كيف تسهم الشراكات التمويلية في تحسين الصحة العالمية؟

6 دقيقة
shutterstock.com/DOERS

تتطلب التحديات الصحية العالمية حلولاً على مستويات الدول أو الأقاليم أو القارات، لذلك تبرز أهمية الشراكة مع الحكومات الوطنية والمحلية؛ إذ تدعم القيادة الحكومية والموارد والسياسات التغيير المستدام. ولكن كيف يمكن تجسيد ذلك عملياً؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن تتخذها الشراكات التمويلية لضمان نجاح جهودها التعاونية؟

من أبرز الأمثلة على ذلك "صندوق البدايات"، وهو صندوق تعاوني عالمي في مجال الصحة أطلق في شهر أبريل/نيسان الماضي ويجمع بين جهات مانحة من الشرق الأوسط والشمال والجنوب العالميين. يعمل الصندوق بالفعل مع وزارات الصحة والباحثين والعاملين في القطاع الصحي للتصدي لحالات وفيات الأمهات وحديثي الولادة، التي يمكن تفاديها في الدول الإفريقية؛ إذ تحدث حالة وفاة كل 14 ثانية بسبب مضاعفات الحمل أو الولادة أو ما بعد الولادة.

يتمثل أحد الأمثلة الأخرى على ذلك في التعاون بين الجهات المانحة التي عملت مع الحكومة لمساعدة النيجر لتصبح أول دولة إفريقية تنجح في القضاء على انتقال داء العمى النهري، وهو مرض طفيلي يهدد صحة نحو ربع مليار شخص حول العالم. يجسد الإنجاز المذهل الذي حققته النيجر، والذي استغرق 45 عاماً لتحقيقه، الأثر الكبير لتكامل جهود الحكومة مع التمويل التعاوني، الذي يمثله في هذه الحالة "صندوق بلوغ الميل الأخير"،وهو تحالف يضم دولاً وجهات مانحة أسسه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بالشراكة مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس فاونديشن.

توفر هذه التحالفات رؤى قيمة لأصحاب الأعمال الخيرية الذين يسعون إلى إحداث أثر إيجابي ملموس في مجال الصحة العالمية؛ إذ تشمل هذه الرؤى كيفية تحديد المشكلة الأساسية والحقيقية وتشكيل الفرق الملائمة لتحديد الحل وتنفيذه، وإنشاء تحالف قوي.

تحديد المشكلة الأساسية والحقيقية

على الرغم من أن العمل الخيري لا يمكن أن يضاهي الموارد والمؤسسات الحكومية في إمكاناتها ومدى انتشارها وتأثيرها، فثمة مجالات محددة يمكن أن تحدث فيها الصناديق التعاونية أثراً كبيراً وحقيقياً. يجب على الجهات الممولة تحري إمكانية تفادي المشكلة الاجتماعية التي ترغب في معالجتها والبحث عن حلول قائمة فعلاً يمكن تعديلها وتوسيع نطاقها، والبحث عن فرص تجميع الموارد لتحقيق هذا الهدف.

على الرغم من التقدم المحرز في تقليل معدلات وفيات الأمهات، تشير البيانات إلى وفاة نحو 260,000 امراة سنوياً في أثناء الحمل والولادة لأسباب يمكن الوقاية منها، مثل انسمام الحمل أو إنتان الدم أو النزيف بعد الولادة. وفي الوقت نفسه، يموت نحو 2.3 مليون طفل حديث الولادة بسبب مشكلات يمكن الوقاية منها، مثل تراكم السوائل في المجاري التنفسية أو العدوى، وهي مضاعفات يعالجها الطب الحديث بسهولة وبطريقة روتينية.

على الرغم من أن هذه المشكلة منتشرة على نطاق عالمي، بالإضافة إلى انخفاض وفيات الأطفال حديثي الولادة إلى النصف منذ عام 1990، فإن 70 % من وفيات الأمهات في العالم تحدث في جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية. بلغت وفيات حديثي الولادة في المنطقة أعلى مستوياتها، بمعدل 26 حالة وفاة لكل 1,000 ولادة حيّة، كما تباطأت الخطوات الرامية إلى تحسين سبل الوقاية من هذه الوفيات. وفي ظل وجود مشكلة يمكن تفاديها وحلول قابلة للتطوير والتطبيق على نطاق واسع، يركز الصندوق على دعم المبادرات الحكومية التي تهدف إلى ترسيخ توافر الكوادر المؤهلة والمدربة جيداً في مجال الرعاية الصحية والمعدات المبتكرة والمنخفضة التكلفة بوصفهما معيارين أساسيين في البلدان الإفريقية، مع الاستفادة من الإرادة السياسية والرغبة في تعزيز النظم الصحية وتطوير الكفاءات لضمان استمرارية التحسين.

وقد اتبعت مبادرة بلوغ الميل الأخير التعاونية نهجاً مماثلاً. على سبيل المثال، أدى التعاون بين الحكومة والقطاع والجهات المانحة الخيرية إلى انخفاض معدل انتشار داء كلابية الذنب (العمى النهري) في النيجر من نحو 70% في السبعينات إلى 0.02% في عام 2002. في عام 2018، انضم الصندوق إلى هذه الجهود بهدف دعم بلدان مثل النيجر في القضاء على داء العمى النهري نهائياً. وقد دعم الصندوق برنامج مكافحة أمراض المناطق المدارية المهملة في النيجر لتطوير الإرشادات والمبادئ التوجيهية التخصصية وتحديثها فيما يتعلق بإيقاف العلاج وتقييم استمرارية انتقال العدوى، بالإضافة إلى توسيع نطاق نظام الترصد الوبائي الوطني.

كما عملت هذه المبادرة التعاونية مع الشركاء المحليين والعاملين في مجال الصحة المجتمعية، وقد أدى بعض هؤلاء دور المؤرخين؛ إذ بحثوا في الخرائط والسجلات القديمة لتحديد القرى التي أبلغت عن حالات إصابة، في حين تطوع آخرون ليكونوا طعماً بشرياً فجلسوا ساعات على ضفاف الأنهار مكشوفي الجلد لجذب الذباب الصغير والتقاطه قبل أن يلدغ، ما ساعد العلماء على تتبع مسار انتشار المرض.

نتيجةً لهذه الجهود، أعلنت منظمة الصحة العالمية رسمياً عدم تسجيل أي حالة انتقال للمرض خلال هذا العام في النيجر استناداً إلى هذه الإنجازات، وبالشراكة مع دول مثل السنغال ومالي وبنين وتوغو، أصبحت هذه الدول على وشك تحقيق تقدم كبير في القضاء على داء العمى النهري أيضاً. يعمل صندوق بلوغ الميل الأخير بدعم من جهات ممولة أخرى على جمع 500 مليون دولار لتسريع جهود القضاء على داء العمى النهري وداء الفيلاريات اللمفاوي، وهو مرض تسببه الديدان الطفيلية ويمكن أن يؤدي إلى تلف الأعضاء والتشوهات، وذلك بالشراكة مع اليمن ودول إفريقية.

تنفيذ الحل

يتطلب تنفيذ الحل بنجاح تحليل المشكلة إلى عناصرها الأساسية وتصميم حل يشمل كلاً من العناصر المادية من أدوات وتكنولوجيات، والعناصر التنظيمية والبشرية من كوادر وأنظمة لإحداث التغيير.

فمن ناحية، يعمل صندوق البدايات على توفير العناصر المادية اللازمة، وهي تشمل:

  • المضادات الحيوية وأجهزة التصوير بالموجات فوق الصوتية في نقاط تقديم الرعاية لتقليل مخاطر العدوى ومضاعفات الحمل الأخرى
  • أجهزة ضغط مجرى التنفس الإيجابي المستمر المعدلة (الذي يستخدم لعلاج انقطاع النفس لدى الرضع في أثناء النوم) والأوكسجين الطبي وبروتوكولات رعاية الأم الكنغرية للرضيع لمعالجة المضاعفات الشائعة لدى حديثي الولادة، مثل ضيق التنفس والاختناق وانخفاض درجة حرارة الجسم
  • أغطية مخصصة لعمليات الولادة (تكلف أقل من دولار واحد) وأدوية تساعد على الوقاية من نزيف ما بعد الولادة واكتشافه وعلاجه فور حدوثه

فيما يتعلق بالجوانب البشرية والتنظيمية، يعمل الصندوق مع الحكومات والشركاء الوطنيين، مثل المؤسسات الأكاديمية، على تعزيز أنظمة البيانات من أجل تطوير صناعة القرارات وتحسين مستوى الجودة. ويتعاون الصندوق مع الكليات لزيادة عدد القابلات المدربات والعاملين في مجال صحة الأمهات وحديثي الولادة، وكذلك مع المتخصصين في المستشفيات الرائدة في القارة لتزويد العاملين في القطاع الصحي بحلول علاجية ومبادرات تطويرية فعالة ومنخفضة التكاليف لإنقاذ الأرواح.

تأسيس تحالف يجمع بين الإرادة والمهارة

يمكن أن يوفر التمويل التعاوني الدعم المالي وفقاً للاحتياجات، كما يسمح أيضاً للجهات الممولة الراغبة بالتعلم بعضها من بعض في أثناء العمل واكتساب الخبرة العملية حول المشكلات والسبل الناجحة للتعامل معها.

على سبيل المثال، بدأ تأسيس شبكة صندوق البدايات في عام 2023، بمساهمة من مجموعة من الممولين الذين أبدوا التزاماً بتحسين الأوضاع الصحية في القارة الإفريقية، إذ كشفت البيانات المتعلقة بوفيات الأمهات وحديثي الولادة عن فرصة كبيرة وقابلة للتحقيق لتحسين المؤشرات الصحية في هذا المجال، فدعت الشبكة الجهات الممولة التي تمتلك أهدافاً ورؤى متشابهة لمناقشة سبل التعاون، وتواصلت مع خبراء الصحة وصناع السياسات في إفريقيا لتحديد نوع الدعم الذي يمكن أن يساعد الحكومات في البلدان ذات الدخل المنخفض على توفير رعاية أمومة مستمرة وعالية الجودة.

أدت هذه المحادثات إلى وضع استراتيجيات حول أفضل الطرق لاستهداف الاستثمارات، وذلك من خلال تحديد المنتجات والكوادر والأنظمة الضرورية لتحسين رعاية الأمهات وحديثي الولادة على نطاق واسع. تضافرت جهود الممولين الراغبين في العمل، فجمعوا التمويل وتبادلوا خبراتهم المتنوعة في ابتكار منتجات الرعاية الصحية وتعزيز القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية والشراكة مع الحكومات الإفريقية لإحداث تغييرات في الأنظمة. وقد ساهمت الجهات المانحة الخيرية حتى الآن بنحو 600 مليون دولار لتطوير حلول الرعاية الصحية للأمهات وحديثي الولادة بما يتوافق مع خطط الحكومات وأولوياتها. وقد خصص مبلغ 450 مليون دولار من هذا التمويل لإطلاق صندوق البدايات، مع وجود خطط لجمع 500 مليون دولار بحلول نهاية عام 2025. سيسهم هذا التمويل في تسريع تنفيذ المبادرات المتعلقة بإنقاذ حياة الأمهات وحديثي الولادة في 10 دول، وهي إثيوبيا ورواندا وتنزانيا ومالاوي وكينيا وأوغندا وزيمبابوي وليسوتو ونيجيريا وغانا.

لقد لاحظت على مر السنين أن الأعمال الخيرية بالتعاون مع الحكومات تسهم في تعزيز نجاح البرامج الصحية في أكثر من 40 دولة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وسواء كان الهدف هو القضاء على أمراض المناطق المدارية المهملة، أو تقليل معدلات سوء التغذية، أو الحد من حالات الوفيات التي يمكن تفاديها في أثناء الحمل والولادة، فالصناديق التعاونية تمتلك فرصة استثنائية لتحويل الحلول الروتينية والمطبقة في أجزاء كثيرة من العالم إلى حقيقة وواقع ملموس في الدول التي لا تزال تفتقر إليها. يظهر نجاح النيجر في القضاء على داء العمى النهري أن تضافر الموارد الحكومية والإرادة والمهارة والعمل الخيري يمكن أن يحدث أثراً كبيراً في معالجة أي مشكلة، وهو ما يسعى صندوق البدايات إلى إثباته في العقد القادم.

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.              

المحتوى محمي