لماذا ثقافة المؤسسة غير الربحية أهم من استراتيجيتها؟

6 دقيقة
الثقافة والاستراتيجية

كما يعلم الكثير من قادة المؤسسات غير الربحية، فإن الموظفين هم الأساس في عملنا، إذ يدفع الشغف والالتزام لإحداث تغيير إيجابي في العالم، أولئك الذين يختارون العمل في القطاع الاجتماعي. ونظراً لما تحظى به الثقافة من أهمية كبيرة لدى القوى العاملة اليوم، فإن القادة في قطاعنا يفكرون في كيفية التعامل مع عناصر الثقافة المؤسسية مثل التنوع والإنصاف والشمول، وتوازن العمل والحياة، والثقة والاندماج.

عملت على مدار حياتي المهنية في أدوار تشمل التخطيط والتقييم والقيادة، وهي تجارب زودتني بأدوات ومنظور لا يقدّر بثمن في رحلة قيادة مؤسسة غير ربحية. وقد أفادني الاعتماد على هذه التجارب عندما أصبحت رئيسة لمجلس الإدارة والرئيسة التنفيذية لمؤسسة أمانات بيو الخيرية (Pew Charitable Trusts) في يوليو/تموز 2020، في فترة شهدت تحديات اجتماعية هائلة. وكنت أعلم أن دعم فريقنا سيكون على رأس الأولويات؛ وهو كذلك لكل رئيس تنفيذي. يستخدم هؤلاء الموظفون المخلصون مواهبهم لمساعدة المجتمعات والأفراد على الازدهار، لكن القيادة في فترة تحول عالمي أوضحت مدى ضرورة الاهتمام بأفراد المؤسسة تماماً مثل الاهتمام بأهداف برامجها، ومنحهم القدر نفسه من الأهمية والعناية.

لا شك في أن الثقافة السلبية تقوّض استراتيجية المؤسسة مهما كانت مُحكمة، لن أقول إن مؤسسة بيو أنشأت الثقافة المرغوبة ببراعة، لكن يمكنني القول بثقة إننا أحرزنا على مدى السنوات القليلة الماضية تقدماً مهماً نحو بناء ثقافة متنوعة ودودة شاملة في المؤسسة على كل مستوى، وهي تحسينات عززت قدرتنا على التعامل مع تحديات عالم متغير. وقد فعلنا ذلك بتطبيق أسلوب كان مفيداً لمؤسسة بيو على مدى عقود في برامجها، وأعتقد أنه يمكن أن يساعد المؤسسات الأخرى في الاستمرار بالتركيز على الثقافة في ظل التغيرات المستمرة، وذلك من خلال تعزيز الحوار وبناء الثقة، وجمع الحقائق والأدلة، وتطبيق الخبرة، ووضع استراتيجيات تعكس قيمنا وأهدافنا.

إعطاء الأولوية للموظفين

عندما أصبحت رئيسة تنفيذية، كان حافزي هو تلك الفرصة المتاحة لصنع مؤسسة شاملة ومبتكرة، ذات ثقافة عمل مبنية على الثقة والاحترام المتبادلين، وتتبنّى رؤى موظفين مبدعين ومتنوعين. ولكنني، مثل الكثير من قادة المؤسسات غير الربحية الذين تحدثت إليهم في عام 2020، كنت مضطربة جداً بسبب ما كان يحدث في العالم وملتزمة بالاستجابة له بطريقة مدروسة وهادفة.

ومع التحول السريع للمؤسسة كلها للعمل من المنزل خلال جائحة كوفيد-19، التزمت أنا وفريقي التنفيذي بأسلوب إدارة مدروس، لأننا أدركنا أن الموظفين يتوقون إلى الاستقرار في أوقات عدم اليقين. واتبعنا توصيات الصحة العامة المحلية في مقراتنا المكتبية كافة وأعطينا الأولوية لتوازن العمل والحياة في جميع أنحاء المؤسسة. وعززتُ جهودي في التواصل الداخلي محاولة سد الفجوة التي خلّفها حرماننا من التفاعلات الشخصية ضمن المكاتب في أثناء الجائحة. وعندما رحّبنا أخيراً بالموظفين العائدين إلى مكاتبهم، قدّمنا خطة للعمل الهجين مصممة لتعزيز ثقافتنا وتحسين العلاقات من خلال برامج التطوير المهني والفعاليات الاجتماعية والتطوع لخدمة مجتمعاتنا. كما شددنا تركيزنا على مبادئ التنوع والمساواة والشمول على اعتبارها دليلاً إرشادياً مهماً لتغيير الثقافة في عملياتنا كافة.

البيانات هي الدليل والمقياس

أردت إضفاء الموضوعية على جهود تغيير الثقافة التي كنا ننفذها؛ فقد رغبت في الاعتماد في توجيهنا على الأدلة لا الحدس. ومؤسسة بيو بطبيعتها مستندة إلى البيانات، لكنني أعتقد أن بمقدور جميع المؤسسات الاستفادة من هذا النوع من الدقة والوضوح. وفي حالتنا، يتوافق تأسيس قاعدة بحث صلبة مع كيفية تعامل مؤسسة بيو مع عملها في برامجها، وبالتالي، فإن طريقة التفكير هذه مألوفة لموظفينا. كما أن هذا الأسلوب التجريبي، الذي يمثّل لغتنا المشتركة، ضروري عند بناء الثقة وترسيخ اليقين في مؤسستنا.

وقد استندنا إلى الاستقصاءات والتقييمات التي أجريناها داخل المؤسسة للحصول على رؤى أعمق حول طبيعة تجارب زملائنا في مكان العمل، فأشارت الآراء والملاحظات إلى أن العديد من الموظفين لم يشعروا بأنهم مشمولون أو أن هناك من يشجعهم على التحدث بصراحة، وكان هذا الشعور أعمق لدى الموظفين المنتمين إلى الفئات المهمشة تاريخياً. وتبين لنا أن الموظفين يفهمون تركيزنا على الدقة والتميز في بعض الأحيان على أنه إصرار مستحيل على بلوغ الكمال. ودفعتنا هذه النتائج إلى زيادة تركيزنا على التعرف على ما نحتاج إلى تنفيذه لجذب المواهب المتنوعة واستبقائها، وتشجيع المشاركة، ورعاية ثقافة الاحترام، مع الحفاظ على معاييرنا العالية في عملنا.

في عام 2022، أجرينا استقصاءً للموظفين لتقييم جهودنا لتحقيق التنوع والمساواة والشمول وفعالية الإشراف والقيادة والتواصل الداخلي، ولقياس اندماج الموظفين عموماً. وكشفت النتائج عن نقاط قوة، مثل الالتزام العام بتنفيذ العمل بكل جودة ممكنة، وكذلك كشفت عن نقاط تستدعي التحسين، مثل المخاوف بشأن الفرص المتاحة للتعلم والنمو، الأمر الذي ساعد قادتنا وفرقنا في تحديد المجالات التي يجب التركيز عليها. فاستند كل قسم وكل فريق عمل إلى تلك البيانات لوضع خطط عملهم من أجل معالجة جوانب ثقافة المؤسسة التي تتطلب اهتمامهم.

وضعت البيانات أساساً، وأتاح لنا استقصاء متابعة أجريناه العام الماضي فرصةً لقياس تقدمنا. وأظهر هذا الاستقصاء تحسناً في اندماج الموظفين. وللتعمق في فهم تجربة الموظفين في العمل، سألناهم: "ما الذي يعوقكم عن تقديم أفضل أداء في عملكم بمؤسسة بيو، وكيف يمكنكم إصلاحه؟". فتمثل أبرز موضوعين في الاقتراحات العديدة التي تلقيناها في تقليل البيروقراطية وتوضيح توقعات المؤسسة من موظفيها. لذا، وضعنا هاتين النقطتين في الاعتبار ضمن جهودنا لتحسين الفعالية التشغيلية، وكان الرد المعتاد على محاولة التغيير هو الرد الذي يتردد في أي مؤسسة: "لكن هذه هي طريقة العمل التي اعتدناها". أما الآن، وفي جعبتنا ملاحظات موظفينا وآرائهم، فلدينا المزيد من الأسباب الوجيهة للضغط من أجل التغيير.

بناءً على النتائج، عملنا على صياغة سياسات رسمية ممولة لمجموعات موارد الموظفين وعملنا على تحسين إمكانية الوصول إليها؛ ووسّعنا نطاق التواصل واتصالاتنا الداخلية. واعتمدنا أيام عطلة لا نعقد فيها اجتماعات، احتراماً للتقاليد الدينية والثقافية، واستضافت مجموعات موارد الموظفين مناسبات دينية وفعاليات ثقافية متنوعة. تمكّن هذه الخطوات الأفراد من تعزيز العلاقات ومشاركة الموارد والتعلم من الآخرين وتكوين المجتمعات، ما يرسخ بيئة عمل متنوعة وعادلة وشاملة.

البحث عن الخبرة

اعتادت المؤسسات الاستعانة بالخبراء لتزويدها بالمعلومات اللازمة حول قضايا محددة، ولوضع استراتيجيات تحقق نتائج قابلة للقياس. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، سعدتُ بانضمام واحدة من قادة التغيير المؤسسي إلى فريقنا، لتساعدنا في دمج ممارسات التنوع والمساواة والشمول في ثقافة مؤسستنا وفي رسالتنا ورؤيتنا وبرامجنا وسياساتنا. تقود نائبة الرئيس لشؤون التنوع والمساواة والشمول ماكيبا كلاي، قسماً يوجه جهودنا ويدعمها، ما يساعدنا على زيادة تركيزنا على تحقيق التنوع والمساواة والشمول في جميع عملياتنا وبرامجنا. ماكيبا هي عضو في الفريق التنفيذي، وأنا مديرتها المباشرة، ما يعكس التزام كلٍّ منا بتحقيق التنوع والمساواة والشمول باعتباره منظوراً استراتيجياً يعزز جهودنا الجماعية لإحداث أثر حقيقي في عالمنا.

كما استعنا بخبراء خارجيين لتقييم جوانب محددة من ثقافتنا وتقديم توصيات بشأنها، فجمعوا آراءً وملاحظات صريحة من أصحاب المصلحة الداخليين وقدموا توصيات مدروسة حول مجموعة من المواضيع، منها برنامج للتدريب على التواصل الشخصي كي نتمكن من الحوار والاختلاف باحترام، وتحسين درجة التنوع والشمول في اتصالاتنا الخارجية. واستضفنا متحدثين شاركونا أفكارهم حول القيادة الشاملة والأمان النفسي ومواضيع أخرى، بهدف تعميق فهمنا للموظفين وتنمية الشعور بالانتماء والارتباط في المؤسسة.

توضيح الأولويات وتطبيقها

رسالة المؤسسة مهمة وضرورية لاستمرار التوافق والتركيز في عملها، ورسالة مؤسسة بيو هي تحسين السياسة العامة، وتزويد عموم الناس بالمعلومات التي تلزمهم في حياتهم، وتنشيط الحياة المدنية.

ومثّلت ذكرى مرور 75 عاماً على تأسيس المؤسسة، التي احتفلنا بها في عام 2023، لحظة مهمة للمؤسسة كلها؛ إذ تعهدت بتجديد القيم المؤسسية التي تدعم رسالتنا وتوجهنا في عملنا. واحتفالاً بتلك الذكرى، نظمنا حصرياً لزملاء العمل في مؤسسة بيو سلسلة فعاليات محورها القيم، وشهدت مشاركة كوكبة من المتحدثين. فكانت تلك السلسلة محفزاً لحوارات مهمة في أنحاء المؤسسة، حول موضوعات مثل كيفية التمسك بقيمة عدم الانحياز في عصر يسوده التحيز الشديد. أثرت الفعاليات والمناقشات حوارنا الداخلي وحفزتنا إلى التفكير النقدي والابتكار من أجل الموازنة بين الاعتبارات الشخصية والمؤسسية. ففي المحصلة، تهدف قيمنا المؤسسية إلى تحديد طريقتنا في تنفيذ عملنا وتعاوننا مع شركائنا العديدين وتفاعلنا فيما بيننا.

أمضيت سنوات عديدة موظفة في مؤسسة بيو قبل أن أصبح رئيستها التنفيذية، لذلك فهمت حماس زملائي تجاه عملنا والأثر الذي نحققه، لكنني فهمت أيضاً رغبتهم في اهتمام الإدارة بهم أكثر واستماعها لآرائهم وتمكينهم. لهذا السبب، التزمت في رسالتي الأولى إلى موظفينا، بعد أن أصبحت رئيسة المؤسسة ورئيستهم التنفيذية، بتأكيد السعي إلى أن تصبح مؤسسة بيو بيئة عمل يشعر فيها الجميع بأنهم جزء من المؤسسة، وأنهم ينتمون إليها، وأن المؤسسة تكنّ لهم كل احترام. كما تعلمت من حواراتي مع رؤساء تنفيذيين آخرين في الأعوام الأربعة التالية أن التحدي الذي يواجه قادة المؤسسات جميعها هو صنع بيئة توازن بين الاحتياجات الفردية والمؤسسية واحتياجات العمل. ورأيي هو أن التركيز المستمر على الثقافة هو مفتاح تحقيق هذا التوازن.

لم أنسَ على مدى الأعوام الأربعة الماضية أن ثقافة مكان العمل تخص أفراد المؤسسة كافة، وهم من يغرسونها ويرسّخونها. وعندما أتأمل ما مضى من سنوات، يتضح لي أن تقدمنا لم يكن ليتحقق دون قيادة وتخطيط، والتزام بالاستماع والتعلم والتكيف. لقد استفدنا بطرق ملموسة من الاستعانة بخبراء خارجيين، وتشجيع الحوار بين زملاء العمل، والاستفادة من وجهات النظر المتنوعة في البيانات التي نجمعها ونشاركها، وتقييم جهودنا، وتوضيح قيمنا لتقديم صورة كاملة لرسالة المؤسسة ولتوجيه موظفينا وإرشادهم. وتساعدنا جميع هذه الجهود في بناء ثقافة ودودة شاملة تدعم العلاقات وتعزز الالتزامات المشتركة وتشجع على بناء الثقة.

ومن واقع تجربة مؤسسة بيو، فقد ساعد الاستثمار المستمر في ثقافتنا على إظهار قدرتنا على التكيف مع التغيير دون التخلي عن قيمنا والتزاماتنا مع مرور الوقت. لم ينتهِ عملنا على ثقافة المؤسسة، لكن بيو أصبحت مؤسسةً أفضل بطرق لم أكن أتصورها في بداية هذه الرحلة.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي