاحتياجاتها المحددة.

اعتماد نماذج تمويل قائمة على النتائج

لا تستطيع الحكومات دائماً تحمل تكاليف الأنظمة والرقابة اللازمة لإدارة العمليات المعقدة والمتعددة الخطوات بكفاءة، مثل تحديد الفئات المستفيدة وتوزيع المنح وتنفيذ البرامج التدريبية. وقد يؤدي ذلك إلى تأخير التنفيذ وفقدان ثقة المستفيدين أو حتى إيقاف البرنامج. يسهم التمويل القائم على النتائج في تحفيز الابتكار وضمان مساءلة المؤسسات المنفذة، وذلك من خلال ربط تمويل البرنامج بالنتائج المثبتة. يساعد هذا النهج على ضمان توزيع الشركاء للموارد المحدودة بكفاءة، ما يحقق أقصى قيمة ممكنة لكل من الحكومات والمجتمعات المستفيدة.

على سبيل المثال، عملت شركة إنستيغليو الاستشارية غير الربحية مع الحكومة الكولومبية منذ عام 2017 لتطبيق النهج القائم على النتائج في السياسة العامة، ما أحدث تحولاً في كيفية إنفاق صانعي السياسات للأموال العامة وقياس النتائج والأثر. عملت الشركة بالتعاون مع وزارة الازدهار الاجتماعي في كولومبيا على تصميم أول سندين للأثر الاجتماعي في البلاد وتنفيذهما (مزيد من التفاصيل هنا وهنا) لتحقيق نتائج ملموسة في مجال التنسيب الوظيفي. أدى نجاح هذه المشاريع وإثبات فعاليتها من حيث التكلفة في النهاية إلى إدراج التمويل القائم على النتائج في خطط التنمية الوطنية في كولومبيا للفترتين من عام 2018 إلى عام 2022، ومن عام 2022 إلى علم 2026.

ومنذ ذلك الحين، قدمت شركة إنستيغليو الدعم للحكومة في إنشاء صندوق لوغرا للتمويل القائم على النتائج، وهو أول صندوق حكومي لهذا النوع من التمويل في كولومبيا، الذي يهدف إلى زيادة فرص العمل في القطاع الرسمي، بالإضافة إلى مشاريع التمويل القائم على النتائج التي تركز على تحقيق أهداف، مثل الحد من معاودة الإجرام وتعزيز البرامج التدريبية من أجل التنسيب الوظيفي في قطاع الطاقة. يركز أحد مشاريع الشركة في كولومبيا حالياً على تحسين نتائج تنمية الطفولة المبكرة باستخدام نموذج التمويل القائم على النتائج لتحسين الحضور والأداء وجودة الخدمات.

الابتكار المستمر

على الرغم من إنفاق مليارات الدولارات على برامج التنمية سنوياً، فإن هذه البرامج تحقق نتائج متفاوتة. يجب على المؤسسات غير الحكومية تقديم مبادرات تحقق نتائج فورية للحكومات التي تعاني شح الموارد وتواجه أولويات متزاحمة، ولكن يجب عليها أيضاً مواصلة الابتكار.

يوضح أول سند للأثر التنموي في إفريقيا لمكافحة الفقر، الذي نفذ في الفترة بين شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 وشهر ديسمبر/كانون الأول عام  2020، الإمكانات التي توفرها الأساليب القائمة على النتائج في تمويل التنمية. في هذا السياق، وفر 9 مستثمرين رأس المال التشغيلي اللازم لتمويل تنفيذ برنامج مؤسسة فيليدج إنتربرايز للقضاء التدريجي على الفقر في كينيا وأوغندا. استند المشروع إلى تقييم مستقل لتحديد النتائج والتأكد من إمكانية حصول المستثمرين على عائد على استثماراتهم من الجهات الممولة للنتائج، وهي مبادرات الابتكار التنموي التابعة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس أيد) ووزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية. كشف التقييم أن البرنامج حقق نتائج تفوق التوقعات؛ إذ أدى إلى تحسين سبل عيش 95,000 شخص في شرق إفريقيا. وقد أثبت نجاح المشروع قدرة التمويل القائم على النتائج على ضمان استدامة الأثر وتوسيع نطاقه، حتى في مواجهة الأزمات والتحديات الخارجية مثل جائحة كوفيد-19، بالإضافة إلى دوره في اتخاذ الحكومة في رواندا قرار الدخول في شراكة مع مؤسسة فيليدج إنتربرايز في عام 2023.

وعلى الرغم من ذلك، فإن مؤسسة فيليدج إنتربرايز تواصل اختبار ابتكارات جديدة بهدف تعزيز فعالية النموذج من حيث التكلفة وزيادة قابلية تطبيقه في دول أخرى. فعلى سبيل المثال، سمح مشروعها التجريبي الأول لنهج القضاء على الفقر المعزز رقمياً لأعضاء الفريق بتدريب عدد أكبر من رواد الأعمال (أكثر من 5 أضعاف العدد المعتاد) على الأعمال التجارية خلال عام واحد فقط، ومن المقرر إطلاق تجارب إضافية قريباً.

في ظل الغموض الذي يحيط بمستقبل المساعدات الدولية، يجب على المؤسسات غير الحكومية إيجاد طرق لتمويل البرامج المستندة إلى أدلة مثبتة وتوسيع نطاقها. يمكن أن يسهم التركيز على إنشاء الشراكات الحكومية ووضع الأسس المناسبة للعمل في استمرار التقدم في ظل تقلص الدعم المقدم من الجهات المانحة.

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.                

المحتوى محمي