يكثر الحديث عن المشاركة المجتمعية، لكن القليل من الناس يمارسونها بفعالية. هناك فهم خاطئ للمشاركة المجتمعية في المشاريع التنموية، إذ يرى البعض أن دعوة الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني للاطلاع على المشاريع المقرر إنجازها تكفي للقول إنه تم التشاور بوصفه ركناً من أركان المشاركة المجتمعية. ولكن هذا أمر شكلي يحدث بموجبه تبادل المعلومات من جانب واحد غالباً، دون الحصول على آراء المعنيين مباشرة بمشاريع التنمية وتقييماتهم، وضمان مشاركتهم في جهود استدامتها.
أما الجمعيات الأهلية فإنها لا تمثل شريحة واسعة من المواطنين بقدر ما تمثل نفسها بوصفها نخباً محلية قد تستحوذ بقصد أو دون قصد على الموارد الموجهة للفئات الفقيرة والمهمشة. لذا فإن ما يعتقد البعض أنه تشاور مع المواطنين لا يعدو أنه حوار مع نخب محلية لا تمثل في غالب الأحيان إلا نفسها.
لا يختلف الوضع حين يتعلق الأمر بمتابعة المواطنين للمشاريع أو وضع أنظمة لمعالجة الشكاوى. في الحالة الأولى، تُنتدب لجان محلية خلال لقاءات منظمة على مستوى الجماعة أو القرية لمتابعة المشاريع، ولكن هذه اللجان هي فقط نخب محلية لها من السلطة والجاه والمصالح ما يجعلها في واجهة القضايا المحلية. أما السكان المحليون من النساء والشباب وذوي الهمم والمهجَّرين قسرياً فيهمشون. إذ غالباً ما يتركز الاهتمام على فئة الذكور عند معالجة قضايا التنمية، وبالتالي ستعمل لجان المتابعة وفقاً لطموحات هذه الفئة ومصالحها.
أما أنظمة معالجة الشكاوى فغالباً ما تكون "صورية" وصعبة الوصول إليها بالنسبة لفئات السكان جميعها لأن لجان استقبال الشكاوى تضم من لهم مصلحة في الحفاظ على الوضع الراهن، فيحاولون ما أمكن تخفيف وقع الشكاوى أو التقليل من عددها إلى أقصى حد. ويعتبرون أن قلة عدد الشكاوى مؤشر على نجاح المشاريع وفعاليتها، لكن العكس هو الصحيح؛ فارتفاع عدد الشكاوى يعني اهتمام السكان بمشروع التنمية.
آليات المشاركة المجتمعية الناجحة
لا تُعد المشاركة المجتمعية ترفاً فكرياً أو مسألة شكلية بل هي عنصر أساسي لعملية "المساءلة والمحاسبة" الاجتماعية، وهذا ما تطرقت إليه في كتابي: "المساءلة في العمل: منظور عالمي" (Accountability at Work: A Global Perspective)، فالمساءلة الاجتماعية تعني وضع الآليات التي تساعد المواطنين والجهات الفاعلة على خلق حوار وتفاعل بهدف اتخاذ قرارت لتحسين أداء المشاريع التنموية. غير أن المساءلة قد تكون غير فعّالة إذا لم تُطبق آليات المشاركة أساساً. سأركز هنا على آليات المشاركة المجتمعية لتوضيح التحديات التي واجهت فِرق عمل حكومية مكلفة بتنفيذ برامج تنموية ممولة من طرف مانحين دوليين في بلدان إفريقية وآسيوية وعربية.
تهدف المشاركة المجتمعية إلى خلق حوار هادف يمكن من خلاله التشارك في إنجاح المشاريع وضمان ديمومتها. وهذا الحوار يجب أن يكون ذكياً لأن التقييمات الصادرة عن الفئات المستهدَفة يستخدمها مُنفذو المشاريع وسيلةً لجمع المعلومات واتخاذ القرارات بشأنها. كما تضمن المشاركة المجتمعية انخراط السكان في تنفيذ المشاريع وضمان ديمومتها بعد انتهاء تمويل الجهة المانحة.
والآليات التي سأركز عليها هنا هي الاستشارة والمتابعة وأنظمة معالجة الشكاوى. وهي آليات اشتغلت عليها بصفتي خبيراً دولياً لدى المنظمات المانحة ونشرت عنها كتباً ومقالات بلغات مختلفة، ولكنها كذلك الأكثر استعمالاً من طرف الفاعلين في حقل التنمية. ما يهمنا هنا هو كيف أن الكثير في إفريقيا وفي دول الجنوب يخطئون في كيفية تطبيقها. وهي بالفعل بسيطة، ولكنها ليست سهلة على الإطلاق. الهدف هنا هو تسهيل مهام الفاعلين في حقل التنمية عبر تقديم تقنيات تحسّن من أدائهم.
1. الاستشارة
بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تعد المشاورات العامة أدوات مهمة تساعد على جمع ما يكفي من الأدلة والمعلومات من الأفراد أو المجموعات أو المؤسسات غير الربحية لتحديد السياسات أو القوانين والإشراف عليها، وتهدف هذه العملية إلى ضمان سماع أصوات مختلف أصحاب المصلحة وأخذها بعين الاعتبار في عملية اتخاذ القرار، ما يعزز الشفافية والمساءلة وجودة نتائج المشاريع المنجزة.
تبدو الفكرة بسيطة وواضحة، ولكن ما يحدث في الكثير من الأحيان هو عدم التأسيس لممارسات تؤدي إلى تبنّي التدخلات من طرف الفئات المستهدَفة. في أثناء عملي وجدت أنه في بعض دول الساحل والبلدان العربية يكتفي المسؤولون عن التنمية باستدعاء ممثلي الجمعيات الأهلية ومن يهمهم الأمر ويعرضون عليهم المشروع ويستمعون إلى آرائهم ثم ينصرفون إلى حال سبيلهم.
هكذا تدوَّن آراء المواطنين خلال المشاورات، دون الرجوع إليهم لإخبارهم بالأنشطة التي جرت برمجتها على أساس التقييمات والآراء التي يقدمونها. في مناطق أخرى، يتم الرجوع إلى المواطنين لإخبارهم بجدوى آرائهم، ولكن لا يُعتمد على المتابعة للاستعانة بالمواطن في تقييم مدى التزام الجهات المنفذة بما اتُفق عليه.
لهذا أنصح العاملين الناشطين في حقل التنمية باعتماد مقاربة أكثر فعالية فيما يخص الاستشارة. وتتركز هذه المقاربة على ما يلي:
- حلّل بدقة الأطراف المعنية بمشروع التنمية، خصوصاً المستفيدين المباشرين، ولا تقتصر على النخب المحلية وممثلي المجتمع المدني والهيئات الرسمية وغير الرسمية. هناك فئات مثل المرأة والشباب وذوي الهمم والأقليات والمُهجَّرين قسراً واللاجئين قد لا تجد في الجلسات الرسمية مكاناً صالحاً للتعبير عن آرائها. لهذا يجب تنظيم ورشات مركزة خاصة بكل فئة على حدة وباللغة التي تفهمها، خصوصاً أن الكثير من هذه الفئات لا تتقن القراءة والكتابة واللغة الرسمية. لذا تأكد من أن تقدم لهذه الفئات نتائج بلغة تفهمها وسياق يشعرها بالانتماء.
- دوّن كل الأفكار سواء تلك التي تقترح أنشطة، أو مشاريع، أو برامج أو مبادرات أو تلك التي تقترح مقاربات ومناهج وطرقاً جديدة أو مبتكرة. إذا أمكن دَوِّن أسماء من قدموا رأيهم لكي ترجع إليهم إبان حصة الرَّد على مقترحاتهم بصفة شخصية. ضع لائحة طويلة بالمبادرات المقترحة ولا تنسَ تلك التي اُقترحت داخل الورشات المُرَكَّزة التي تستهدف الفئات المهمشة.
- قيّم اللائحة الطويلة من الاقتراحات وتوخى الفعالية والأثر الدائم وضع في الاعتبار أولويات المواطنين. وعلى ضوء التحليل، استخرِج لائحة قصيرة على أن توثق أسباب اختيار مبادرة معينة أو عدم اختيارها لإخبار المواطنين ومن يهمهم الأمر بذلك.
- نَظِّم اجتماعات مع المواطنين لإخبارهم باللائحة القصيرة واستقصِ آراءهم واحسِمْ فيها مباشرة خلال الاجتماع. هذا هو جوهر المشاركة المجتمعية: يجب دائماً إغلاق "حلقة ردود الفعل" بالرجوع إلى المواطنين ومن يهمهم الأمر.
لا تعكس أغلبية الممارسات في كثير من دول الجنوب مقاربة متكاملة للاستشارة، بل يكتفي الكثير منها باجتماعات صورية مع ممثلي القطاعات والمجتمع المدني تليها مناقشة عامة. فالاستشارة أساسية في العملية التنموية ويجب أن تكون منظَّمة على نحو يضمن المشاركة الفعلية الشاملة والاستماع والتدوين المفصّل واتخاذ القرارت والرجوع إلى من يهمهم الأمر لإخبارهم بالقرارات المتخذة.
2. متابعة السكان المحليين للمشاريع
تُعتبر متابعة السكان المحليين للمشاريع آلية مُكمِّلة للاستشارة. ولكن الممارسات الشائعة لا تنصف هذه المتابعة. عادةً ما توضع لجان محلية تزور المشاريع وتقدم آراء حولها، لتصنف على أنها متابعة للمشاريع من السكان المحليين. لكنها في الحقيقة لا تعدو عن أنها آراء نخبة محلية لا ترتقي إلى تقييمات السكان المحليين للمشاريع قيد الإنجاز. وهناك من يظن أن رصد مؤشر رضا المواطنين هو متابعة، لكن هو فقط استقصاء لمدى ارتياح السكان للمشاريع التنموية. فالمتابعة الحقيقية تقتضي طرح أسئلة دقيقة على السكان المهتمين بالمشروع التنموي ومدى الالتزام بالمواصفات والشروط الزمنية المطلوبة لتنفيذه، ومدى استجابته لما اتُفق عليه في فترة الاستشارات.
لهذا من خلال تجربتي في تقديم الخبرة حول متابعة السكان المحليين للمشاريع التنموية في العديد من الدول، أوصي بما يلي:
- بدلاً من اللجان، اختر عناصر فاعلة من السكان ودرّبها وزوِّدها بهواتف ذكية تمكّنها من استقصاء آراء المواطنين بطريقة رقمية.
- اقتصِر على طرح أسئلة مباشِرة وقليلة تصب في مدى ملاءمة المشروع لتوقعات السكان المُعرَب عنها خلال الاستشارات، مثل الالتزام بالمواعيد ونوعية مواد البناء…
- اجمع المعلومات بسرعة واتخذ القرارات اللازمة لتصحيح الوضع وأخبر السكان بهذه القرارت.
إن تمكين السكان المحليين من متابعة المشاريع التنموية يساعد على رصد آرائهم حول مدى التقدم المُحرز في تنفيذ هذه المشاريع، ولكن آلية المتابعة لا تستقيم دون الرجوع إلى المواطن لإخباره بالقرارات المتخذة على أساس تقييماته وآرائه.
3. تفعيل أنظمة معالجة الشكاوى
تسود فكرة خاطئة لدى الكثير من الناشطين بأن الشكاوى هي مصدر إزعاج وتشويش لمسار تنفيذ المشاريع التنموية. ولكنها في الحقيقة هي مصدر معلومات قيّمة يمكن للفرق الذكية استعمالها لاتخاذ قرارت قائمة على البيانات. هناك فِرَقٌ تضع أنظمة لمعالجة الشكاوى ولا تُفعِّلها على النحو المطلوب، بل تظن خاطئة أن عدم تلقيها شكاوى هو دليل على نجاح المشروع. ولكن في رأيي، العكس هو الصحيح: كلما كان المشروع مؤثراً، زاد تفاعل الناس معه ووضعوا ملاحظات أكثر حوله. وبالتالي فإن نظام معالجة الشكاوى هو بالفعل نظام للتعامل مع المعلومات الصادرة عن الفئات التي يستهدفها المشروع التنموي.
لهذا من أجل تحسين أداء أنظمة معالجة الشكاوى التي توضع لصالح المشاريع التنموية أوصي بما يلي:
- احرِص على تمثيل النساء والشباب والفئات المهمشة على مستوى لجان تلقي الشكاوى.
- لا بد من وضع وسائل بديلة لتلقي الشكاوى مثل الإرسال اللحظي أو الاتصال السريع لتسهيل الوصول إلى اللجان الموجودة في مناطق بعيدة عن مقر سكن المواطنين أو اللجان المحلية المكونة من عناصر لا يثقون فيها أو يتوجسون منها.
- شجّع الناس على وضع شكاوى للحصول على معلومات، ولكن عليك كذلك أن تجد حلولاً لها في وقت معقول وإخبار المشتكين بالطرق المتاحة لهم لاستئناف شكواهم إن لم يرُقْهم القرار المُتخذ
- ضع نظاماً لتلقي الشكاوى الحساسة المتعلقة بالعنف المبني على النوع أو التي ترتبط بتحرش جنسي أو ما شابه ذلك من سلوكيات تقتضي السرية وحماية المعتدى عليهن وضمان الوصول إلى مساعدة طبية خاصة، وكذا الحفاظ على سلامة الناجيات وخصوصيتهن.
- احرص على تحليل الشكاوى باستمرار لمعرفة المكرر منها، وقرِّر إن كانت تقتضي تغييراً بنيوياً عميقاً لتجنب تكرارها. إذا كثرت الشكاوى حول عدم قدرة الشركة المنفذة للمشروع على الالتزام بالوقت أو تشغيل اليد العاملة المحلية، فقد يقتضي الأمر تغيير الشركة نفسها وليس فقط محاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه.
تعد أنظمة معالجة الشكاوى أساسية في تنفيذ المشاريع التنموية. وعلى الفِرق أن تعتبرها وسيلة لتزويدها بالمعلومات الضرورية لاتخاذ القرارت. لهذا يجب تشجيع المواطنين على استخدامها، فكلما استخدموها وجرى التفاعل مع شكاواهم، زاد شعورهم بأن المشروع يخدم قضاياهم المحلية، وبالتالي سيتخذون الإجراءات الضرورية لاستدامته.
إن المشاركة المجتمعية ليست ترفاً تنظيمياً أو مسألة صورية نقوم بها من أجل التجاوب مع توقعات المانحين. إنها فلسفة تُتبع من أجل استكمال المساءلة التقليدية عن طريق مساءلة مباشِرة يجري من خلالها استقراء آراء المستفيدين وجمعها والعمل عليها وإخبارهم بالقرارات المتخذة. ما يميز المساءلة الاجتماعية عن طريق آليات المشاركة المجتمعية هو أنها تخلق نوعاً من تبنِّي المواطنين للمشاريع لتسهم بذلك في خلق ثقافة تقييم محلي للمشاريع التنموية.
لهذا فالمساءلة الاجتماعية هي طريقة للتدبير تتجاوز المقاربات المعتمَدة من الحكومات والمانحين فقط أو تلك التي تعتمد على نُخب المجتمع المدني. ولكن هذه المقاربة المباشرة تقتضي خلق وسائل فعّالة لضمان الوصول إلى المستفيدين خصوصاً المهمشين منهم، واعتماد مقاربة التقييم مصدراً للمعلومات التي تساعد على اتخاذ القرارات وتصحيح المسار، وكذلك ضرورة الرجوع إلى المواطن وإخباره بالقرارات التي اتخذت على أساس آرائه. وهذا ما يسمى "إغلاق حلقة ردود الفعل".
المساءلة الاجتماعية هي مفتاح استدامة المشاريع وهي أساس تغيير مسار التنمية ليصبح أكثر وقعاً وتأثيراً في حياة السكان المحليين.