كيف تعمل مبادرة “نِعمة” على الحد من فقد وهدر الغذاء في دولة الإمارات؟

5 دقيقة
فقد وهدر الغذاء

ملخصتمثل مشكلة فقد وهدر الغذاء تحدٍ عالمي مُلِح ومعقد، ترتبط بسلسلة من العمليات تبدأ بالإنتاج وتنتهي بالاستهلاك. في هذا المقال، تتحدث خلود حسن النويس، الرئيس التنفيذي للاستدامة في مؤسسة الإمارات، وأمين عام لجنة المبادرة الوطنية "ِنعمة" عن نطاقات عمل المبادرة ومنهجيتها لتحويل الإمارات لدولة لا يهدر فيها الغذاء.

تحتل قضايا الأنظمة الغذائية الصحية والمستدامة مكانة متقدمة في كل استراتيجيات التنمية، فقد أصبح فقد وهدر الغذاء واحداً من التحديات الأكثر إلحاحاً التي تواجه البشرية الآن، إذ يحمل فقد وهدر الغذاء تأثيرات اقتصادية وبيئية واجتماعية خطيرة.

عالمياً، وبالرغم من توفر المصادر، يعاني 733 مليون شخص من الجوع، في مشهد متناقض يُنبأ بضرورة التصدي لفقد وهدر الغذاء، ولهذا جعلت الكثير من الدول والحكومات من تأسيس نظام غذائي مستدام أولوية وطنية ضمن سعيها لتحقيق الأمن الغذائي.

وفي هذا السياق الدولي، ومع ما تحظى به دولة الإمارات العربية المتحدة من مكانة رائدة في مجال الاستدامة، أُطلقت المبادرة الوطنية للحد من فقد وهدر الغذاء "نِعمة" في عام 2022 بالتعاون بين وزارة التغير المناخي والبيئة، وديوان الرئاسة، ومؤسسة الإمارات. وتسعى "نِعمة" منذ تأسيسها لتقليل فقد وهدر الغذاء في الدولة، تماشياً مع الهدف 12.3 من أهداف التنمية المستدامة، الساعي لخفض نصيب الفرد من الفاقد والمهدر من الغذاء بنسبة 50% بحلول 2030. كما وضعت "نِعمة" أمامها هدفاً طويل المدى هو تحويل الإمارات لدولة لا يهدر فيها الغذاء.

ومع هذا الهدف الطموح؛ أطلقت "نعمة" عددًا من البرامج والمبادرات معتمدة على خمسة محاور رئيسية هي بناء القدرات، ووضع خط أساس لقياس نسبة فقد وهدر الغذاء، ودفع المشاركة الاجتماعية، ورفع مستوى الوعي والدعوة لتغيير عادات الإسراف، والابتكار والاعتماد على التقنيات الحديثة، ودمج الحلول المبتكرة في النظام الغذائي، بالإضافة للشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص، وقيادة التشريعات والمبادئ التوجيهية لتفعيل الممارسات المستدامة.

بينت أمين عام لجنة المبادرة الوطنية "نِعمة" لستانفورد أن من الأهداف المرجوة للمبادرة هو تحقيق "صفر غذاء إلى مكب النفايات"

منذ انطلاقها؛ وضعت "نِعمة" خارطة طريق لحركة منظمة شاملة وتشاركية، يسهم فيها كل عنصر من عناصر النظام الغذائي بالدولة في سلاسل الإمداد ضمن قطاع الغذاء من المزارعين إلى تجار التجزئة، ومن المستهلكين إلى المسؤولين في قطاع النفايات، وغيرهم من القطاع الحكومي والخاص، والقطاع الثالث. وتستورد الإمارات نحو 80% من حاجاتها الغذائية، ويتم هدر ما يقارب 35% من الغذاء، وتشير التقديرات إلى أن هدر الغذاء يكلف اقتصاد الدولة نحو 6 مليار درهم سنوياً، فعندما يتم هدر الغذاء يتم أيضاً هدر الماء والطاقة، بالإضافة لهدر الاستثمارات والموارد التي أنتجت هذا الغذاء.

بناء القدرات- القياس الدقيق والموثوق لحجم الهدر

اعتماداً على قاعدة أن "ما لا يمكن قياسه.. لا يمكن إدارته"، بدأت مبادرة "نِعمة" بإجراء دراسات متخصصة لمعرفة التحديات ونوع السلوكيات التي تؤدي إلى الهدر في كل قطاع، وبدأت "نِعمة" في إعداد دراسة استحداث خط أساس (Baseline Study) لفهم مستويات فقد وهدر الغذاء، وأين يحدث ذلك عبر سلسلة الإمداد ضمن قطاع الغذاء، حتى يمكن تنفيذ الحلول الصحيحة للحد من الهدر. كما تقوم نعمة بعمل دراسات سلوكية لتحديد الأسباب الجذرية للسلوكيات التي تؤدي إلى هدر الغذاء، حتى يمكن خلق الحوافز والحلول المناسبة لمعالجتها لتغيير مثل هذه السلوكيات كاستبدال الأطباق الأكبر بأطباق أصغر في البوفيهات، وتغيير عقليات الناس لاستخدام محطات الطعام الحية أو قوائم الطعام المحددة والالتزام بأحجام الحصص بدلاً من البوفيهات المفتوحة التي تشهد معدلات هدر عالية للغذاء.

دفع المشاركة الاجتماعية – الوعي وتغيير السلوكيات المؤدية للهدر

تمثل أغلب السياسات أداة قوية للوصول إلى الأفراد على نطاق واسع، لكن بعضها يعجز في أغلب الأحيان عن الربط بين النظام الغذائي وحياة الأفراد اليومية، وبالتالي تصبح غير قادرة على حثّهم على تغيير عاداتهم الاستهلاكية. لذا راعت "نِعمة" ذلك، حيث دُشنت كفكرة مكرسة للحفاظ على نعمة الغذاء – ومنه جاء الاسم- لإلهام الأفراد ليكونوا أكثر مراعاة ووعياً لاستهلاك الغذاء.

ويتميز الشعب الإماراتي "بالسنع" وكرم الضيافة خصوصاً في المناسبات مثل حفلات الزواج وشهر رمضان. فكان على "نعمة" من البداية التأكيد على أن دعوتها وجهودها هي امتداد للعادات الإماراتية المترسخة التي تذم التبذير وإحياء عادات الأجداد المرتبطة بالحفاظ على النعمة وإعادة تدويرها.

كما تم التفاعل مع مواطني الدولة ومقيميها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فنظمنا عدة حملات توعوية حول الخطوات البسيطة التي يمكن القيام بها من أجل الحد من هدر الغذاء. والواقع أن محور المشاركة الاجتماعية، إلى جانب رفع الوعي بأهمية الحد من الهدر، يتضمن أيضا فتح الباب أمام مشاركة أفراد المجتمع معنا في حملاتنا، وفي برنامجنا لإنقاذ الغذاء الذي كان جزءاً من حملة "صون النعمة، فهي دائمة لمن يحفظها"، الذي أطلق رمضان 2024 . وقد شارك في تنفيذ هذا البرنامج أكثر من 300 متطوع سجلوا نحو 4500 ساعة تطوعية، وساهموا في إنقاذ 156 ألفاً و227 كيلوغراماً من المنتجات المحلية الطازجة الفائضة، التي استفادت منها أكثر من 5000 أسرة في أبوظبي والعين والشارقة.

الابتكار لتقليل الهدر

تؤمن "نِعمة" بأهمية الاستعانة بالابتكار وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لتطوير حلول جديدة للتعامل مع هذه القضية، ومن النماذج الناجحة والدالة على أخذ "نِعمة" بأحدث التطبيقات عملنا بشكل وثيق مع الشركات الناشئة لتوظيف الحلول التكنولوجية الحديثة لتحقيق أهدافنا. وفي شهر رمضان، تعاونت مبادرة نعمة مع 16 فندقاً، وعدة شركات مثل "أدنوك" لتنفيذ مشروع ثلاجات نعمة المجتمعية، التي تقوم على جمع الغذاء الفائض الذي لم يمس من وجبات الإفطار، وإعادة توزيعها على الفئات المستحقة من خلال الثلاجات الذكية، حيث تم إنقاذ نحو 5 آلاف كيلوغرام من الغذاء الفائض، وتوزيع 11.5 آلاف وجبة.

وفي إطار الابتكار أيضاً تدعم مبادرة نعمة استخدام أحدث التقنيات لإعادة تدوير نفايات الغذاء، وتحويلها لمنتجات مفيدة مثل الأسمدة العضوية الغنية بالعناصر الغذائية لزيادة جودة التربة، وإنتاجية المحاصيل، وعلف الحيوانات، ما يساعد في تقليل جحم النفايات الغذائية التي تصل لمكبات النفايات. ومثل هذه الممارسات تخلق قيمة اقتصادية دائرية والوصول إلى صفر هدر.

شراكات مع القطاعين الحكومي والخاص

يعتبر تغيير العادات المرتبطة باستهلاك الغذاء أمراً صعباً، ولا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، ويحتاج إلى جهود جماعية لمواجهته، لذا قامت "نعمة" بعقد العديد من المبادرات التعاونية مع القطاعين الحكومي والخاص.

وتعاونت نعمة مع مجموعة العلوم السلوكية- BSG، لعمل استطلاعات للوقوف على أبعاد المشكلة. وفي استطلاع للأسر شمل  6 آلاف فرد، تبيّن أن 85% من المشاركين فيه يعتبرون أن هدر الغذاء هو مصدر قلق كبير. وكنتجية لاستطلاع آخر للعاملين في قطاع الغذاء قدمت "نعمة" وثيقة 25 حلاً سلوكياً للحد من فقد وهدر الغذاء بشكل عملي.

وتعاونت "نِعمة" مع قطاع الضيافة والفندقة في الإمارات، وتم استخدام أسلوب التنبيهات السلوكية، ونجحت في كافة الفنادق المشاركة. ووصلت النتائج الإجمالية لتقليل المهدر من الغذاء في المواقع المشاركة بنسب تتراوح بين 8  و 60% عبر تغيير سلوك المستهلكين وتحسين الإجراءات التشغيلية. بعد ذلك بدأت مبادرة نعمة توسيع نطاق هذه المبادرة لاعتماد الممارسات المستدامة، واستجاب ما يزيد عن 170 مطعم في أهم فنادق الدولة- لدعوة المبادرة إلى تنفيذ هذه التغييرات.

وتعاونت "نِعمة" مع القطاع الخاص، للتطرق لمشكلة الأطعمة "غير المثالية"؛ مثل الفواكه والخضروات ذات العيوب الطفيفة، أو ذات شكلٍ لا يلبي متطلبات المقاييس الصارمة لبائعي التجزئة كمحلات السوبر ماركت والفنادق، والتي تمثل 20 إلى  40% من المنتجات الزراعية. في أغلب الأحيان يرفض تجار التجزئة هذه المنتجات، وغالباً، يتخلى المزارعون عن هذه المحاصيل الجيدة، فتُترك لتتعفن في الحقول أو يتم إلقائها في النفايات، لذا تعاوننا مع شركة (HeroGo) لأعادة توزيع هذه المنتجات.

وضع التشريعات والمبادئ التوجيهية -بيئة ممكنة لتوسيع الأثر

مثل الجانب التشريعي عنصراً أساسياً في معالجة مشكلة هدر الغذاء، حيث تلعب القوانين واللوائح دوراً حيوياً في توجيه السلوكيات، وتعزيز الممارسات المستدامة. هناك نماذج ناجحة في دول مختلفة قامت بتطبيق تشريعات فعّالة للحد من هدر الغذاء، فمثلاً قامت كوريا الجنوبية بفرض غرامات على المواطنين عن كل كيلوغرام من الغذاء يتم رميه في القمامة. أما في فرنسا، فهناك قانون يمنع المحلات التجارية من إلقاء الغذاء غير المباع، حيث تُلزم المتاجر بالتبرع بالمنتجات الصالحة للاستخدام إلى الجمعيات الخيرية. هذا التشريع يسهم في تقليل هدر الغذاء ويعزز من توفير الغذاء للفئات المستحقة أو تحويل نفايات الغذاء إلى منتجات أخرى.

ونحن في مبادرة "نعمة" منفتحون على أنجح الممارسات التشريعية، والتي تعد أداة قوية لتغيير السلوكيات وتعزيز الوعي بتبعات فقد وهدر الغذاء. فعندما تكون هناك قوانين واضحة وتوجيهات محددة، يلتزم الأفراد والشركات في سلوكياتهم، كما تُعنى "نِعمة" بتحفيزهم على تحمل المسؤولية المجتمعية لتقليل الهدر بالإضافة لتطبيقهم للقوانين.

وفي الختام، إن استلهام النماذج الناجحة من دول أخرى و تحفيز المؤسسات وتطبيق تشريعات ملائمة لنا في الإمارات، يعكس التزام مبادرة "نعمة" بحل مشكلة فقد وهدر الغذاء ودعم توجه قيادة الدولة في هذا السياق، وتحقيق رؤيتها لتحويل الإمارات إلى دولة لا يهدر فيها الغذاء.

المحتوى محمي