في عالم يزداد تعقيداً وترابطاً، تبرز تساؤلات مهمة حول مدى فعالية الناتج المحلي الإجمالي بوصفه مؤشراً وحيداً للنجاح الاقتصادي، وكيف يمكن لصناع القرار بناء سياسات مستدامة تحافظ على الثروات والموارد لتتمتع بها الأجيال القادمة، بدلاً من السياسات التي تهدف فقط إلى تعظيم الدخل على المدى القصير.
تشير أبحاث صادرة عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، إلى أن مقاييس مثل الناتج المحلي الإجمالي لا تعكس بدقة الأبعاد الاجتماعية والبيئية، ما يستدعي ضرورة استحداث مؤشرات اقتصادية تلبي متطلبات التنمية المستدامة.
تطور مؤشرات النمو الاقتصادي
على مر السنين، تم تطوير مؤشرات بديلة مثل مؤشر التنمية البشرية، الذي يُعتبر، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، أداة أكثر فعالية لقياس التقدم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي.
ولطالما اعتمد الاقتصاديون على متوسط الدخل الفردي والناتج المحلي الإجمالي لقياس التقدم في دولة ما دون الأخذ في الاعتبار التأثيرات السلبية للنشاط الاقتصادي على البيئة. ووفقاً لدراسة باكستانية حديثة بعنوان: "العلاقة بين البيئة والتنمية الاقتصادية المستدامة: نهج نظري لمشاكل بيئية" (Relationship Between Environment and Sustainable Economic Development: A Theoretical Approach To Environmental Problems)، فإن البلدان المتقدمة تُفرط في استخدام الموارد لإنتاج فائض من السلع للتصدير، في حين تستغل الدول النامية مواردها الحالية لتأمين الغذاء والقضاء على الفقر، لذلك، هناك حاجة ماسة لاستخدام الموارد البيئية بفعالية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.
في عام 1993، استطاع الاقتصادي البريطاني ديفيد بيرس أن يُدخل التأثيرات البيئية في الحسابات القومية لحساب الدخل المستدام أو الدخل الأخضر، وبدأ الاهتمام في البحث عن آلية فعّالة لجعل النموذج الحالي للنجاح الاقتصادي يسير جنباً إلى جنب مع الحفاظ على البيئة والرفاهية الاجتماعية.
وعليه، نظمت منظمة غير حكومية عالمية بالتعاون مع شريك محلي منتدى دولياً لاستكشاف معايير جديدة للنجاح الاقتصادي وتقييمها، وشارك فيه صناع سياسات وأكاديميون ومتخصصون في الاستدامة لمناقشة كيفية تطوير مؤشرات تعكس بصورة أفضل التقدم الاجتماعي والبيئي إلى جانب النمو الاقتصادي، وأشار الاقتصادي المتخصص بالتنمية جمال الدين إلى ضرورة تبنّي مؤشرات اقتصادية واسعة تُساعد في قيادة التقدم الحقيقي في عالم مترابط على نحوٍ متزايد.
وتركز النقاش على 5 أسئلة رئيسية:
- كيف يمكن للمؤشرات الجديدة أن تعكس على نحو أفضل الرفاهة الاجتماعية والبيئية؟
- ما هي الاستراتيجيات اللازمة لدمج النمو الاقتصادي في الاستدامة البيئية؟
- كيف يمكن تعزيز العدالة الاجتماعية ضمن الأطر الاقتصادية؟
- ما هو الدور الذي يمكن أن تؤديه التكنولوجيا في تحقيق الاستدامة والرفاهة؟
- كيف يمكن للمجتمعات المحلية أن تسهم بفعالية في صياغة السياسات الاقتصادية المستقبلية؟
واعتمدت النقاشات على تقنيات مثل "المقهى العالمي" لتحفيز التفكير النقدي وتوليد الأفكار الجديدة وتعزيز التفاعل البنّاء بين المشاركين، ما يُسهم في صياغة استراتيجيات يمكن تطبيقها في سياقات متنوعة، وجرى استعراض نتائج دراسات ميدانية وتجارب دولية مثل تجربة بوتان في دمج مؤشر السعادة الوطنية الإجمالية بوصفه مقياساً للنمو الاقتصادي، للدفع بالتحول نحو تقييمات اقتصادية أكثر شمولية مما يقدمه الناتج المحلي الإجمالي وحده.
وأسفرت المناقشات عن مجموعة من الأفكار والتوصيات القابلة للتنفيذ، التي من شأنها أن توجه السياسات والممارسات الاقتصادية نحو نموذج أكثر شمولية واستدامة، أهمها وضع خطط لتطوير مؤشرات جديدة لقياس الرفاهة، وإنشاء شبكات لتبادل البيانات بين الدول لمراقبة التقدم نحو الاستدامة، وبرامج تعليمية لرفع الوعي حول أهمية الاستدامة والعدالة الاجتماعية.
استراتيجية دولة الإمارات لجودة الحياة 2031
قدّم المنتدى دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً لتطبيق مفاهيم الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة، إذ تلتزم الدولة من خلال الاستراتيجية الوطنية لجودة الحياة 2031، بتحقيق رفاهة شاملة تشمل جوانب الحياة جميعها، من الصحة والتعليم إلى الاقتصاد والبيئة.
- الصحة: تعزيز الرعاية الصحية الشاملة والوقائية.
- التعليم: ضمان التعليم الشامل والمستمر.
- البيئة: حماية البيئة وتعزيز الاستدامة.
- الاقتصاد: تحفيز الاقتصاد المعرفي والابتكار.
- الثقافة والهوية: الحفاظ على التراث وتعزيز الهوية الوطنية.
- الحوكمة: تعزيز الشفافية والكفاءة في الإدارة.
- التنمية المجتمعية: دعم المبادرات المجتمعية وتعزيز التماسك الاجتماعي.
- الأمان والأمن: ضمان الأمان والأمن لجميع السكان.
- البنية التحتية: تطوير البنية التحتية المستدامة والحديثة.
ساعدت هذه الخطوات دولة الإمارات على التقدّم في مؤشر "أفضل دول العالم لعام 2024" الصادر عن شبكة "يو إس نيوز" (US News) الإعلامية الأميركية، حيث حصلت على المركز 27 في مؤشر جودة الحياة الذي يقيس عدة عناصر، منها جودة سوق العمل، والاستقرار السياسي والاقتصادي، وتقليص فجوة الدخل، والرفاهة، وتطور النظامين التعليمي والصحي.
نحو عصر جديد من الاستدامة والشمولية
إن المشاورات والتوصيات التي نتجت من هذا المنتدى الدولي لا تمثل تحولاً في مؤشرات النجاح الاقتصادي فحسب؛ بل إنها تدعو إلى إعادة التفكير الجذري في كيفية تقييم التقدم والرفاهة، وتنبّه على ضرورة تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعوامل الاجتماعية والبيئية من أجل الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة، لذا فإن الانتقال من الناتج المحلي الإجمالي إلى مؤشرات تعكس بصورة أفضل الرفاهة الشاملة يشكل خطوة حيوية نحو تحقيق تنمية مستدامة تحترم كرامة الإنسان وتحافظ على الكوكب.
ويقع على عاتق الحكومات والشركات والمؤسسات التعليمية، والمواطنين دور مهم في تبني هذه المؤشرات الجديدة وتطبيقها. ومن خلال التعاون والالتزام المشترك، يمكن بناء مجتمعات تقيّم النجاح من خلال قدرتها على توفير حياة كريمة ومستقرة لجميع أفرادها، وليس فقط بمقدار الثروة التي تُنتجها.
نحن على أعتاب عصر جديد حيث يمكن للرفاهة الاقتصادية أن تسير جنباً إلى جنب مع الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية. وبمشاركة الأطراف جميعها وتحملها للمسؤولية، يمكن تحقيق رؤية عالمية تكون فيها الرفاهة الحقيقية متاحة للجميع، ما يضمن لأجيال المستقبل بيئة صحية ومجتمعات مزدهرة.