تواجه الحركة الإنسانية العالمية تحديات غير مسبوقة، ومع تراجع دور الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس أيد)، بات من الواضح أننا بحاجة إلى نماذج وأساليب جديدة إذا أردنا إحياء هذا القطاع الإنساني العالمي أو حتى إنعاشه؛ فالنماذج الحالية للعمل الخيري غير الحكومي لا تستطيع بمفردها سد الفجوة التي خلفها التراجع المفاجئ في المساعدات التنموية الأميركية (الذي جاء بدوره بعد تراجع تدريجي في المساعدات المقدمة من المملكة المتحدة)، وعلينا أن ندرك أن الأشهر المقبلة قد تشهد انهيار مؤسسات فعالة وقطاعات فرعية كاملة، مثل الجهود المبذولة لمكافحة الأمراض المدارية المهملة والقضاء عليها.
ومع ذلك علينا، نحن المنخرطين في جهود التكافل الدولي، أن نتجاوز حالة الانكماش الراهنة وأن نبحث عن أفكار جديدة ومصادر بديلة للموارد. ومن بين أكثر هذه الأفكار الواعدة: تحسين حجم العمل الخيري غير الحكومي في أوساط الجاليات وجودته، مع الحرص في الوقت نفسه على إشراك الأجيال الشابة من أبناء المهاجرين المنحدرين من دول الجنوب في هذا المجال الحيوي؛ فالثروات والنفوذ المتناميان لدى الجاليات في مختلف أنحاء العالم يمكن أن يشكلا مورداً حيوياً جديداً لمعالجة أصعب المشكلات العابرة للحدود.
دعونا نأخذ الهند مثالاً؛ إذ تشير التقديرات إلى أن عدد المغتربين المنحدرين من أصل هندي في مختلف دول العالم يبلغ نحو 30 مليون شخص، منهم 5 ملايين في الولايات المتحدة وحدها. ويمثل الهنود الأميركيون اليوم المجموعة العرقية الأكثر ثراء في البلاد، ويتمتعون بنفوذ سياسي متزايد. ويتولى عدد منهم قيادة شركات كبرى، مثل جوجل ومايكروسوفت وأدوبي ويوتيوب وآي بي إم. وإذا انخرطوا في العمل الخيري المؤسسي بالقدر نفسه من التأثير الذي حققوه في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والماليات وإدارة الفنادق والطب والأوساط الأكاديمية، فبوسعهم أن يحدثوا تحولاً جذرياً في حجم الموارد والمواهب المتاحة للمبادرات الخيرية في الهند والولايات المتحدة، وأن يقدموا نموذجاً تحتذي به بقية جاليات المغتربين حول العالم.
قد يتساءل البعض: ما الداعي للتبرع للهند خامس أكبر اقتصاد في العالم التي يتوقع الخبراء أن تحتل المرتبة الثالثة عام 2030؟ الحقيقة أن الهند دولة تحفل بالتناقضات؛ إذ تضم أكبر عدد من الفقراء في العالم بفارق كبير مقارنة بغيرها من دول العالم، لكن نجاحها المشهود، بحسب بعض التقديرات، في انتشال أعداد هائلة من مواطنيها من براثن الفقر خلال الأعوام العشرين الماضية يفوق ما حققته أي دولة أخرى في التاريخ (ربما باستثناء الصين). وعلى الرغم من أن الهند تمثل أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم، فإن 25% من شبابها الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً لا يعملون ولا يتلقون أي تدريب أو تعليم. كما أن الهند تمثل مقراً لعدد من أكثر المؤسسات غير الربحية فعالية وكفاءة وابتكاراً في العالم، وتتمتع بقدرة استثنائية على توسيع نطاق ابتكاراتها من خلال كيانات تتبع القطاع العام.
يتيح ازدهار العمل الخيري لدى الهنود الأميركيين، وبصورة أعم تنامي العمل الخيري غير الحكومي الأميركي الموجه إلى الهند، 3 فرص رئيسية: زيادة حجم الموارد، وتحسين جودة المساعدات، وضمان أن يتبنى أبناء الجيلين الثاني والثالث من الهنود الأميركيين فكرة العطاء، لا بوصفه عملاً خيرياً فحسب، بل أيضاً وسيلة للتواصل مع وطن أجدادهم. وإذا أمكن اغتنام هذه الفرص، فسيظهر نموذج جديد للعطاء غير الحكومي من شأنه أن يؤثر في ظروف المعيشة والمنظومة الاجتماعية في دول الجنوب وينعش مفاهيم العمل الخيري والتكافل عبر الحدود في شمال الكرة الأرضية.
يبذل باحثون ومؤسسات كبرى منذ نحو عقد من الزمن جهوداً جادة لدراسة سبل زيادة حجم العمل الخيري الذي تمارسه الجالية الهندية في أميركا، وقد تناولت هذا الموضوع دراسات متعددة (انظر مؤسسة بيل ومليندا غيتس فاونديشن ومؤسسة جون وكاثرين ماك آرثر فاونديشن وبريدجسبان، وغيرها). وقد كشفت دراسة استقصائية أجرتها شركة دالبرغ للاستشارات التنموية ومؤسسة إندياسبورا عام 2018 عن نتيجتين متناقضتين ظاهرياً: فالهنود الأميركيون يتطوعون بأوقاتهم بمعدل يقارب ضعفي المعدل العام للأميركيين، لكنهم يتبرعون بالمال بمعدل يعادل ثلث ما يقدمه نظراؤهم من السكان غير المنتمين إلى الجاليات المهاجرة. وعند صدور الدراسة، دعا فاعل الخير المعروف، سونيل وادهواني، أفراد الجالية إلى مضاعفة حجم تبرعاتهم 3 مرات خلال عقد واحد، وهو ما كان سيعني زيادة سنوية تدريجية تقدر بنحو 2 مليار دولار (أي ما يعادل تقريباً إنشاء مؤسسة ثانية بحجم مؤسسة بيل ومليندا غيتس).
منذئذ، شهدت التبرعات من الهنود الأميركيين ارتفاعاً ملموساً، وإن كان مؤقتاً، استجابة للموجة الثانية من جائحة كوفيد-19 في الهند عام 2021، وهو ما أظهر الإمكانات الكامنة عندما تدعو الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة. وقد أسهم عامل آخر في تعزيز العمل الخيري، وهو إطلاق تقليد سنوي جديد في عام 2023 يُعرف بـ"يوم العطاء للهند". أطلقت هذا اليوم شبكة المؤسسات غير الربحية، إنديا فيلانثروبي ألاينس (تحالف العمل الخيري للهند)، الذي أترأسه، مستلهماً تجربة ابتكار حديث نسبياً يتمثل في "أيام العطاء" التي أسهمت في تحفيز العمل الخيري في العديد من المدن الأميركية المتوسطة الحجم والولايات الصغيرة والجامعات، ولكن هذه المرة على نطاق وطني يركز على دولة بعينها. ومن المبادرات الأخرى الجديرة بالذكر التي تسعى إلى تنشيط العمل الخيري بين أبناء الجاليات: مبادرة غيفينغ باي التي تقودها مؤسسة دسرا، ومبادرة تشالو غيف التابعة لمنصة إندياسبورا. وتعمل شركة دالبرغ حالياً على إعادة استطلاع آراء الجالية الهندية الأميركية لقياس مدى ما حققته هذه المبادرات من أثر في زيادة العطاء خلال الأعوام السبعة الماضية. وتشير المؤشرات الحالية إلى أن هذه الجهود بدأت تؤتي ثمارها؛ إذ قدرت دراسة أجرتها بريدجسبان عام 2023 أن حجم التبرعات من الهنود الأميركيين للهند وحدها بلغ نحو 200 مليون دولار سنوياً.
ربما أسهم ازدهار العمل الخيري بين أبناء الجاليات في تحفيز ظهور عدد كبير من المبادرات الجديدة في الهند تعنى بالعطاء وتسعى إلى إضفاء الطابع المؤسسي على تقليد سيفا العريق، أي خدمة الآخرين. من بين هذه المبادرات: دان أوتساف (التي كانت تعرف سابقاً بأسبوع البهجة في العطاء) وأكسيليريت إنديان فيلانثروبي (تسريع العمل الخيري الهندي) وليفينغ ماي برومِس (الوفاء بالوعد)؛ ويبدو أن العمل الخيري من تلك الممارسات التي يمكن أن تنتشر وتؤثر في المجتمعات عبر الحدود الوطنية.
صحيح أن زيادة حجم العمل الخيري بين أبناء الجاليات أمر مهم ويسهل قياسه نسبياً، لكن تحسين جودة هذه الجهود لا يقل أهمية. ومن هذا المنطلق، وضعت شبكة التحالف من أجل العمل الخيري في الهند مبادئ توجيهية تهدف إلى تفعيل الإمكانات الكاملة للعمل الخيري غير الحكومي الموجه إلى الهند من الجاليات.
يبدأ كثير من المتبرعين الهنود الأميركيين مسيرتهم بما أُسميه المرحلة الأولى من العمل الخيري، أي التبرع لقضايا تمسهم شخصياً، وتفضي أحياناً إلى تعزيز المكانة الاجتماعية للمتبرع. يشمل ذلك غالباً، في أوساط الجاليات، تمويل المدارس ودور العبادة في قرية الأجداد بالهند. يتميز هذا النهج بالتركيز على الجوانب المرئية والاستجابة للاحتياجات الآنية والملحة، وعلى مبادرات يسهل تبرير أثرها (كما هي الحال في مؤسسة سمايل ترين). أما عن أدوات جمع التبرعات، فغالباً ما تأتي على هيئة حفلات عشاء فاخرة.
في المرحلة الثانية من العمل الخيري يزداد التركيز على المشروعات والكفاءة، وعلى الشراكة مع علامات تجارية بارزة، سواء جامعات النخبة مثل جامعات رابطة اللبلاب أو مؤسسات إنسانية راسخة تهتم بالحاجات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية. وغالباً ما يختزل البعض التركيز على الكفاءة في قياس معدلات المصاريف التشغيلية وتفضيل الجهات التي تزعم انخفاضها. وتقاس النتائج بدقة مع الإشراف الصارم على الشركاء من مؤسسات المجتمع المدني، لكن هذا التوجه له ثمنه؛ إذ تنفذ المشروعات غالباً في مواقع يسهل الوصول إليها لضمان سهولة الزيارات المتكررة بغرض المتابعة والمساءلة.
تمثل المرحلة الثانية تحسناً بصفة عامة مقارنة بالمرحلة الأولى، لكنها لا تمثل الوجهة النهائية لأكثر المانحين تطوراً؛ أما في المرحلة الثالثة من العمل الخيري فتقدم التبرعات على مدى سنوات عدة وغالباً دون أي شروط، مع التركيز بالدرجة الأولى على بناء مؤسسات مرنة قادرة على التعلم والتكيف، لا على المشاريع. كما تتجه هذه الجهود نحو المجالات الأكثر احتياجاً، وتركز في المقام الأول على الفعالية (النتائج والأثر) أكثر من الكفاءة. يتمثل جوهر هذا التحول في إقناع الأميركيين من أصل هندي بأهمية دعم العمل الخيري المؤسسي الذي يديره محترفون، بدلاً من تمرير الموارد عبر الشبكات العائلية أو التجارية أو تأسيس مؤسسات هندية غير ربحية خاضعة لسيطرتهم المباشرة.
يمكن أن تحدث الموارد الموجهة إلى الهند أثراً كبيراً، بفضل بعض الخصائص الاستثنائية في المشهد الهندي. على سبيل المثال، أبدى العديد من الحكومات المحلية وحكومات الولايات في الهند اهتماماً بالغاً بتوسيع نطاق الابتكارات التي تطورها المؤسسات غير الحكومية، ما يعزز قيمة كل دولار تتبرع به الجهات المانحة. بيد أن الحفاظ على هذا الأثر يتطلب عنصراً ثالثاً؛ إذ ينبغي للمؤسسات غير الربحية التي تنقل التبرعات الأميركية إلى الهند تنفيذاً لبرامج فعالة أن تعمل بصورة أفضل على إشراك الجيلين الثاني والثالث من أبناء الجالية الهندية في أنشطتها.
يجد الكثير من المؤسسات المرموقة صعوبة في التفاعل مع فئة الشباب؛ إذ لا يشكل ذلك جزءاً مألوفاً من ممارساتها المؤسسية. فبعد عقود من التركيز على استقطاب رجال أعمال (وبضع سيدات أعمال) في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من أعمارهم، تشكلت أساليب جمع التبرعات وفق هذا النمط إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، يشعر الكثير من الأميركيين من أصل هندي من فئة الشباب بضعف الارتباط بالهند أو بالجهات الخيرية التي تعمل فيها، على الرغم من وعيهم ونشاطهم في قضايا اجتماعية وبيئية.
وفي هذا السياق، وضعت شبكة التحالف من أجل العمل الخيري في الهند مبادئ توجيهية تفصيلية لتصبح المؤسسات غير الربحية أكثر جذباً للشباب، استناداً إلى دراسة استمرت عاماً شملت الأدبيات المتخصصة والمؤسسات المشهود لها بالتميز في هذا المجال (انظر ملخصنا المنشور في سلسلة من جزأين بمجلة "كرونيكل أوف فيلانثروبي"). وقد أوصينا باعتماد أساليب تسويق وفعاليات تراعي اهتمامات الشباب وزيادة تمثيلهم في مجالس الإدارة (عبر تخصيص مقعد واحد على الأقل لمن دون الخامسة والثلاثين في الهيئة الإدارية لكل مؤسسة) ومنح القادة الشباب قدراً من الاستقلالية والتقدير الملائم وتشجيعهم على الاطلاع والمشاركة في مشاريع ذات أثر اجتماعي في الهند (غالباً من خلال دمج هذه التجربة في برامج الزيارات الصيفية التي يجرونها مع عائلاتهم إلى الهند)، فضلاً عن اعتماد نهج لا مركزي في اتخاذ القرارات المؤسسية. كما أطلقت الشبكة مسابقة وطنية للشباب لكتابة المقالات موجهة إلى طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية من الجيلين الثاني والثالث من الأميركيين ذوي الأصول الهندية تتيح للفائزين التبرع بمبلغ 1,000 دولار للجهة التي يختارونها والحصول على فرصة إلقاء كلمة في مؤتمر سنوي كبير حول العمل الخيري في أوساط الجاليات الهندية.
حتى قبل 20 عاماً فقط، كانت ساحة العمل الخيري بين الولايات المتحدة والهند تهيمن عليها مؤسسات، مثل فورد فاونديشن وبيل ومليندا غيتس فاونديشن ومؤسسة مايكل وسوزان ديل فاونديشن وأوميديار نتوورك. أما اليوم فثمة مؤسسات أخرى باتت تضاهيها وربما تتفوق عليها، مثل صندوق دعم ريف الهند، رورال إنديا سابورتينغ تراست، الذي أنشأه رائد الأعمال مانوج بهارغافا)، ومؤسسة إس. إم. سيغال فاونديشن (التي أسسها المبتكر في علوم المحاصيل سوري سيغال)، ومؤسسة وادهواني فاونديشن، ومؤسسة نيرا وديباك راج فاونديشن، ومؤسسة أوجالا فاونديشن، فضلاً عن عشرات المؤسسات العائلية التي أسسها أميركيون من أصول هندية وتعمل بهدوء بعيداً عن الأضواء الإعلامية.
وإلى جانب القطاع الخيري التقليدي الموصوف أعلاه، ثمة مشاريع اجتماعية واستثمارات مؤثرة في الهند تستفيد من تزايد انخراط أبناء الجالية الهندية. وهناك أيضاً مؤسسات غير ربحية في الولايات المتحدة أنشأها أميركيون من أصل هندي، تستجيب للاحتياجات المحلية بأساليب مبتكرة، مثل مبادرة هانغر ميتاو التي تتصدى لانعدام الأمن الغذائي، وبرنامج بويز هوو رايت الذي يسعى إلى تنمية مهارات التعاطف والتواصل لدى الفتيان الأميركيين دون سن المراهقة من مختلف الخلفيات العرقية.
بإمكان جاليات المغتربين الأخرى، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا أو شرق إفريقيا، أن تدرس هذه الأساليب وتعمل على تطويرها بما يعزز حجم العمل الخيري العابر للحدود وجودته واستدامته؛ إذ تتطلب المهمة حشد الجميع لإنقاذ الجهد الإنساني العالمي، ولا يمكن لأي استجابة فعالة ومستدامة أن تتجاهل أهمية تنمية العمل الخيري في أوساط الجاليات وتحسينه. وأي مكان أنسب للانطلاق من الهند، أكثر دول العالم اكتظاظاً بالسكان وتنوعاً؟.