يسهم قطاع المباني والإنشاءات إسهاماً كبيراً في تغيّر المناخ العالمي، إذ يُعزى إلى المباني نحو 40% من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن استهلاك الطاقة إلى جانب استهلاكها أيضاً لأكثر من 30% من المواد الخام على مستوى العالم. وبالنظر إلى هذا التأثير البيئي للمباني، والتوجه العالمي المتزايد نحو تقليل البصمة البيئية لها، باتت شهادات اعتماد المباني المستدامة تحظى باعتراف متزايد باعتبارها عنصراً حيوياً ومحورياً في تحقيق التنمية المستدامة.
وتُمنح هذه الشهادات من جهات دولية متخصصة، إذ تقيّم مدى التزام المبنى أو المشروع العقاري بمعايير محددة تتعلق بالاستدامة البيئية، مثل كفاءة استهلاك الطاقة وإدارة الموارد. كما يمكن أن تتضمن الشهادة الجوانب الاجتماعية للمبنى، مثل الأثر المجتمعي، والعوامل الأخرى ذات العلاقة بالصحة وجودة الحياة، بما في ذلك الراحة والرفاه لشاغليه. وعلى الرغم من أن هذه الشهادات تطبَّق غالباً على المباني القائمة والجديدة، فإن التركيز في هذا المقال ينصبّ على المشروعات الجديدة التي لم تطوَّر بعد (Greenfield Projects).
ويبدو تزايد الطلب على المباني المستدامة واضحاً من خلال استعداد السكان والمستأجرين والشركاء لدفع مبالغ مالية إضافية مقابل العقارات التي تفي بمعايير الاستدامة العالية. ووفقاً لدراسة أجرتها شركة بوسطن كونسلتينغ جروب (BCG)، فإن نسبة 25% من المستهلكين المهتمين بالاستدامة مستعدون لدفع نسبة إضافية تصل إلى 20% مقابل امتلاك مبانٍ خضراء معتمدة أو استئجارها. كما أن المساحات المكتبية الحاصلة على شهادات اعتماد الاستدامة تحقق عائدات إيجارية أعلى بنسبة 10%، وتُسجل معدلات إشغال أعلى مقارنة بالمباني غير المعتمدة.
في الوقت نفسه، تعزز الجهات التنظيمية والمنظمات العالمية، مثل "مجلس المباني الخضراء العالمي" (WGBC)، تركيزها على الممارسات المستدامة في البناء، حيث دعا المجلس إلى تحقيق تشغيل مبانٍ خالي من الانبعاثات وخفض الكربون المدمج بنسبة 40% بحلول عام 2030. كما بات المستثمرون يفرضون متطلبات أكثر صرامة، مثل معايير "فاني ماي" (Fannie Mae)، التي تشترط الحصول على شهادة "ليد" (LEED) أو ما يعادلها من أجل التأهل لإصدار السندات الخضراء.
وقد شهد عدد البرامج المتاحة لشهادات الاعتماد تزايداً ملحوظاً، مع وجود مئات الخيارات اليوم، فهناك شهادات الاعتماد العامة مثل "ليد" (LEED)، و"بريام" (BREEAM)، التي تغطي معايير الاستدامة الشاملة، بينما تركز شهادات اعتماد أخرى أكثر تخصصاً مثل "فيتويل" (Fitwel)، و"باسيف هاوس" (Passive House)، على جوانب محددة، كالصحة أو كفاءة الطاقة. ويشكّل هذا التنوع تحدياً كبيراً عند اختيار شهادة الاعتماد الأنسب لأي مشروع.
لهذا، فإن التحرك الاستباقي نحو وضع إطار تنظيمي واضح للشهادات يُعتبر خطوة فعالة تتيح التعامل بمرونة وذكاء مع هذا المشهد المتطور والمتنوع. ويمكن لهذا الإطار أن يحوّل التحدي المرتبط بتعدد الخيارات إلى ميزة استراتيجية مضافة.
الاعتبارات الأساسية عند وضع إطار اعتماد شهادات المباني المستدامة
1- البدء مبكراً
ينبغي أن تحدِّد استراتيجية الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات التطلعات والطموحات العامة للمشروع في مجال الاستدامة، قبل اختيار شهادة اعتماد البناء المستدام. وبذلك، يمكن لإطار الاعتماد أن يتوافق مع استراتيجية الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات لتعزيز الأهداف، ودفع عملية اتخاذ قرارات متسقة، وتعظيم الأثر. ومن دون استراتيجية شاملة للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، قد يقع المطوّرون في فخ اختيار أنظمة أو مستويات شهادات اعتماد إما طموحة جداً وإما غير كافية.
ويساعد وضع استراتيجية للحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وإطار لشهادات اعتماد المباني المستدامة في مرحلة مبكرة من التخطيط على ضبط التكاليف المرتبطة بالحصول على الشهادات. فقد تؤدي التصاميم المستدامة إلى زيادة التكاليف الرأسمالية للمبنى بنسبة تصل إلى 5% أو أكثر عند السعي للحصول على شهادات من فئة متميزة. وعلى الرغم من ذلك، فإن اتخاذ القرار بتنفيذ بناء مستدام بصورة استباقية يمكن أن يقلل من هذه التكاليف، ويجنّب المطور الحاجة إلى إجراء تعديلات مكلفة لاحقاً في التصميم أو التنفيذ.
2- مراعاة الخصائص الفريدة للمشروع
ينبغي أن يعكس إطار الشهادات طبيعة المشروع وخصائصه وأهدافه، فاتباع نهج مرن يناسب المشروعات الكبيرة المتعددة المراحل التي تتطلب المواءمة مع احتياجات مختلفة، في حين أن الإطار الموحد يتلاءم أكثر مع المشروعات المتجانسة التي تتطلب اتساقاً وعمليات مبسطة. كما يمكن اعتماد نهج هجين في بعض الحالات، كأن يطبَّق إطار موحد على المناطق السكنية المتشابهة، ونهج مرن في المناطق المتعددة الاستخدامات.
3 - تقدير الفوائد لأصحاب المصلحة
من الضروري تقييم فوائد الحصول على شهادات الاعتماد من وجهات نظر مختلف أصحاب المصلحة، مثل المستثمرين، والمستأجرين، والشركاء، والجهات التنظيمية. فعلى سبيل المثال، قد يهتم المستثمرون بشهادات اعتماد تضمن استدامة الاستثمار مستقبلاً، في حين يُعطي المستأجرون الأولوية لمعايير الصحة والاستدامة في المبنى. وهنا ينبغي للمطورين طرح أسئلة مهمة مثل:
- هل المستأجرون مستعدون لدفع قيمة إضافية مقابل العقارات المعتمدة؟
- هل المستثمرون في هذا المشروع يشترطون وجود شهادة اعتماد معيّنة؟
- هل تساعد الشهادة على خفض التكاليف التشغيلية؟
- هل الشهادة شرط أساسي للشركاء أو الجهات التنظيمية؟
- هل تؤثر شهادة الاعتماد على انطباعات الشركاء أو العملاء؟
- هل تُعزز الشهادة استراتيجية الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات للمشروع؟
تحديد إطار الشهادات الأكثر ملاءمة للمشروع
يختار المطورون عادةً بين نهجين رئيسيين عند تحديد إطار شهادات الاعتماد:
إطار شهادات اعتماد تصاعدي مرن (Bottom-up)
يسمح هذا النهج لفرق العمل المختلفة باتخاذ القرار المناسب بشأن الحصول على الشهادة، وتحديد نوع الشهادة، ومستوى الطموح بحسب طبيعة الأصل العقاري. ويناسب هذا الإطار المشروعات التي تتفاوت فيها الاحتياجات من مرحلة إلى أخرى أو من أصل إلى آخر. على سبيل المثال، قد يستخدم المطور شهادة "ويل" (WELL) للمباني المكتبية بسبب تركيزها على رفاهة شاغليها، وشهادة "ليد" (LEED) للمباني السكنية لما لها من شهرة وانتشار، وشهادة "غرين كي" (Green Key) للمنشآت الفندقية نظراً لطبيعتها المتخصصة في قطاع الضيافة.
المزايا:
- تخصيص القرارات الصادرة بشأن شهادات الاعتماد بما يتناسب مع احتياجات كل أصل عقاري.
- تحقيق الكفاءة في التكلفة من خلال التركيز على الشهادات العالية التأثير.
- تحقيق مرونة تسمح بالتعديل بحسب تغيرات السوق.
التحديات:
- قد يؤدي التفاوت في القرارات الصادرة بشأن شهادات الاعتماد إلى إضعاف مكانة العلامة التجارية.
- تظهر أوجه عدم الكفاءة نتيجة تعامل الفِرق الفردية مع إجراءات شهادات الاعتماد على نحو مستقل.
- قد يكون التنفيذ أكثر تعقيداً ويحتاج إلى إرشادات واضحة.
إطار شهادات اعتماد تنازلي موحد (Top-down)
يركّز هذا النهج على القرارات المتخذة بشأن الأصول المطلوب اعتمادها، ونوع شهادات الاعتماد، ومستوى الطموح المطلوب تحقيقه. ويناسب هذا النهج المشروعات المتجانسة التي يكون فيها للتوافق وبناء العلامة التجارية أهمية كبيرة. على سبيل المثال، يمكن للمطور اعتماد شهادات "ليد" (LEED)، أو "بريام" (BREEAM)، لجميع المباني في المشروع نظراً لشموليتها وقوتها في السوق.
المزايا:
- ضمان تناغم النهج المتبع في إجراءات الاعتماد عبر مراحل التطوير، ما يعزز هوية العلامة التجارية.
- تسهيل عملية التخطيط ووضع الميزانية والتنفيذ.
- تبسيط إجراءات الاعتماد بفضل وضوح القرارات المحددة مسبقاً.
التحديات:
- قلة المرونة في التعامل مع احتياجات الأصول الفريدة.
- ارتفاع محتمل في التكلفة عند تطبيق الاعتماد للأصول التي قد لا تحتاج إليه فعلياً.
تحويل شهادات اعتماد البناء من عوامل تكلفة إلى محركات للقيمة
تزداد أهمية شهادات اعتماد المباني المستدامة يوماً بعد يوم، وأصبح تجاهلها في المشاريع العقارية الكبرى أو التعامل معها على أنها مجرد إجراء شكلي من شأنه أن يعرّض المشروع لمخاطر حقيقية، مثل ضياع فرص تحقيق القيمة، والإضرار بمكانة المشروع وهويته في السوق. ودون اتباع نهج استراتيجي واضح، قد يواجه المطورون تحديات في تلبية توقعات الجهات المعنية، أو الحصول على التمويل، أو الالتزام بالمتطلبات التنظيمية المتطورة.
وعلى الرغم من تعقيدات إجراءات إصدار شهادات الاعتماد، تُعد شهادات اعتماد المباني المستدامة وسيلة فعّالة لتحقيق القيمة وتعزيز الأثر الإيجابي للمشاريع العقارية الكبرى، شريطة اختيار نهج شهادة الاعتماد الذي يتواءم مع أهداف المشروع في مجالات الحوكمة البيئية والاجتماعية منذ المراحل الأولى. وعند دمج قرارات إصدار شهادات الاعتماد ضمن مرحلة التخطيط المبكر، يمكن للمطورين تلبية توقعات الشركاء والمستثمرين، وضمان أن تتحول شهادة الاعتماد من مجرد التزام إلى مقوّم محوري لتعزيز القيمة.