لقد استلهمنا فكرة تأسيس برنامج زمالة آسبن فيرست موفرز (Aspen First Movers Fellowship) بعد أن ظلّت الاجتماعات مع خبراء تطوير القيادة على مدار عدة سنوات تطرح السؤالين نفسيهما، من هم القادة الذين نحتاج إليهم لضمان أن تحقق الأعمال التجارية إمكاناتها في إحداث تأثير إيجابي في الفئات المستهدفة جميعها، مثل الموظفين والعملاء والموردين وأفراد المجتمع والمساهمين؟ وكيف يمكننا تنمية هذا النوع من القادة؟
أطلقنا البرنامج رسمياً في عام 2009 للمبتكرين في مجال الأعمال الذين يتطلعون إلى إحداث تغيير إيجابي في شركاتهم. كنا نعلم أنه يمكننا التعلم من خبراتهم، وأننا نستطيع استخدام معرفتنا المؤسسية الخاصة بالقيادة القائمة على القيم لمساعدتهم على تطوير القدرات والشجاعة اللازمة لتحقيق نتائج تخدم الأعمال والمجتمع.
قدمت عبر 15 عاماً من حياة البرنامج الإرشاد والتوجيه لما يقرب من 300 مبتكر ممن يعملون في شركات كبيرة ويريدون أن يقدّم عملهم قيمة اقتصادية لشركاتهم والوصول إلى عالم أكثر صحة وعدلاً واستدامة، فهم يرون فرصاً لتحقيق قيمة اقتصادية للشركات وتأثيراً إيجابياً على الناس والكوكب قد يغفل عنها الآخرون أو يختارون تجاهلها. في كتابي "اجعل عملك ذا أهمية: كيف تحدث تغييراً إيجابياً في شركتك وتعطي معنى لحياتك المهنية"، أردت مشاركة قصصهم الرائعة والدروس التي تعلمناها، وتقديم الاستراتيجيات التي لمسنا فعاليتها. أعتقد أن الآلاف من الموظفين يرغبون في إحداث هذا النوع من التغيير في شركاتهم لتحقيق معنى أكبر لحياتهم المهنية.
كثيراً ما أسمع رواد الأعمال الاجتماعيين الداخليين في الشركات يقولون إنهم يعملون بمفردهم، وقد انتشرت سردية مفادها أنهم يعملون مثل الذئاب المنفردة. من المؤكد أنه عندما ترى فرصة جديدة لخلق قيمة في شركتك بمعالجة مشكلة اجتماعية أو بيئية شائكة، فلن يشاركك الكثير رؤيتك، في البداية على الأقل.
لذلك في المراحل المبكرة عندما لا تدرك وجود آخرين في شركتك مستعدين لمساعدتك في قيادة التغيير، قد تشعر بالوحدة إلى حد بعيد. لكن العديد من رواد الأعمال الداخليين اكتشفوا أنه إذا تواصلت مع زملائك وطلبت آراءهم وأثرت رغبتهم في حل التحديات الكبيرة، فسيرغب العديد منهم في المشاركة. يكتشف رواد الأعمال الداخليون أيضاً أن هؤلاء الحلفاء يشاركون بخبرات مهمة ووجهات نظر جديدة تؤدي إلى نتائج أفضل.
يمكننا معرفة المزيد حول هذا النوع من التعاون من الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال إيمي إدمونسون، التي تدرس ظاهرة تسميها "التعاون في أثناء العمل". وهي تقصد بذلك، كما أوضحت في حديثها في إحدى ندوات تيد سالون (TED Salon)، "التنسيق والتعاون مع موظفين من أقسام وخبرات ومناطق مختلفة لإنجاز العمل".
وذلك يعبر عن المواقف التي يواجهها العديد من رواد الأعمال الاجتماعيين الداخليين في الشركات، إذ لا توجد فرق متخصصة بمعالجة المشكلات الصعبة التي يرغبون في حلها، وعليهم التعاون مع مختلف الأقسام والتخصصات، وتحديد الخبرات التي يحتاجون إليها، وتقديم خبراتهم الخاصة. اتبع زملاء برنامج فيرست موفرز أساليب مختلفة لإشراك الآخرين، كما توضح الأمثلة الآتية.
تلبية احتياجات السوق
يتطلب إطعام العدد المتنامي لسكان العالم زيادة كبيرة في إنتاج المحاصيل، لكن التحديات التي يواجهها صغار المزارعين حول العالم تحول دون قدرتهم على زيادة غلة محاصيلهم وتحسين سبل عيشهم. قبل عدة سنوات، تساءل جوش هينريتيغ الذي كان يعمل في مجال الاستدامة في شركة مايكروسوفت، وزميله الذي يعمل في مجال الأبحاث، عن طرق تطبيق خبرة مايكروسوفت في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية لمواجهة تلك التحديات. وبسبب النقص الحاد في المياه والتلوث والظروف المناخية التي لا يمكن التنبؤ بها، احتاج هؤلاء المزارعون إلى بيانات تمكنهم من زراعة أراضيهم بطرق أكثر فعالية. على الرغم من وجود تقنيات التصوير والاستشعار بالطائرات من دون طيار لجمع البيانات المفيدة التي تساعد المزارعين على استخدام أراضيهم بطرق أكثر إنتاجية وربحية، كانت تكلفة هذه التكنولوجيا بعيدة عن متناولهم. علاوة على ذلك، لم تكن لدى المزارعين في العديد من الأماكن إمكانية الوصول إلى الإنترنت أو لم يكونوا على دراية كافية بالتكنولوجيا للاستفادة من هذه الأدوات.
لم تكن لدى جوش وزميله الخبرات اللازمة للتغلب على هذه التحديات، لكنهما اكتشفا أن مهندساً موهوباً في شركة مايكروسوفت يُدعى رانفير شاندرا كان يبحث في استخدامات التكنولوجيا الرقمية في الزراعة، ورأيا أنها فرصة مثالية للتعاون معه.
على الرغم من أن جوش لم يوظف خبرته الهندسية في هذا التحدي، كان يعلم أن بإمكانه أداء دور تعاوني حاسم، فتعاون مع فرق متنوعة مثل فرق الاستدامة والبحوث والهندسة وشؤون الشركات، ووضع خطة مشروع مشتركة لعرضها على الإدارة وحصل على استثمار أولي صغير لتشغيل مشروع تجريبي لمرحلة أولية. تمكن رانفير شاندرا وزملاؤه بفضل هذا الدعم من توظيف تكنولوجيا فعالة من حيث التكلفة ساعدت المزارعين على اتخاذ قرارات أفضل لزيادة غلة محاصيلهم وتقليل استهلاك الموارد الطبيعية.
توصل الفريق في أحد الحلول إلى طريقة للاستفادة من الترددات غير المستخدمة بين محطات التلفاز المعروفة باسم الفضاء الأبيض المتوافرة بكثرة في المناطق الريفية، لنقل البيانات التي تُجمع من أجهزة الاستشعار الموجودة على الأرض إلى السحابة الإلكترونية. باستخدام هذه البيانات، بالإضافة إلى خوارزميات قوية، أنشؤوا خرائط حرارية يمكن للمزارعين استخدامها للمساعدة في التنبؤ بأنماط الطقس وظروف التربة. أتاحت هذه المعلومات للمزارعين اتخاذ قرارات مستندة إلى المعلومات اللازمة مثل معرفة مواعيد استخدام الأسمدة التي تعمل بصورة أفضل في التربة الرطبة.
ما بدأ محادثة بين الزملاء وتعاوناً مع أحد الخبراء الداخليين تطور إلى برنامج تجريبي أصبح برنامجاً رائداً في مايكروسوفت يسمى فارم بيتس (FarmBeats)، وهو جزء من جهود الشركة لتمكين الزراعة المستندة إلى البيانات، وهو الآن جزء من برنامج "الذكاء الاصطناعي من أجل الأرض" (AI for Earth)، وهو برنامج ساعد جوش في تأسيسه في مايكروسوفت عام 2017، ويقدم المنح والدعم الفني للأفراد والمؤسسات التي تستخدم أدوات مايكروسوفت السحابية وأدوات الذكاء الاصطناعي لحل المشكلات البيئية. ما يزال هناك الكثير من العمل الواجب إنجازه، مثل إتاحة هذه التطبيقات ذات الإمكانات الهائلة بأسعار معقولة لأفقر المزارعين حول العالم. كتب بيل غيتس في هذا الصدد: "عندما يفكر معظم الناس في التكنولوجيا الرقمية الرائدة، لا تتبادر إلى أذهانهم مجسات التربة، لكن المزارع الذي يعرف درجة الحرارة ومستوى الأس الهيدروجيني والرطوبة في تربته يمكنه أن يتخذ جميع القرارات المستندة إلى البيانات اللازمة التي توفر المال وتعزز المحصول".
اعتبر نفسك محفزاً
يمثل وكلاء التغيير المؤسسي الشرارة التي تطلق رد الفعل المؤسسي، يتيح لك هذا الدور المحفز إشراك الآخرين في "طاولة حل المشكلات"، وهذا بالضبط ما فعله جوش هنريتيغ في شركة مايكروسوفت، إذ لم يكن مهندساً، وكان يعلم أن هناك طلباً كبيراً على المهندسين في شركته، بالإضافة إلى أنه كان مشغولاً بعمله للغاية، ولكنه استقطب اهتمام المواهب التي تتمتع بمهارات عالية ومطلوبة من خلال إتاحة الفرصة للعمل على حل مشكلة ذات أهمية حقيقية في العالم. يقول هنريتيغ: "يحب المهندسون حل المشكلات، واتضح أن الكثير منهم يحبون حل المشكلات لدرجة أنهم عندما لا يعملون في مهمة محددة، يكونون على استعداد لتخصيص بعض من وقتهم لمعالجة مشكلات أخرى كبيرة. ثمة هدف أسمى للمهندسين الذين يريدون أن يكونوا جزءاً من التغيير الإيجابي".
من خلال تشكيل فريق لحل المشكلات، أظهر جوش ما يسميه خبيرا القيادة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) ديبورا آنكونا وهال غريغرسن، "القيادة القائمة على التحدي". تجذب القيادة القائمة على التحدي الذين يمتلكون الخبرة والإبداع والرغبة في حل المشكلات، على عكس النماذج التقليدية للقيادة التي يُحفز فيها القادة بدافع السلطة أو المكانة. كتب آنكونا وغريغرسن أن هؤلاء القادة "يتفوقون في تصميم عمل الآخرين وتوجيهه، لأن خبرتهم تمكنهم من اكتشاف فرص الابتكار بطريقة لا يمكنهم تحقيقها بالعمل بمفردهم".
إن الدرس الرئيسي لجميع رواد الأعمال الاجتماعيين الداخليين هو إمكانية توافر القدرة والاهتمام داخل شركتك لحل المشكلات التي تهمك أكثر مما تظن في البداية، وعندما تستخدم معرفتك المؤسسية للعثور على أصحاب الخبرة المطلوبة وتدعوهم للمساعدة في حل المشكلة، ستحظى داخل شركتك بفرصة أفضل بكثير للتأثير في التغيير.