الإصلاح الشامل لمادة دراسية إلزامية واحدة في المدارس الثانوية الرواندية، يهيئ الطلاب لفرص عمل حقيقية من خلال مواءمة التعلم في قاعات الدراسة مع الحياة العملية بعد التخرج.
تمثل أنظمة التعليم متاهة بيروقراطية متشابكة تضم عدداً لا يحصى من أصحاب المصلحة والأطراف المختلفة المتفاعلة. تتعثر الإصلاحات التربوية عادةً قبل أن تترسخ في القاعات الدراسية بسبب تعقيداتها. والمشكلة الأكثر شيوعاً هي التباين بين السياسات التعليمية الطموحة والقدرات الفعلية لأنظمة التعليم الوطنية المثقلة بالأعباء، وبخاصة في البلدان ذات الدخل المنخفض. وتعد الكثافة الكبيرة للطلاب في قاعات الدراسة ونقص الوسائل التعليمية وضعف تدريب المعلمين عقبات أمام الابتكار.
وفي الوقت نفسه، تواجه أعداد متزايدة من الشباب واقعاً جديداً ومتطلبات جديدة لسوق العمل بعد مغادرة المدرسة. وربما ينطبق ذلك على إفريقيا بصورة خاصة، ففي رواندا مثلاً، نصف السكان حالياً تحت الـ 19 عاماً، وهناك حاجة إلى ما يقدر بـ 2.6 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2035 لاستيعابهم. من الضروري تأهيل هؤلاء الشباب لخلق فرص عمل لأنفسهم ولغيرهم، ليس فقط لتحقيق النمو الاقتصادي الذي تأمله رواندا والعديد من البلدان الإفريقية خلال العقد المقبل، بل لوضعهم على طريق كسب الرزق بكرامة.
يسلط البنك الدولي الضوء على الحاجة إلى ظهور وظائف في قطاعات التصدير والتجارة والخدمات، لكن جزءاً كبيراً من العمالة سيبقى في القطاع غير الرسمي الضخم في القارة. حاول العديد من البلدان في جميع أنحاء إفريقيا تحويل نظم التعليم إلى التعليم التفاعلي الذي يركز على الطالب والذي يعطي الأولوية للاستعداد لسوق العمل وتنمية المهارات، بما فيها المهارات القابلة للتطبيق في مختلف المجالات مثل حل المشكلات والتفاوض والقدرة على الإبداع والثقافة المالية الشخصية.
كانت مؤسستنا المتخصصة بتوظيف الشباب وبناء المهارات إدجوكيت! (!Educate) مدركة هذه التحولات والتحديات في عام 2015 عندما طلبت منا الحكومة الرواندية المساعدة في إصلاح مادة ريادة الأعمال في المدارس. تعد دراسة ريادة الأعمال إلزامية في المرحلة الثانوية (السنوات الثلاث الأخيرة قبل انتقال الطلاب إلى التعليم العالي أو سوق العمل) في مدارس البلاد جميعها. وبصفتنا مستشارين تقنيين من ذوي الخبرة في تصميم المناهج الدراسية القائمة على التعلم العملي وليس النظري والحفظ عن ظهر قلب، تعاونّا مع "مجموعة التدريب على الاستعداد للعمل" أكازي كانوزي أكسيس (Akazi Kanoze Access) لدعم مجلس التعليم الأساسي في رواندا. وكان الهدف تزويد الطلاب بالمهارات التي تتماشى مع متطلبات سوق العمل على نحو أفضل.
واليوم، وصل هذا الإصلاح إلى كل مدرسة ثانوية في رواندا، ما أثّر إيجاباً في 165,000 طالب سنوياً. على سبيل المثال، أظهرت تجربة عشوائية منضبطة أن المعلمين الذين تلقوا تدريبنا كانوا أكثر استعداداً لاستخدام تقنيات التعليم التفاعلي الذي يركز على الطالب بنسبة 19%، ما أدى إلى تحسينات في المهارات الشخصية مثل المثابرة والصبر التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنجاح في مكان العمل. بالإضافة إلى ذلك، تضاعفت نسبة الالتحاق بالجامعة بين الطلاب جميعهم وازدادت بنسبة 167% بين الشابات. يرتبط ذلك بالنجاح الاقتصادي على المدى الطويل، إذ يكسب خريجو التعليم العالي في رواندا أكثر من خريجي التعليم الثانوي بنحو الثلث. وكانت الشابات اللاتي استخدم معلموهن هذه التربية الحديثة أكثر احتمالية بنسبة 16% في امتلاك مشروع تجاري، وأقل احتمالية بنسبة 12% أن يصنّفن ضمن فئة من لا يتلقى تعليماً ولا توظيفاً ولا تدريباً.
كيف استطاع هذا الإصلاح التغلب على العقبات التقليدية التي تحول دون تحقيق التوسع والاستدامة في نظام تعليمي معقد؟ تؤكد تجربتنا أهمية اتباع أسلوب تغيير النظم الذي يدعم التبنّي والتنفيذ في كل خطوة. في حالتنا، استهدف الإصلاح مادة دراسية واحدة، لكن النجاح كان يتطلب إجراء تغيير متزامن في 3 أنظمة مختلفة ومترابطة في آنٍ واحد، وهي المناهج الدراسية والسياسات المتعلقة بها، وتدريب المعلمين والإدارة، والتقييم. شملت التغييرات الوسائل التعليمية، وتدريب المعلمين في أثناء عملهم لدعم التطوير المهني، وممارسات تقييم عمل الطلاب، والقيادة المدرسية، والتفتيش المدرسي.
استُخدمت الصورة بإذن من مؤسسة إدجوكيت!
استراتيجية من 3 مراحل
ركز الجزء الأول من استراتيجيتنا المكونة من 3 مراحل على تغيير السياسات وإصلاح المناهج الدراسية. بالتعاون مع مجلس التعليم في رواندا وكبار ممثلي المعلمين ومجموعة أكازي كانوزي أكسيس، وضعنا إطار عمل لمادة دراسية تفاعلية تركز على الطالب وتدعم تنمية المهارات مثل التفكير النقدي وحل المشكلات والتواصل. ركز المنهاج الأصلي على المعرفة النظرية وتعريف المفاهيم مثل ريادة الأعمال والإبداع والابتكار، أما المنهاج المعدل فيعطي الأولوية للتعلم التفاعلي، إذ يستكشف الطلاب هذه المفاهيم من خلال دراسات الحالة والتطبيق العملي؛ حيث يجرون أبحاث السوق، وتطوير المنتجات، وتخطيط الأعمال، ويمكنهم حتى بدء أعمال تجارية حقيقية من خلال نادٍ للأعمال.
تنتهي الإصلاحات التعليمية عادةً بتغيير المناهج الدراسية، ولكننا واصلنا العمل. ركزت المرحلة الثانية على تدريب المعلمين والإدارة. قدمنا نموذجاً لتدريب المعلمين مدته عامان يدمج منهجية التعليم التي تركز على الطالب، ويدعى مختبر المهارات (Skills Lab). تركز هذه الأساليب التربوية على تقنيات التعليم التفاعلي مثل المناقشة الجماعية والبحث والمناظرة ولعب الأدوار، وهي تختلف عن أسلوب شرح المعلم والكتابة على اللوح التقليدي. في السنوات الست التي تلت إصلاح المناهج الدراسية، دربنا معلمي ريادة الأعمال في ثلث المدارس الثانوية في رواندا. والآن، وبفضل استثمار كبير من فاعلة الخير ماكينزي سكوت، يتوسع نموذج تدريب المعلمين ليشمل المدارس الثانوية جميعها في البلاد.
تضمنت المرحلة الثالثة والأخيرة إنشاء عمليات تشجع على إحداث تأثير مستدام. إن تحويل تركيز المناهج الدراسية المعدلة إلى تطوير المهارات وتدريب المعلمين ساعد على تحسين طرق التدريس، لكن اعتماد المناهج على المدى الطويل يتطلب مواءمة التغييرات مع أنظمة تقييم أداء الطلاب. ومن دون هذه المواءمة، من المرجح أن يعود المعلمون إلى الأساليب التربوية التقليدية التي تعد الطلاب للتقييمات القائمة على الحفظ. منذ المراحل الأولى للإصلاح، عملت مؤسسة إدجوكيت! مع شركاء حكوميين لاستكشاف كيفية دعم التقييم القائم على المشاريع لهذه المواءمة، ما أدى إلى وضع نظام تقييم وطني شامل وتطبيقه. يهدف التعاون إلى تطوير نظام يمكن أن تسهم فيه علامات المشروع في درجات الامتحانات الوطنية للطلاب، ما يحفز اتباع أساليب تربوية تفاعلية ويتيح المزيد من الفرص للطلاب لتطبيق المهارات العملية.
سيكتمل إصلاحنا الشامل المكون من 3 مراحل بحلول نهاية عام 2025. واجهنا خلال هذه العملية تحديات أربكتنا لكنها قدمت لنا أفكاراً مفيدة نعتقد أنها يمكن أن تساعد واضعي السياسات والحكومات على النجاح في تغيير الأنظمة جذرياً، خاصة في إفريقيا.
1. تضييق نطاق الإصلاح. أحد الدروس المستفادة الأساسية هو دعوة غير تقليدية لفعل المزيد من أجل القليل. تؤدي محاولة إصلاح المواد الدراسية كلها والقاعات الدراسية كلها في كثير من الأحيان إلى إصلاح "تدريجي"، حيث لا تتحقق سوى تغييرات صغيرة على مستوى قاعات الدراسة على الرغم من الإسهامات الكبيرة.
إن تجربتنا السابقة في أوغندا، حيث تعاونّا مع المدارس مباشرةً بدلاً من العمل على المستوى الوطني، قد زودتنا بالمعلومات اللازمة لاستراتيجيتنا في رواندا. أظهرت تجربة عشوائية منضبطة في أوغندا أن مادة واحدة تتعلق بالتوظيف يمكن أن تؤثر بدرجة كبيرة في النتائج الاقتصادية والحياتية. وعلى وجه التحديد، حصل المشاركون في نموذج مؤسسة إدجوكيت! الذين بدؤوا أعمالهم التجارية وهم في مرحلة الدراسة على دخل يقارب ضعف دخل أقرانهم قبل التخرج في المدرسة الثانوية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك زيادة بنسبة 25% في الالتحاق بالجامعة بين النساء بعد 4 سنوات.
في شراكتنا مع الحكومة الرواندية، حافظنا على تركيزنا على ضبط بيئة العمل بأكملها حول مادة دراسية إلزامية واحدة لضمان تأثير مستدام. وبدعم من الأدلة المستقاة من التجارب المنضبطة باستخدام عينات عشوائية، نعتقد أن هذا النهج يحقق نتائج مجدية بمعدل أسرع وتكلفة أقل من محاولة التعامل مع المواد كلها في وقت واحد.
2. وضع هدف مشترك ومواءمة الجميع في النظام حوله. تزيد الأنظمة والعمليات البيروقراطية المعقدة من صعوبة هذه المهمة؛ حيث إن الإدارات المختلفة لديها أولويات وجداول أعمال مختلفة. ففي حين تحاول هيئة المناهج الدراسية إصلاح عملية التعلم لتشمل المشاريع التي تبني المهارات، قد تواصل هيئة الامتحانات التركيز على أساليب التقييم التقليدية.
في حالتنا، كان من الضروري التعاون مع الوكالات الحكومية مثل مجلس التعليم الأساسي في رواندا والهيئة الوطنية للامتحانات والتفتيش المدرسي، بالإضافة إلى السلطات التعليمية المحلية والمعلمين، لتحديد هدف مركزي والاتفاق عليه وتحديد دور كُل طرف. شجع ذلك المعنيين جميعهم على المشاركة في عملية التصميم المشتركة التي عززت الشراكة والالتزام المشترك.
حرصنا في البداية على ضمان إتاحة الفرصة للأطراف التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من تنفيذ الإصلاح للتعبير عن أهدافها واهتماماتها خلال المناقشات المختلفة مثل قيادات المدارس والمعلمين ومسؤولي التعليم الوطني. فقد أعربت القيادات، على سبيل المثال، عن الحاجة إلى جداول زمنية عملية لا ترهق المعلمين، في حين أكد مسؤولو التعليم الوطني أهمية دمج مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات في المناهج الدراسية.
3. الاستماع إلى المشاركين والتكيف في أثناء التنفيذ. الاستدامة هي الجزء الأصعب في تغيير الأنظمة لأنها تتطلب تكيّفاً والتزاماً مستمرين بعد التنفيذ الأولي.
توصلنا في مؤسسة إدجوكيت! إلى أن التجريب والتكرار المستمر مع المعلمين ومسؤولي التعليم والطلاب يمكن أن يحدد بسرعة المجالات التي تحتاج إلى تحسين. فمثلاً عندما سلط المعلمون الضوء على الحاجة إلى مجموعة متنوعة من دروس نموذج "مختبر المهارات" لتلبية احتياجات المتعلمين وإنجاز مشاريع متنوعة داخل القاعات الدراسية، تمكّنا من إضافة المزيد من الدروس النموذجية إلى مواد المناهج الدراسية التي وزعتها الحكومة. وعملنا على إنشاء حركة إصلاحية يقودها المعلمون، ويتصدرها معلمون محليون ذوو خبرة في مجال التربية والتعليم، والتي تعزز نهجاً أساسياً للتغيير التربوي. يدعم نموذج مؤسسة إدجوكيت! لتدريب المعلمين الذي يستمر مدة عامين هذا المسعى؛ فالمدربون هم زملاء المعلمين الذين يعملون في قاعات الدراسة يومياً، وليسوا قادة إقليميين أو خبراء خارجيين، كما أن غالبية عمليات تطوير المعلمين تجري في المدارس وليس في أماكن تدريب بعيدة.
كما دفعتنا ملاحظات المعلمين إلى دعم الحكومة في وضع مبادئ توجيهية جديدة للتقييم. من الآن فصاعداً، سيشمل التقييم مشاريع صفية مثل تلك الموجودة في مختبر المهارات بالإضافة إلى نظام الامتحانات الحالي، ما يمنح المعلمين حافزاً أكبر لتكليف الطلاب بها. يُمكّن نظام البيانات المعروف باسم نظام معلومات إدارة التقييم الشامل (CAMIS) المعلمين من تتبع درجات الطلاب وفقاً للمبادئ التوجيهية الجديدة ويمنح مسؤولي التعليم فكرة عن مكاسب أو فجوات التعلم في أنحاء البلاد جميعها.
يكشف التقدم المحرز في رواندا عن فوائد بذل المزيد من الجهد في سبيل القليل؛ يمكن أن يكون اتباع أسلوب أضيق نطاقاً ولكنه متعدد المستويات للتغيير أكثر فعالية من الجهود التي تحاول عمل كل شيء دفعة واحدة. يجب على واضعي السياسات والمؤسسات الذين يسيرون على طريق إصلاح التعليم أن يدرسوا الأطراف المتفاعلة في النظام جميعها وما يربط بينها، والتأكد من أن الأطراف المختلفة جميعها متفقة على هدف واحد. إن تبسيط الهدف الذي نرغب في تحقيقه وتعزيز بيئة التعلم المستمر يمنحنا فرصة حقيقية لإحداث التغيير المستدام في الأنظمة الذي نطمح إليه جميعاً.