كيف نجحت كوريا الجنوبية في تغيير النظرة النمطية إلى أصحاب الهمم؟

7 دقيقة
التمييز تجاه أصحاب الإعاقة

كيف تؤدي إعادة تصور الدور الذي يؤديه أصحاب الإعاقات النمائية في المجتمع والقوى العاملة إلى تحقيق قدر أكبر من المساواة؟.

لطالما تعرّض أصحاب الهمم من ذوي التحديات الجسدية والعقلية والنمائية إلى تمييز وتهميش في جميع أنحاء العالم، لكن أسباب عدم المساواة المرتبطة بالإعاقة وعواقبها الاجتماعية تختلف من بلد إلى آخر. ففي كوريا الجنوبية، كانت تعتبر الإعاقة تقليدياً أمراً مخزياً ومزعجاً ويجب التعامل معه ومعالجته والسيطرة عليه في مؤسسات معزولة منفصلة عن المجتمع.

ومن أبرز الأمثلة الصادمة على ذلك نقل الحكومة القسري  لأصحاب الهمم إلى مؤسسات معزولة قبل دورة الألعاب الآسيوية في سيول عام 1986 ودورة الألعاب الأولمبية في سيول عام 1988، بحجة أنهم يضرون بصورة البلاد وسمعتها العالمية. تعرض العديد من الأشخاص الذين وضعوا في المؤسسات بهذه الطريقة إلى انتهاكات حقوق الإنسان، التي شملت العنف والعمل القسري، حتى بعد انتهاء الأولمبياد. لم يفعل قانون رعاية أصحاب الهمم الذي صدر في أبريل/نيسان 1981 شيئاً يذكر لردع هذه التصرفات، وهو القانون الذي سُنّ في الأصل لتبرير الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس دو وان تشون في ديسمبر/كانون الأول 1980 وترويج خطته لبناء دولة الرفاهة.

على الرغم من التحسينات التي طرأت على السياسات على مدى العقود الماضية، ظلت مواقف المجتمع التمييزية تجاه الإعاقة قائمة. وقد كان لتنامي التحول الصناعي في كوريا الجنوبية أثر كبير في ذلك، فقد كانت الشركات التي تركز على الكفاءة والإنتاج بكميات كبيرة تنظر إلى أصحاب الهمم على أنهم غير منتجين وغير صالحين للعمل، لذا استبعدتهم من سوق العمل. وقد حدثت هذه الظاهرة نفسها في المراحل الأولى من التحول الصناعي في بلدان أخرى، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، وأسفرت عن النتائج نفسها؛ وهي ظروف عمل متردية وتعويضات متدنية مقرونة بوصم وعزلة متزايدين.

ومع ذلك، بدأت تظهر في كوريا نماذج جديدة للتوظيف المستدام لأصحاب الهمم، ولا سيما أصحاب الإعاقات النمائية مثل الإعاقة الذهنية واضطراب طيف التوحد واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط التي تعزز حق تقرير المصير وتحقيق الذات للعاملين أصحاب الهمم، وتقدّر مشاركتهم في المجتمع والسوق بطريقة تحارب الحكم المسبّق والتمييز السائدين.

السياق الثقافي

يوفر فهم السياق الثقافي للتمييز على أساس الإعاقة نقطة انطلاق للتوصل إلى حلول كما هي الحال في العديد من القضايا الاجتماعية. ثمة نقطة مرجعية مهمة في كوريا وبلدان آسيوية أخرى، وهي النموذج الفكري القوي لـ "الإنسان الطبيعي" المترسخ في المعتقدات الكونفوشيوسية والبوذية. وقد أثرت هذه المعتقدات بشدة على وجهات النظر حول الإعاقة، ما أدى إلى وجود عوائق أكبر أمام الشمول مقارنة بالدول الغربية.

على سبيل المثال، يؤكد المبدأ الكونفوشيوسي "شين شين شوي فان" (身書判 言) فكرة أن جون زي (君子)؛ أي الشخص الكفء، يجب أن يتمتع بأربع خصائص هي الجسم الجيد، والقدرة على التواصل، والقدرة على القراءة والكتابة، والحكم السليم. وهذا يعني أن أصحاب الهمم يحتلون مكانة اجتماعية متدنية في العقيدة الكونفوشيوسية بسبب عدم استيفائهم هذه المعايير.

ترى العقيدة البوذية عموماً أن سبب الإعاقة هو الكارما (業)، وهي نتيجة خطايا الإنسان التي ارتكبها في حيواته السابقة. توصلت الأستاذة في جامعة يانغ مينغ تشياو تونغ الوطنية (National Yang Ming Chiao Tung University) في تايوان يويه تشينغ تشو، بعد إجراء دراسة مقارنة بين الدول الآسيوية مع زملاء لها من اليابان وتايلاند وفيتنام، إلى أن الناس ما يزالون يفهمون الإعاقة بهذه الطريقة، فقد وصف بعض الذين أجريت معهم المقابلات الإعاقة بأنها "مأساة اكتسبها الشخص نفسه تجسد أخطاء تراكمت في حيواته الماضية أو حياته الحالية" أو "لعنة بسبب خطايا سابقة اقترفها (الشخص نفسه)".

لطالما أسهمت وجهات النظر هذه بالإضافة إلى أهمية المكانة الاجتماعية و"حفظ ماء الوجه" في الثقافة الشرق آسيوية في الشعور بالخزي وخيبة الأمل لدى أصحاب الهمم. وتمتد هذه المشاعر إلى عائلاتهم، حيث أجبر العديد منهم أقاربه من أصحاب الهمم على التواري عن الأنظار ومنعه من ممارسة مهنته. كما أسهمت وجهات النظر هذه في أن ينظر المجتمع إلى الإعاقة على أنها مشكلة فردية تجب معالجتها على نحو فردي، ونتيجة لذلك أصبح أصحاب الهمم متوارين عن الأنظار.

تركيز جديد على الإعاقة النمائية

منذ دورة الألعاب الأولمبية لعام 1988، بذلت الحكومة الكورية العديد من الجهود المؤسسية لزيادة الوعي وتحسين معاملة أصحاب الهمم، التي شملت تشريعات عدة مثل قانون ضمان الملاءمة لأصحاب الهمم لعام 1997، وقانون تعزيز التوظيف وإعادة التأهيل المهني لأصحاب الهمم لعام 2001، وقانون منع التمييز ضد أصحاب الهمم والانتصاف منه لعام 2007، وقانون معاشات أصحاب الهمم لعام 2010.

ومع ذلك، ظل الدعم العام لرفاهية أصحاب الإعاقات النمائية وتعليمهم وتوظيفهم محدوداً حتى وقت قريب جداً. يعاني أصحاب الإعاقات النمائية النظرة الاجتماعية السلبية، والعنف في المدرسة، والتلميحات والتصرفات البسيطة المؤذية، وقلّة فرص العمل وغيرها من الفرص، تماماً مثل أصحاب الهمم من ذوي الصعوبات الجسدية. وهم يتعرضون في كثير من الأحيان إلى التمييز والنبذ أكثر من ذوي الصعوبات الجسدية بسبب التحديات التي يواجهونها في التواصل و(أو) الإدراك. بلغ معدل توظيف أصحاب الإعاقات النمائية في سوق العمل في عام 2021 نسبة 28% مقارنة بـ 35% لمجمل أصحاب الهمم و60% لمجمل الكوريين، كما أنهم يكسبون أقل بكثير من العاملين أصحاب الصعوبات الجسدية.

في عام 2015، دخل قانون دعم أصحاب الإعاقات النمائية حيز التنفيذ الذي يعترف بأن تحديات صعوبات مهارات التواصل والتواصل الاجتماعي تختلف عن الصعوبات الجسدية. وفي عام 2018، أعلنت الحكومة عن الخطة الشاملة لرعاية أصحاب الإعاقات النمائية مدى الحياة. يهدف هذا القانون إلى توفير الخدمات الصحية والتعليمية وخدمات الرعاية الاجتماعية التي تراعي مسار حياة أصحاب الهمم وتخفيف الضغطين النفسي والعاطفي عن الوالدين. كان دافع هذه الخطة الطموحة حادثة صادمة وقعت في عام 2017، عندما توسل آباء الأطفال أصحاب الإعاقات النمائية إلى السكان المحليين لإعادة النظر في معارضتهم لإنشاء مدرسة للتعليم الخاص في بلدتهم.

إن مثل هذه الجهود الحكومية مفيدة وضرورية، لكن خلق مجتمع أكثر شمولاً وإنصافاً لأصحاب الإعاقات النمائية يتطلب أيضاً تغيير المفاهيم والمعايير الثقافية، وتمثل وسائل الإعلام والمشاريع الاجتماعية وسائل فعالة لتحقيق ذلك.

تغيير المفاهيم عبر وسائل الإعلام

كما هي الحال في الواقع، يعاني أصحاب الهمم الإهمال في الدراما والأفلام الكورية أيضاً. حللت دراسة تناولت التنوع في وسائل الإعلام أجريت عام 2019، 2,713 شخصية في الأعمال الدرامية الكورية التي بُثت على القنوات الرئيسية ووجدت أن أصحاب الهمم يمثلون 0.7 % من الشخصيات مقارنة بـ 4.9 % في الحياة الواقعية. وفي الوقت نفسه، توصلت دراسة تحليلية لـ 81 فيلماً كورياً يظهر فيها أصحاب الهمم باعتبارهم شخصيات رئيسية إلى أن الأفلام تميل إلى تصويرهم بصفتهم كائنات بشرية ضعيفة ودونية في سياقات سلبية تفتقر إلى الأمل.

ومع ذلك، ثمة علامات على حدوث تغيير. أحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو الدراما التلفزيونية المحامية الاستثنائية وو (Extraordinary Attorney Woo) الذي أطلق عام 2022 ويحكي قصة وو يونغ وو، وهي محامية شابة عبقرية تعاني اضطراب طيف التوحد. تتغلب "وو" على قيودها، وتستخدم منظورها الفريد لكسب القضايا، وتكسب في النهاية احترام زملائها في العمل. كان المسلسل الأكثر مشاهدة بين المسلسلات غير الناطقة باللغة الإنجليزية على مستوى العالم على نتفليكس في أغسطس/آب 2022، كما صُنّف من بين أفضل 10 أعمال درامية في أكثر من 50 دولة.

وعلى الرغم من أن المسلسل واجه بعض الانتقادات، فقد رفع مستوى الوعي العام، ونشر رسالة مهمة حول كيفية التعامل مع أصحاب الإعاقات النمائية ودعمهم. فبدلاً من وصف قيود "وو" وحرمانها من الفرص، تساعدها الشخصيات الداعمة على تحقيق الإنجازات والنمو بطريقتها الخاصة. ومن خلال العلاقات بين "وو" ومن حولها، يُبرز العمل مشكلة تقصير المجتمع في خلق فرص مجدية لأصحاب الإعاقات النمائية، فيؤثر في تعاطي المشاهدين مع هذه القضية.

كما أطلق مسلسل درامي شهير آخر في عام 2022، وهو مسلسل مآسينا (Our Blues)، الذي يتناول عدداً من المشاكل الاجتماعية مثل الانتحار وإساءة معاملة الأطفال والتنمر والإعاقة الذهنية، وموضوع الحب والتسامح. وعلى وجه الخصوص، تظهر جونغ أون هاي، المصابة باضطراب جيني في الحياة الواقعية، في أحد الأدوار الرئيسية وتُظهر أن مشاعر أصحاب الهمم لا تختلف عن مشاعر الآخرين. وقد حقق الفيلم حتى الآن أكثر من 650 ألف مشاهدة على يوتيوب وأكثر من 105 ملايين ساعة مشاهدة على نتفليكس.

كما تقدم أفلام مثل أنت ثمين جداً بالنسبة لي (You're So Precious to Me) (2021) وأخوة لا ينفصلون (Inseparable Bros) (2018) صوراً غير نمطية لأصحاب الهمم. هذه الأفلام والمسلسلات التلفزيونية لا تغيّر العقليات في كوريا فحسب، بل في الخارج أيضاً؛ فقد شاهد أكثر من 60% من 260 مليون مشترك في نتفليكس أعمالاً كورية في عام 2023.

تغيير المفاهيم عبر المشاريع الاجتماعية

أحد العناصر الأساسية للحياة المستقلة بالنسبة للكثير منا هو القدرة على الحصول على وظيفة لائقة. في الماضي، بذلت الحكومة الكورية جهوداً متنوعة لتعزيز توظيف أصحاب الهمم من خلال الوسائل المؤسسية. ولكنها لم تلبِ احتياجاتهم من حيث عدد الوظائف المتاحة ونوعيتها، فضلاً عن غياب الاستدامة.

يتدخل عدد من المؤسسات ذات التأثير الاجتماعي في تلبية الطلب على الوظائف إدراكاً منها أن الحكومة وحدها لا تستطيع تحقيق ذلك. ومن تلك المؤسسات مؤسسة تيستووركس (Testworks)، وهي مؤسسة اجتماعية للتكنولوجيا المتقدمة متخصصة في بيانات الذكاء الاصطناعي واختبار البرمجيات أُسست عام 2015. وظّفت المؤسسة حتى شهر يوليو/تموز 2023، 17 موظفاً من أصحاب الإعاقات النمائية و11 موظفاً يعانون صعوبات سمعية. اكتشفت مؤسسة تيستووركس أن أصحاب الإعاقات النمائية يتمتعون بمهارة خاصة في المهام ذات الطابع التكراري، مثل تصنيف الصور الفوتوغرافية لتزويد تعلم الآلة الخاص بالسيارات الذاتية القيادة بالمعلومات. كما أنهم يظهرون دقة أعلى ولديهم معدل استبقاء أعلى من الموظفين الذين لا يعانون إعاقات نمائية. وهذا يمنح كلاً من العاملين والمؤسسة ميزة تنافسية في السوق. ومن المتوقع أن تصل إيرادات مؤسسة تيستووركس إلى 9 ملايين دولار بحلول عام 2023، وقد استقطبت بالفعل استثمارات تزيد قيمتها على 8 ملايين دولار.

تقدم مؤسسة دونغوبات (Donggubat) مثالاً آخر على تلك المؤسسات، وهي مؤسسة اجتماعية تعتمد على أساليب إنتاج بسيطة وغير مكلفة توظف موظفين من أصحاب الإعاقات النمائية لإنتاج منتجات صديقة للبيئة مثل الصابون الطبيعي. تورد مؤسسة دونغوبات منتجاتها إلى شركات مستحضرات التجميل والفنادق والمنتجعات وشركات التوزيع، وبلغت إيراداتها 10 ملايين دولار في عام 2023. وظفت مؤسسة دونغوبات حتى يونيو/حزيران 2024، 54 موظفاً من أصحاب الإعاقات النمائية من إجمالي 116 موظفاً. وقد استقطب تصميم منتجات الشركة الراقية وتغليفها والتزامها بالاستدامة عملاء راقين مثل فندق ووكر هيل من فئة 5 نجوم، ما يدحض التصور السائد بأن توظيف أصحاب الهمم يتعارض مع ابتكار منتجات فاخرة وراقية.

تقدّم مؤسسة أوتيستار (Autistar) مثالاً آخر، وهي مؤسسة اجتماعية توفر فرصاً لأصحاب الإعاقات النمائية. تسعى المؤسسة جاهدة إلى مساعدة المصابين باضطراب طيف التوحد على رؤية إعاقاتهم مواهب وربطهم بوظائف تصميم المنتجات. وظفت المؤسسة حتى يوليو/تموز 2024، 13 مصمماً مصاباً باضطراب طيف التوحد من أصل 21 موظفاً، وحصل 7 مصممين مصابين باضطراب طيف التوحد على وظائف تصميم بعد العمل مع المؤسسة. عندما سُئلت المؤسِّسة والرئيسة التنفيذية سوهيون لي عن رؤيتها، قالت: "أريد أن يتمكن الجميع، بمن فيهم المصابون باضطراب طيف التوحد، من العثور على العمل الذي يريدونه ويجيدونه ومن العمل به".  تعمل لي أيضاً أستاذة جامعية في التربية الخاصة في جامعة إيوها وومانز يونيفيرسيتي (Ewha Womans University)، حيث أنشأت مشروعها الاجتماعي عبر برنامج للاستفادة من المواهب الفنية للشباب المصابين باضطراب طيف التوحد. توصلت لي وزملاؤها في دراسة حديثة إلى أنه كلما زادت درجة اضطراب طيف التوحد عند المصممين، كانت رسوماتهم أكثر تميزاً. يشير ذلك إلى أن وجود درجة عالية من خصائص اضطراب طيف التوحد والتنوع العصبي بين الموظفين قد يوفر لشركات التصميم ميزة تنافسية. تعاونت مؤسسة أوتيستار مع العديد من الشركات الكبرى، مثل سامسونج للإلكترونيات وإس كيه هاينيكس (SK Hynix) ويونيكلو (UNIQLO).

بناء الفرص لتحقيق قدر أكبر من الإنصاف

لا يزال الكوريون يربطون المشاكل الجسدية والعقلية بعدم القدرة على العمل والعيش إنساناً مستقلاً على نطاق واسع. يتطلب التعامل مع الأسباب الجذرية لعدم مساواة أصحاب الهمم وسائل إعلام مبتكرة ومؤسسات اجتماعية ملتزمة لخلق تصورات جديدة عن أصحاب الهمم وإتاحة الفرص لهم. تتصدى الجهود الشجاعة والمبتكرة الواردة في هذا المقال للنماذج الفكرية التمييزية القديمة مباشرة، فهي تغير طريقة تفكير المجتمع الكوري تجاه أصحاب الإعاقات النمائية، ونأمل أن تقدم رؤى للمبتكرين في البلدان الأخرى لفعل الشيء نفسه، وخاصة البلدان الآسيوية ذات السياقات والمسارات التنموية المماثلة.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي