في كثير من الأحيان، يعتبر مجال ريادة الأعمال الاجتماعية المبادئ الأساسية التي يستند إليها من البديهيات فلا تخضع لأي مراجعة أو محاولة تطوير، وتسعى المشاريع الاجتماعية إلى حل مشاكل المجتمع باستخدام الأساليب التجارية، ولتقييم مبادراتها يبدو من البديهي أن يعمل كل من الرواد الاجتماعيين والممولين والجهات الرقابية والمنتفعين على تقييم أثرها في المعنيين بتلك المشاكل. وهو موقف منطقي، ويدعمه عمالقة الفكر، مثل مارثا نوسبوم وأمارتيا سن اللذين ألهم فكرهما بشأن قدرات البشر جهود العمل التنموي على مدار 30 عاماً.
لا شك في أنه من الضروري فهم أثر الابتكار الاجتماعي المباشر في حياة الناس، لكن تركيزنا المفرط على الأثر القابل للقياس وحده يقودنا إلى مزالق مألوفة، فمن الصعب قياس تفاعل الآثار فيما بينها وفهمه، خاصة على المدى الطويل، وتمتلئ دراسات الابتكار الاجتماعي بنماذج عن العواقب غير المقصودة، حيث تُوقع الجهود الحسنة النية والمبشرة في بدايتها آثاراً محايدة أو ضارة على المنظومات الأوسع نطاقاً أو التطورات المستقبلية؛ إذ يمكن أن تتورط المؤسسات الاجتماعية التي تهدف إلى تحسين حياة الناس في صراعات أيديولوجية، وكثيراً ما تتعرض للانتقاد بسبب معالجتها للمشاكل التي تخص المجتمع عموماً بمبادرات خاصة تهدف إلى الربح، أو بسبب تحويل مجالات حساسة إلى سلع لكن من غير الملائم إخضاعها لقوانين السوق وقواها. وتسهم هذه التحديات في الشكوك التي يوجهها الممولون وصناع السياسات إلى المؤسسات الاجتماعية، إذ يجدون صعوبة في تمييزها عن الأنماط التنظيمية الأخرى وإدراك مزاياها النسبية والقيود التي تعوق عملها.
كيف يمكن للريادة الاجتماعية التغلب على هذه العقبات؟ نعتقد أن الإجابة تكمن في تأسيس المجال على مبادئ مختلفة تتمثل في فلسفة جون راولز السياسية. قد يبدو راولز خياراً غريباً في البداية، لأنه معروف بتطوير نظرية للعدالة تعتمد على الإنصاف والمساواة، وكان لها أثر هائل في النظرية السياسية وتطبيقاتها العملية في مجالي السياسة والقانون. لكننا لا نرى أثراً كبيراً لراولز في الابتكار الاجتماعي وتقييم البرامج لأنه لم يكن لديه الكثير ليقوله عن المؤسسات مباشرة، ولكن استخلاص الدروس التي يمكن أن تفيد المؤسسات الاجتماعية من عمل راولز سيزودها بموارد أساسية تسهم في بناء جهودها على أسس سليمة لتحقق أثراً دائماً.
يرى راولز أن العدالة هي الفضيلة الأولى للمجتمع وتمثّل الدليل المرشد لتوزيع مكاسب التعاون المجتمعي وأعبائه، وتحدد كيفية توزيع الحقوق والواجبات والفرص والسلطة والاحترام بين الناس على نحو منصف. يقتضي تحقيق العدالة تأسيس المؤسسات العامة واستمراريتها إذ إنها توفر المنافع العامة الأساسية، مثل النظام القانوني والنظام الضريبي والضمان الاجتماعي والأسواق التنافسية والصحة والتعليم، بالإضافة إلى أنها توفر آليات تضمن إتاحة هذه المنافع للجميع وتحد من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية ضمن القطاع الخاص التي تسبب اضطرابات في المجتمع. فالمؤسسات العامة هي المسؤولة في المقام الأول عن تحقيق مبادئ العدالة؛ وإذا كانت متخلفة أو ضعيفة الأداء فلا يمكننا أن نتوقع من القطاع الخاص والأفراد تعويض هذا النقص مباشرة، فالشركات الخاصة ليست مسؤولة أمام المجتمع كله ولا تستطيع تنسيق استراتيجيات معالجة القضايا العامة بفعالية أو ضمان توزيع المساهمات والفوائد بعدالة. لكن العدالة تفرض واجب تعزيز القدرة المؤسسية وترسيخ الكفاءة في المؤسسات الرئيسية بالمجتمع بهدف وضع شروط التعاون العادلة والتمسك بها.
يشكّل العمل على ضمان أن تكون هيكليات المجتمع الأساسية قائمة على عدالة فعالة هدفاً مجتمعياً شاملاً يساعد المجتمعات على تحقيق العدالة في عدة جوانب ومجالات، كما تسهم مواءمة استراتيجيات المبادرات الاجتماعية مع جهود تعزيز قدرات المؤسسات العامة في تجنب تكرار عمل مبادرات موازية أو التناقض معها، وفرض قيم بعض الأطراف على الأطراف الأخرى.
وعلى الرغم من أن الشركات الخاصة لا تستطيع تعويض دور المؤسسات العامة الغائبة أو غير الفعالة، فبإمكانها تقديم مساهمات حيوية في تطوير المؤسسات العادلة واستمراريتها؛ فهي قادرة بطبيعة الحال على الدعوة إلى الإصلاح المؤسسي وتعويض فشل المؤسسات العامة مؤقتاً، ولكن مميزات المؤسسات الاجتماعية، التي تمزج بين العناصر الاجتماعية وممارسات السوق التجارية، تفرض احتمالات أقل وضوحاً لكنها بالأهمية نفسها لتعزيز قدرات المؤسسات العامة:
- إظهار البدائل العادلة عن طريق إثبات المفاهيم. عندما تكون الأسواق استغلالية أو إقصائية، يمكن للمؤسسات الاجتماعية أن تجسد ممارسات توضح بفعالية قابلية نجاح البدائل الأكثر عدلاً، خذ مثلاً مبادرات التجارة العادلة والتعاونيات المملوكة للعمال ومواقد الطهي ذات الربح المنخفض.
- تحفيز المساءلة بالضغط التنافسي. يمكن للمؤسسات الاجتماعية أن تفرض ضغطاً غير مباشر على الحكومات والشركات البعيدة عن المساءلة، لتجبرها على كبح جماح الفساد وخدمة الصالح العام وخفض الأسعار. فعلى سبيل المثال، كان للمؤسسات الاجتماعية التي تقدم خدمات الجنائز الميسورة التكلفة في مقاطعة كيبيك الكندية دور مؤثر في الحد من ارتفاع أسعار هذه الخدمات في القطاع.
- مساعدة المؤسسات العادلة في تحقيق طموحاتها. يمكن للمؤسسات الاجتماعية أن تساعد في إتمام العمل الذي تسعى المؤسسات العادلة إلى تنفيذه. وتقدم المؤسسات الاجتماعية لدمج الأفراد المهمشين في سوق العمل (Work Integration Social Enterprises - WISEs) نموذجاً في هذا الصدد، فهي ضرورية لضمان توفير فرص العمل للفئات المهمشة حتى في البلدان التي تطبّق سياسات قوية لإتاحة فرص العمل لذوي الهمم.
- توسيع الخيارات خارج نطاق التيار الرئيسي. بمقدور المؤسسات الاجتماعية أن تتمم عمل المؤسسات العادلة بإضافة فرص جديدة للعمل والاستهلاك والاندماج في المجتمع. ومن أمثلة ذلك مهرجان صن دانس السينمائي (Sundance Film Festival)، الذي يتيح فرصاً جديدة لمنتجي الأفلام المستقلة وجمهورها.
الابتكار الاجتماعي ساحة تنافسية ومربكة، حيث تدّعي مؤسسات عديدة، على اختلاف أنواعها واستراتيجياتها، أنها تعمل لتعزيز الصالح العام وتحفيز التقدم الاجتماعي، ويجد الممولون وصنّاع السياسات صعوبة في تمييز المؤسسات الاجتماعية وفهم قيمتها المحتملة. وفيما يلي الطريقة التي تتيح لهم ذلك:
- التركيز على الأثر المؤسسي. قيّم عمل المؤسسات الاجتماعية وعملك الخاص بناءً على الأثر الطويل المدى في المؤسسات العامة وليس الآثار القصيرة المدى في الأفراد.
- وضع السياق في الاعتبار. ضع في اعتبارك الظروف التي تعمل فيها المؤسسة الاجتماعية كي تفهم فعاليتها، إذ ينبغي ألا تتوقع أثراً أكبر من المعتاد في أوضاع تكون فيها قدرة المؤسسات العامة قوية بالفعل، لكن هذا لا يعني انعدام قيمة هذا الأثر.
- تنسيق تقسيم العمل. ضع حدوداً واضحة وأسس آلية تواصل بين المبادرات لمنع تكرارها ولتعزيز العمل التعاوني من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
- دعم الوضوح المعياري. قدّم إرشادات واضحة تستند إلى المبادئ المعيارية لتقييم الريادة الاجتماعية حتى تحقق الأثر وتبني الثقة، ودقق في المبادرات التي لا تلبي المستوى المطلوب.
في حين أن التيار السائد الآن يبتعد عن التركيز الضيق على مقاييس التقييم الكمي في العمل الخيري الذي يهتم بدعم تغيير الأنظمة، نجد أن هذه المقاييس ما زالت حاضرة بقوة في قطاع الريادة الاجتماعية، فهو يسعى إلى الاستفادة من النشاط القائم على السوق لتحسين الأوضاع الاجتماعية، تحديداً من خلال مواءمة الأساليب الإدارية مثل تقييم الأثر الكمي، وغالباً ما تركز هذه الأساليب على أهداف مثل توسيع نطاق النشاط وتسريع وتيرته، وهي تقيّم الأثر بقياس عدد المستفيدين الذين وصل إليهم البرنامج أو تلقوا تدريباً أو علاجاً. لكن هذا النهج يعزز أفكاراً خاطئة مفادها أن التحسن الملحوظ في تجربة ما سيؤدي عموماً إلى نتائج مماثلة في سياقات مختلفة أو يزداد باطراد مع ازدياد الاستثمارات. نحن نقول إن هذه المقاييس تعجز عن توضيح الأثر الكامل المحتمل للريادة الاجتماعية لأنها تتبنى مقاييس غير موثوقة ولا تركز على أهداف القياس الصحيحة؛ أي معرفة دور المؤسسات الاجتماعية في تأسيس بنية تحتية مؤسسية عادلة. إليك كيفية تغيير ذلك:
- توسيع أهداف الأثر. تجاوز النتائج الفورية وفكّر في الآثار المؤسسية الطويلة المدى للريادة الاجتماعية.
- استعن بالتقارير ذات السرد القصصي. استخدم القصص والبيانات النوعية التي تسلط الضوء على المساهمات غير المباشرة للريادة الاجتماعية في تحقيق العدالة.
- تحدي المقاييس الاستراتيجية. طوّر مقاييس جديدة تجسد الأهداف الأوسع للعدالة والإنصاف.
- تقبّل التعقيد. اعترف بتعقيد السياقات والبيئات التي تعمل فيها المؤسسات الاجتماعية وكيّف تقييمات الأثر وفقاً لها.
من خلال تبنّي رؤى من فلسفة راولز السياسية، سنتمكن من بناء الريادة الاجتماعية على الأسس المعيارية التي تجنبها المزالق الأيديولوجية وتقوي أثرها وتكسبها الثقة. ويقدم هذا النهج إطاراً واضحاً وعملياً لفهم دور الريادة الاجتماعية في تعزيز العدالة الاجتماعية؛ فهو يوضح ضرورة تبنّي المؤسسات الاجتماعية نهجاً أوسع نطاقاً وأطول مدىً لتقييم أثرها، ويوفر وسيلة للممولين وصناع السياسات تساعدهم على تمييز الريادة الاجتماعية عن الممارسات الأخرى وتقييم المبادرات المتنوعة.
يساعد تبنّي هذه الأفكار في ضمان أن يكون عمل الريادة الاجتماعية هادفاً ومستداماً، وبتركيزنا على قدرات المؤسسات العامة، سندعم قدرة المؤسسات الاجتماعية على إحداث تغيير جذري وجعل العالم أكثر عدلاً وإنصافاً.