هل يدفع المستهلكون مزيداً من المال لقاء الاستدامة؟

8 دقيقة
شراء المنتجات المستدامة

في حين يشعر الكثير من الناس أنهم مستبعدون من العملية السياسية ويثير الاتجاه الذي تسير فيه بلادنا قلقهم، يتساءل الكثيرون عن طريقة إيصال أصواتهم والتأثير في العالم ليصبح أفضل. ما هو دور الشركات في معالجة  قضايا مثل عمالة الأطفال والفقر العالمي وإزالة الغابات وتغير المناخ؟ وما هو دورنا نحن المستهلكين؟ في كتابي الجديد بعنوان "كل عملية شراء لها أثرها: كيف يستطيع المزارعون والشركات والمستهلكون تغيير العالم بالتجارة العادلة؟" أتناول هذه الأسئلة الصعبة والمهمة التي نعيشها اليوم.

يستطيع كل منا تغيير العالم من خلال المنتجات التي نشتريها؛ لقد حفز هذا المبدأ البسيط نمو حركة المستهلك الواعي على مدى عقود من الزمن، واستجابت الشركات لها بالعمل على تطوير نموذج ربحي قائم على التوريد المسؤول والمنتجات المستدامة. واليوم، إذا راجعنا الأبحاث أو تجولنا في متاجر البقالة فسنجد ما يؤكد التوجه العام نحو الاستدامة، متمثلاً في تحول جذري في طرق صنع المنتجات وتوريدها واستهلاكها. وعلى الرغم من البطء الذي يبدو محبطاً في وتيرة التغيير، فثمة تقدم لا يمكن إنكاره.

كان لحركة التجارة العادلة دور عملي وتجريبي فريد في هذا التطور بمجال الأعمال والمجتمع، وقد استندت في تأليف الكتاب إلى العلاقات الوثيقة التي أقمتها على مدى السنوات الأربعين الماضية مع المزارعين والناشطين وقادة الشركات، إذ قضيت عقداً من الزمن في مرتفعات نيكاراغوا ثم أسست المؤسسة غير الربحية فير تريد يو إس أيه في الولايات المتحدة الأميركية وكنت رئيسها التنفيذي. يعد هؤلاء رواد الرأسمالية الواعية، وهم يشاركون قصصهم الغنية عن النجاح والفشل والدروس التي تعلموها وأثرهم الاستثنائي في المجتمعات والبيئة، وتشكل رؤاهم -وأغلبها مذهل حقاً- نموذجاً رائعاً ومقنعاً عن التوريد المسؤول والاستهلاك الواعي والقيمة المشتركة.

يتناول هذا المقتطف المسألة الحاسمة المتمثلة في استعداد المستهلكين لدفع المزيد من المال لقاء المنتجات المستدامة؛ إذ يمثل التسعير المتميز القائم على القيم عقبة أمام تبني المستهلكين للمنتجات المستدامة، كما أن الفجوة بين النية والسلوك ما تزال قائمة -وهي التفاوت المحبط بين ما يقوله المستهلكون عن استعدادهم لدفع المزيد من المال لقاء المنتجات المستدامة وسلوكهم الفعلي في الشراء. أعتقد أنكم ستستمتعون بقراءة قصص نجاح الشركات المبتكرة القائمة على الغاية في سد الفجوة بين النية والسلوك وتمكين السلع القائمة على التوريد المسؤول من النجاح في الأسواق السائدة.

في زيارتي الأخيرة إلى مدينة أوستن بولاية تكساس، أتيحت لي فرصة قضاء يوم مع صديقي جون ماكي، المؤسس المشارك لشركة هول فودز. وبين ركوب الدراجات الهوائية في أنحاء منطقة بارتون كريك الجميلة ولعبة طاولة الزهر في جو تنافسي شديد الحماس، أتيحت لنا الفرصة للدردشة والتحدث عن العالم بأكمله وعالم الاستدامة تحديداً. عندما سألت جون عمن يعتقد أنه يجب أن يدفع التكاليف الإضافية المرتبطة بالاستدامة، كانت إجابته سريعة وواضحة على نحو مميز: "أعتقد أن المستهلك هو من يجب أن يدفع الثمن، فالمنتجات العضوية ومنتجات التجارة العادلة لا بد أن تكلف أكثر، ويجب أن يدفع المستهلكون سعراً أعلى لشرائها".

لم يفاجئني رد جون، خاصة بالنظر إلى سجله الحافل في حركة الاستدامة. فقد بنى شركة هول فودز وجعلها في صدارة مجال تجارة التجزئة بناءً على يقينه بأن المستهلكين الواعين مستعدون لدفع المزيد من المال لقاء منتجات مستدامة ذات جودة أعلى. وقد أخبرني قائلاً: "تخضع المنتجات المستدامة لدينامية الدفع بناء على القيمة؛ فعندما تكون تكلفتها أعلى، تتضح الفوائد للعميل أكثر. كما أن الناس يشعرون بأنهم يفعلون أمراً ذا قيمة عندما يدفعون سعراً أعلى؛ فهم يشعرون بأنهم يقدمون تضحية لأنهم يؤمنون بالقيم التي تنطوي عليها هذه المنتجات. هذا ينطبق على المنتجات العضوية وأعتقد أنه ينطبق على منتجات التجارة العادلة أيضاً".

أتفق مع رأي جون بشأن استعداد المستهلكين لدفع سعر أعلى لقاء الاستدامة، على الأقل في بعض القطاعات، ويتوافر الكثير من البيانات التي تدعم ذلك. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجراها مركز بيكر لتجارة التجزئة التابع لكلية وارتون في عام 2021 أن ثلثي المشاركين في الاستطلاع قالوا إنهم مستعدون لدفع مبالغ أكبر لقاء المنتجات المستدامة (المصدر: مؤسسة فيرست إنسايت عام 2021). وقد أظهرت أبحاثنا الخاصة بمستهلكي التجارة العادلة نتائج مماثلة؛ إذ يجيب المستهلكون بأنهم سيدفعون أكثر لقاء المنتجات الحاصلة على شهادة اعتماد التجارة العادلة، وتُظهر العشرات من الدراسات المشابهة استعداد المستهلكين لدفع المزيد لقاء منتجات ذات أبعاد اجتماعية أو بيئية.

ولكن عندما أرى بيانات كهذه، أتساءل عن سبب بطء نمو حركتنا؛ إذا كان هذا العدد الكبير من المستهلكين مستعدين حقاً لدفع المزيد من المال لقاء المنتجات المستدامة، كما يقولون في الاستطلاعات، فلماذا لا تزال منتجات التجارة العادلة تشكل أقل من 1% من السلع التي ينفق المستهلكون الأميركيون عليها أموالهم؟ وحتى المنتجات العضوية، التي أصبحت متاحة على نطاق واسع في جميع فئات الأغذية تقريباً، لا تمثل سوى 6% من مبيعات التجزئة من الأغذية في الولايات المتحدة (المصدر: تقرير جمعية التجارة العضوية، عام 2023). سألت غريغ سبراغ، الذي ساعدنا في إطلاق خط إنتاج قهوة فير تريد بالتشارك مع شركة سامز كلوب في عام 2005، عن هذه الظاهرة المخيبة للآمال، فقال: "هذا ما أقوله دائماً: ما يقوله المستهلكون في الاستطلاع وما يفعلونه في الواقع شيئان مختلفان. إذا استطلعت آراء عدد كبير من الشباب على وجه الخصوص، فسيقول أغلبهم إنهم على استعداد لدفع المزيد. ولكن عندما يذهبون إلى المتجر أو يتسوقون عبر الإنترنت لا يكون لديهم المال الكثير فيغيرون رأيهم؛ عندما تقف الميزانية عائقاً في طريقهم، غالباً ما يتخذون خياراً آخر".

أوضح غريغ ما أصبح يعرف في دوائر أبحاث المستهلكين باسم "الفجوة بين النية والسلوك"، فبينما تظهر كمية هائلة من البيانات أن العديد من المستهلكين يفضلون شراء منتجات مستدامة وأخلاقية ومستعدون لدفع المزيد من المال لقاءها، فثمة شكوك بين الخبراء وفي القطاع حول تطبيق المتسوقين لهذه النوايا الحسنة فعلياً وتحقيق نمو في المبيعات. مثل غريغ، أشار الكثيرون إلى أن الكثير من الناس يقولون إنهم يفضلون المنتجات المستدامة، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم سيشترونها بالفعل عندما يتاح لهم الاختيار، خاصة إذا كان سعر بيعها بالتجزئة أعلى.

من ناحية أخرى، تظهر مجموعة مشجعة من الأبحاث أن الفجوة بين نية المستهلك وسلوك الشراء بدأت تتقلص. ففي ربيع عام 2023، على سبيل المثال، نشرت شركتا ماكنزي آند كومباني ونيلسن آي كيو دراسة مشتركة لاستكشاف المعدلات المختلفة لنمو مبيعات المنتجات التي تتضمن مزاعم الاستدامة وتلك التي لا تتضمنها، كان الهدف من الدراسة هو تحليل سلوك الشراء الفعلي لدى المستهلكين الأميركيين بعد تجاوز مرحلة النية المعلنة، والتركيز على المؤشرات المالية الواقعية بدلاً من المشاعر التي يصرحون بها. امتدت الدراسة على مدى خمس سنوات (من عام 2017 إلى عام 2022) وشملت بيانات 44,000 علامة تجارية تغطي 32 فئة من الأغذية والمشروبات والعناية الشخصية والمنزلية. أظهرت نتائج الدراسة فروقاً واضحة في الأداء التجاري، فعلى مدى فترة الدراسة ومع ثبات الأسعار، بلغ نمو المبيعات الفعلية للمنتجات التي تتضمن مزاعم الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات 6.4%، بمقابل 4.7% للمنتجات التي لا تتضمن هذه المزاعم. وبلغ متوسط النمو التراكمي خلال تلك الفترة بين المنتجات التي تتضمن مزاعم الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات 28% مقارنة بنسبة 20% فقط للمنتجات التي لا تتضمن هذه المزاعم. وخلصت الدراسة إلى أنه من المرجح أن يستمر هذا الاتجاه (المصدر: بحث فراي وآخرون، 2023).

تشير مثل هذه الدراسات إلى أن الفجوة بين نوايا المستهلكين لشراء منتجات مستدامة وسلوكهم الفعلي عند الشراء بدأت تتقلص، إذ تتحول عادات الإنفاق نحو منتجات أكثر استدامة، وبدأ المستهلكون الواعون بتحويل أقوالهم إلى أفعال من خلال إنفاق أموالهم بما يتماشى مع قناعاتهم. وكما سبق أن درسنا في الكتاب، فإن المستهلكين من جيلي الألفية وزد متطلبون جداً في توقعاتهم بشأن المسؤولية الاجتماعية والبيئية للشركات؛ ما يشير إلى أن النزعة الاستهلاكية الواعية هي توجه استهلاكي عام. ولكن لم يستكشف البحث بعد استعداد المستهلكين لدفع مبالغ أكبر لقاء المنتجات المستدامة، أو بعبارة أدق، لم يتأكد البحث بعد من عدد المستهلكين الذين لديهم هذا الاستعداد ومقدار الزيادة التي سيدفعونها.

وفي حين كانت الأبحاث حول هذا الموضوع محدودة، فقد أجرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، مايكل هيسكوكس، بضع دراسات مهمة تظهر أن المستهلكين مستعدون لدفع المزيد من المال مقابل منتجات حاصلة على شهادة اعتماد في التجارة العادلة. في دراسة نشرتها جامعة ستانفورد عام 2015، استكشف هيسكوكس وزملاؤه جينس هينمولر وساندرا سيكويرا سلوك العملاء في عدد من المتاجر التابعة لسلسلة متاجر بقالة أميركية كبيرة، ولاحظوا أن مبيعات علامتين تجاريتين شهيرتين للقهوة ارتفعت بنسبة 10% عندما حملت علامة التجارة العادلة، والأهم من ذلك أن هذه الزيادات في المبيعات بقيت ثابتة مع زيادة الأسعار بنسبة تصل إلى 8% (المصدر: بحث هينمولر وهيسكوكس وسيكويرا، 2015). ما زال من الضروري إجراء المزيد من هذه الأبحاث على فئات المنتجات الأوسع، لكن النتائج واعدة حتى الآن.

وعلى الرغم من أن البيانات لم تكتمل بعد فالاتجاهات التي بدأت تظهر تجعلني أتفاءل كثيراً بشأن دور المستهلك في المساعدة على بناء نموذج رأسمالي أكثر استدامة. في الواقع، أعتقد أن الفجوة بين النية والسلوك ستستمر في التقلص، خاصة مع تقدم جيلي الألفية وزد في السن وزيادة الدخل التقديري. ستستمر الشركات بدراسة اتجاهات المستهلكين هذه والاستجابة لها، وستواصل توسيع تشكيلة المنتجات المستدامة وتوافرها وملاءمتها. ثمة تقدم بالفعل، ولكن ماذا عن وتيرة التغيير؟ ما الذي يجب أن نفعله من أجل نشر حركة التوريد الأخلاقي على نطاق واسع وجعل المنتجات المستدامة متاحة وجذابة للجميع وبأسعار معقولة؟

من وجهة نظر جون ماكي، قد لا يصبح الشراء المسؤول حركة سائدة أبداً، على الأقل ليس في القريب المنظور؛ فهو يعتقد أن النزعة الاستهلاكية الواعية هي في جزء منها ظاهرة ناتجة عن الرخاء؛ حين يزداد دخل الناس المتاح يزداد استعدادهم لاستثماره في المنتجات المستدامة. لذا يمكن القول إن التجارة العادلة هي نوع من السلع الفاخرة، فالناس الذين بالكاد يستطيعون سداد قروضهم العقارية وشراء كسوة أطفالهم ودفع فواتيرهم الطبية لن يهتموا بالتجارة العادلة، أما الذين لديهم دخل أعلى فيمكنهم تحمل تكاليف الاستهلاك الواعي أكثر".

من الصعب الاعتراض على منطق جون أو مجادلته فيه في ظل الظروف الحالية؛ فالشريحة السكانية التي يمكن أن تكون واعية، أي قادرة على دفع المزيد من المال من أجل الاستدامة وراغبة في ذلك، قد تشكل أقلية من المتسوقين على مدى المستقبل المنظور. ولكن هذا، وفقاً لجون، لا يعني أنها لن تكون شريحة كبيرة جداً ولن تستمر في النمو. قد يجادل آخرون، مثل الرئيس التنفيذي لشركة وول مارت، دوغ ماكميلون، بأنه من الممكن إتاحة المنتجات المستدامة بأسعار ميسورة من خلال إنتاجها وتوزيعها على نطاق واسع، وعلى الرغم من صعوبة تحديد النسبة المئوية من المستهلكين الذين لديهم ما يلزم من الوعي والاهتمام والوسائل اللازمة لشراء المنتجات المستدامة اليوم، فهم يشكلون شريحة كبيرة تنمو باستمرار.

لا يمكن القول إن المستهلكين جميعهم يملكون القدرة أو الرغبة في دفع المزيد من المال لقاء المنتجات المستدامة، بيد أن نسبة من يتمتعون بهذه القدرة أو الرغبة فعلاً كافية لإحداث فرق حقيقي. لنفترض مثلاً أن نحو 25% من المستهلكين في الولايات المتحدة يشترون المنتجات المستدامة بانتظام اليوم، وهذا تقدير متحفظ للغاية بالنظر إلى الدراسات التي استشهدت بها في هذا الكتاب (مثل تقرير شركة غرين برينت عام 2021)؛ لكن إذا تمكنا من إقناع نصف هذه النسبة بشراء منتجات التجارة العادلة بإخلاص وانتظام ولو كانت تكلفتها أعلى قليلاً فسنحقق قفزة هائلة في حصتنا السوقية التي لا تزيد اليوم عن 1-5% في مختلف الفئات. وهذا بدوره سيفتح المجال لتأثير أكبر بكثير على المزارعين والعمال وأسرهم. لذلك ثمة فرصة هائلة للنمو على الرغم من ضآلة شريحة المستهلكين الواعية الحالية.

هل سيكون هذا النمو سريعاً؟ أعتقد أن وتيرة التغيير ستكون مدفوعة بتغير اتجاهات المستهلكين إلى جانب الحراك التنافسي بين الشركات التي تتزاحم فعلاً على اكتساب شريحة المستهلكين الواعين المربحة. ستؤدي هذه المنافسة إلى الابتكار، ومن المتوقع أن تنخفض أسعار المنتجات القائمة على التوريد الأخلاقي مع مرور الوقت.

 


يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.              

المحتوى محمي