نعيش في حقبة من التاريخ البشري تحفل بالمفارقات العجيبة؛ فالتحديات المجتمعية، مثل التغير المناخي والتفاوت الاقتصادي والظلم الاجتماعي، متجذرة بعمق وتزداد سوءاً. وعلى الرغم من ازدياد قدرتنا الجماعية على الاستجابة لهذه التحديات، لا تزال المشاكل أضخم من الموارد والحلول المتاحة. ومن منطلق هذه الأزمة توصّل الكثير من القادة المهتمين بإحداث أثر إيجابي، ومنهم المؤلفان المشاركان في هذا المقال، إلى حقيقة مفادها أن النهج التقليدي لحل المشاكل لم يعد كافياً.
لطالما استثمرت الجهات المعنية بالعمل الخيري في الجهود الهادفة إلى إيجاد حلول للتحديات المجتمعية، مثل التغير المناخي ونقص الرعاية الصحية. ويتطلب إحداث تغيير شامل في بيئات العمل بأكملها زيادة الاستثمار في المبتكرين الاجتماعيين القادرين على بناء الجسور بين مختلف القطاعات والربط بين مكونات النظام لتحفيز العمل الجماعي وتحقيق تأثير واسع النطاق، مع التركيز أكثر على العدالة والثقة والشراكة.
نحتاج إلى المزيد من الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة لمواكبة التحدي؛ إذ تؤدي هذه الجهات دوراً محورياً في تحقيق التغيير الاجتماعي الشامل من خلال الربط بين الأطراف المعنية والمؤسسات، إلى جانب توفير البنية التحتية الأساسية وحشد جهود التغيير الجماعي في مختلف بيئات العمل والقطاعات والمناطق الجغرافية. وتعمل في الوقت نفسه على صياغة نماذج جديدة والاستفادة من الموارد على مستوى النظام والتعامل مع التعقيدات، وهذا كله من أجل خلق حالة من الزخم والتقدم إلى الأمام على مستوى المجتمع.
غالباً ما تتعرّض الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة للتجاهل بسبب الأدوار المعقدة والتعاونية التي تؤديها من وراء الستار في جهود تغيير الأنظمة الطويلة الأمد. ونتيجة لذلك يطلق العديد من العاملين في مجال الابتكار الاجتماعي على هذا الدور المتعدد الجوانب مصطلحات ومسميات مختلفة؛ إذ تشير مؤسسة ذا بريدجسبان غروب (Bridgespan Group) إلى هذه الجهات الفاعلة باسم "المحفزات الميدانية" (Field Catalysts)، ويطلق عليها آخرون "محفزات الأنظمة" (System Catalysts) و"وكلاء الأنظمة" (System Stewards) و"رواد الشبكات" (Network Entrepreneurs). وعلى الرغم من الخلاف حول المصطلحات، فإن أبحاث مؤسسة بريدجسبان تشير إلى حقيقة أساسية: إذا أردت إحداث تغيير عادل في الأنظمة، فإن الاستثمار في الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة من أكثر أنواع الاستثمارات تأثيراً وأهمية في قطاع العمل الخيري.
كيف يبدو تنسيق الأنظمة في الواقع العملي؟ تُعتبر منظمة هيلث كير ويذ آوت هارم (HCWH) التي تعمل في قطاعات وبيئات عمل متعددة مثالاً واضحاً على أهمية الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة في إحداث تغيير منهجي؛ إذ تمتد جهود المنظمة إلى عدة دول على مستوى العالم مع التركيز على العلاقة المتبادلة بين صحة الإنسان وسلامة كوكب الأرض لإحداث تغيير شامل في قطاع الرعاية الصحية وتعزيز العدالة والعمل المناخي، فتتعاون مع منظمة الصحة العالمية والحكومات والمستشفيات والمنظمات المجتمعية من أجل ضمان التزام هذه الجهات بتصميم أنظمة صحية منخفضة الكربون تمهيداً للقضاء على الانبعاثات الكربونية نهائياً في المستقبل. ويتميز نهجها التنسيقي بتبني المبادرات الأهلية والربط بينها وتوسيع نطاقها من أجل إحداث تغييرات على مستوى الأنظمة في السياسات والممارسات.
وتعمل منظمة إي غوف فاونديشن (eGov) الخيرية في الهند على تحسين حياة الناس من خلال إحداث تغيير شامل في البنية التحتية للصحة العامة وتعزيز إدارة الصرف الصحي وتحسين إدارة الماليات العامة ومواجهة التغير المناخي، ودعم ذلك كله ببنية تحتية وأنظمة رقمية مفتوحة. وتحرص المنظمة على مساعدة الدولة في تقديم خدمات يسهل الوصول إليها بأسعار ميسورة يستفيد منها الجميع لتحقيق هدفها المتمثل في إعطاء الأولوية للناس وتقريب الحكومة من المواطنين الذين تخدمهم. وقد استفاد حتى الآن مليارا شخص وأكثر من 200 منظمة في 10 دول من أصول منظمة إي غوف فاونديشن.
تدرك الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة ضرورة تقاسم واجبات القيادة والسلطة المصاحبة لها بين عدة أشخاص، ومنهم مختلف فئات المبتكرين الاجتماعيين والمسؤولين الحكوميين والمدراء التنفيذيين بالإدارة العليا.
تحشد أكبر منظمة غير ربحية تهتم بالصحة العامة للنساء والفتيات ذوات البشرة الداكنة في الولايات المتحدة، منظمة غيرلتريك (GirlTREK)، أعضاء المجتمع لتنظيم مجموعات المشي المحلية وقيادة حركة صحية تركز على علاج آثار الصدمات النفسية والعاطفية التي تنتقل من جيل إلى آخر ومكافحة العنصرية المنهجية. وبالعمل من كثب مع العديد من المنظمات، مثل مراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها (CDC) والمجلس الأميركي للتمارين الرياضية (ACE) ونادي سييرا كلوب (Sierra Club)، طورت منظمة غيرلتريك برنامجاً تدريبياً على مستوى عالمي يهدف إلى تمكين النساء ذوات البشرة الداكنة اللاتي يرغبن في أن يصبحن مدافعات عن الصحة العامة ومدربات. حددت المنظمة هدفاً جريئاً يتمثل في زيادة متوسط العمر المتوقع للنساء ذوات البشرة الداكنة في الولايات المتحدة بمقدار 10 أعوام. وتحقيقاً لهذه الغاية، تعمل حالياً على إشراك أكثر من 1.3 مليون امرأة ذات بشرة داكنة في الولايات المتحدة وحدها، إضافة إلى ظهور مجموعات المنظمة في منطقة البحر الكاريبي وغرب إفريقيا.
ولا غنى عن الدور الذي تؤديه الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة لبناء الجسور بين الأفراد والمؤسسات وتعزيز التعاون والربط بين مختلف الأطراف المعنية لإحداث تغيير شامل في المجتمعات نحو الأفضل. وقد شهدنا عن قرب الأثر الهائل الذي تُحدثه هذه الجهات لصالح شركائنا والأطراف المعنية في بيئة العمل، إضافة إلى أهمية تمويلها والتعاون معها على المدى البعيد؛ لذا تعاونت مؤسسة سكول فاونديشن التي تركز على القضايا العالمية ومؤسسة نيو بروفيت (New Profit) من الولايات المتحدة ومؤسسة روهيني نيليكاني الخيرية من الهند (Rohini Nilekani Philanthropies) ومؤسسة إنستيتيوتو بيجا (Instituto Beja) من البرازيل لدعم الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة في جهودها لإصلاح الأنظمة غير العادلة في مختلف أنحاء العالم.
أحد المفاهيم الخاطئة التي نعمل على معالجتها بين الممولين هو فكرة مفادها أن الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة التي تتمتع بالمهارة والقريبة من المجتمعات قليلة ونادرة. والواقع أن التمويل هو الذي كان يعاني الندرة؛ في حين نشهد وفرة الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة وفرص دعمها.
ونأمل أن يؤدي عملنا معاً إلى تسريع رحلة تعلّمنا الجماعي والتوصل إلى فهم مشترك للمنهجيات الفعالة واحتياجاتنا وتوفير الموارد للممولين الآخرين الذين يرغبون في تقديم تمويل واسع النطاق ومستدام وغيره من أشكال الدعم للجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة.
لاحظنا 3 سمات رئيسية تميز أنجح الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة التي عملنا معها لإعادة تشكيل أنظمة بأكملها في مجالات مثل التعليم والرعاية الصحية والاستدامة البيئية وحماية الديمقراطية والعدالة الاقتصادية.
التركيز على تعزيز العمل والأثر الجماعيين. | تمثّل الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة أداة للربط بين مختلف مكونات النظام؛ إذ تحدد الحلول التي تستحق بذل مزيد من الجهد لاستكشافها والتوسع في تطبيقها والتحقق من فعاليتها ودعمها، كما أنها تستوعب العوائق المالية والسياسية والقانونية والثقافية التي غالباً ما تتعرض للتجاهل أو المعالجة بمعزل عن غيرها؛ فهي تدرك أن تغيير أساليب التفكير في التحديات المجتمعية والحلول المحتملة جزء لا يتجزأ من العمل، ونتيجة لذلك يقل الاعتماد على الجهود الفردية ويزداد الاعتماد على التحالفات التي يمكنها تسريع الحلول على نطاق واسع.
بناة الجسور وتمكين القادة الآخرين في النظام. | تدرك الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة ضرورة تقاسم واجبات القيادة والسلطة المصاحبة لها بين عدة أشخاص، ومنهم مختلف فئات المبتكرين الاجتماعيين والمسؤولين الحكوميين والمدراء التنفيذيين بالإدارة العليا. يتمتع هؤلاء القادة بمستويات عالية من المصداقية ويحظون بالثقة باعتبارهم وكلاء لبناء الجسور بين المجتمعات والمؤسسات التي تملك السلطة بهدف تعزيز العدالة والشمول وإحداث التغيير. ونظراً للتحديات التي تواجه تحقيق التقارب في عالم يحفل بالاستقطاب، فغالباً ما يكتفون بقيادة الآخرين من وراء الستار، دون السعي للحصول على إشادة شخصية بإنجازاتهم.
القدرة على استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات المتاحة بفعالية. | تدرك الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة أن القضايا المجتمعية الكبرى لا يمكن معالجتها باستخدام حل واحد، وأن الاعتماد على المال وحده لا يكفي لحل مشاكلنا. وبالإضافة إلى التمويل المباشر، فإنها تستخدم استراتيجيات متنوعة، مثل الاجتماعات وبناء العلاقات وتبادل المعرفة، للتأثير في السياسات وتدفق الموارد ومسارات صناعة القرار وتغيير العقليات والسلوكيات.
وقد حان الوقت للعمل معاً من أجل تعزيز الاستثمار في تنسيق الأنظمة. في عام 2022، أجرت مؤسسة ذا بريدجسبان غروب استقصاء شمل نحو 100 جهة مسؤولة عن تنسيق الأنظمة، كان من بينها الكثير من الجهات التي تضمها شبكات علاقاتنا، التي تحشد مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة ضمن حركة تغيير اجتماعي أو مجال محدد وتحفزها لتحقيق هدف مشترك يتمثل في إحداث تغييرات منصفة في الأنظمة القائمة. توصّل الاستقصاء إلى أن هذه المؤسسات كانت تؤمن بقدرتها على تحقيق أهدافها الطموحة المتمثلة في تغيير الأنظمة خلال عقدين من الزمن مع عمل كلٍّ منها بفريق يبلغ عدد أعضائه 10 موظفين في المتوسط وميزانية تشغيلية سنوية لا تتجاوز 5 ملايين دولار. هذا على الرغم من نقص التمويل بدرجة خطيرة، حيث تقدّر فجوة التمويل لكل منظمة بنحو 2.5 مليون دولار سنوياً في المتوسط.
ومن شأن سد هذه الفجوة التمويلية أن يساعد هذه المؤسسات على تغيير أنظمتها إلى الأفضل. وبالإضافة إلى إتاحة المزيد من الموارد، فإننا نؤمن بقدرتنا على التعاون مع الآخرين لإتاحة الفرص أمام الجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة كي يتعلم بعضها من بعض، وأمام الممولين والشركاء الآخرين للانضمام إلى تلك الجهود.
وباعتبارنا جهات ممولة، فإننا نؤمن بضرورة الاستماع إلى المبتكرين الاجتماعيين في الخطوط الأمامية والتعلم منهم؛ فهم يعرفون أفضل الطرق لدعم عملهم على نحو أفضل. وهذا المستوى من الشراكة أمرٌ بالغ الأهمية؛ لأن جهود تنسيق الأنظمة طموحة ومعقدة للغاية وتتطلب سد الكثير من الفجوات والربط بين قطاعات مختلفة.
لقد أطلقنا مركز التغيير المتسارع (C4EC) لحشد الجهود حول تنسيق الأنظمة، والمركز عبارة عن شبكة علاقات عالمية تعمل على توفير منصات للجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة وحشد الموارد اللازمة لدعم عملها. تُستخدم هذه الموارد، ومنها الخبرات التصميمية والمنح التي تهدف إلى دعم الابتكارات التي تُمثل تغييراً جذرياً في النماذج السائدة وتطوير القدرات القيادية والتكنولوجية، لإعادة تصور الحلول وبيئات العمل التي تخلق استجابات مرنة وتعاونية للتحديات الجديدة عند ظهورها.
من الصعب تصور أي سيناريو يمكن فيه تحقيق الأهداف الكبيرة والطموحة للمجتمع دون وجود للجهات المسؤولة عن تنسيق الأنظمة. وإذا وفرت الأعمال الخيرية لها الدعم الشامل الذي تستحقه على المدى البعيد، فقد لا نضطر إلى البحث عن حلول بديلة.
في هذا الفيديو تتحدث فاعلة الخير روهيني نيليكاني والرئيس التنفيذي لمؤسسة سكول فاونديشن (Skoll Foundation)، دون جيبس، في منتدى سكول العالمي لعام 2024 (2024 Skoll World Forum) عن دور العمل الخيري في معالجة التحديات العالمية المتجذرة وإحداث التغيير على نطاق واسع.